قراءة نقدية في ( أناشيد الرائي) للأديب د. وليد جاسم الزبيدي..!

د. غازي البدري | واسط

يسعدني ويسرني أن أكتب في حقِّ مجموعة الشاعر د. وليد جاسم الزبيديّ( أناشيد الرائي) بعد قراءتها الخاطفة، وحقًا أذهلتني لغته العالية التي جال بها في مجموعته هذه، وشدني انتباهه لأدق التفاصيل والرموز التي استعارها ومكنها في خياله.

  لقد ورث الزبيديّ من القوالب الشعرية المتداولة.. أوالإطارات.. قالب العمود، وقالب التفعيلة، وقالب قصيدة النثر، وقد جدد الزبيديّ  في عمود الشعر تجديد المحافظ، وطور المعاني، والأغراض، وحافظ على الأوزان والقوافي ولم يكن مبتذلًا فلم يقف عند شيء لا يهتز له، وتجيش فيه عواطف، ويتفاعل مع حسّه- كما يقول في قصيدته( هات القوافي):

لمّا رأتني شعَّ مبسمُها حُللْ   وتراقصتْ أنفاسُها وعلى وجلْ

فكتبْتُ شعرًا لا يُشابهُهُ غَزَلْ     من حُسْنِ طلعتِها كَوَحْيِّ قدْ نزَلْ

  ويُعدُّ الزبيديّ شاعرًا وطنيًّا من- الطراز الأول- إن صحّ التعبير، فقد كان لسانًا ذربًا يدافع عن آمال شعبه، وطموح أمته، كان صريحًا لا تأخذه في الحقّ لومة لائم، فيقول:

لا أنتسبُ إلى أحدِ

لا أنتسبُ إلى جسدِ

 قلبي بلدٌ للحُريّةْ

ربيعٌ يُولدُ، يقرأُ، يكتُبُ

للبشريّةْ

لقد تكلم الزبيديّ في يوم سكت القوم، وذب عن شعبه يوم لا مدافع عنه، لقد حارب الزبيديّ الاستبداد، والطغيان اللذين حلا بهذا البلد، ولعل ذلك يكون واضحًا في أجلى صوره :

فيهِ ابتُلينا ومُذْ عهدٍ لمملكةٍ   فيهِ المليكُ يُدارُ كأيما  لُعَبِ

فيهِ المليكُ وأشباهٌ حكومتُهُ    مِثلَ القرودِ تُحاكي ثَمَّ لم تثِبِ

للعارِفينَ إلى حُكمِ لسمسرةٍ حتَّى  انتهينا لعصرٍ الخوفِ والكَذِبِ

  وتلحظ الزبيديّ يناجي نفسه بلغة واضحة وصادقة وطاهرة، فالذات المجتهدة شفافة تلتقط كل صغيرة وكبيرة، والقصيدة متعددة الأغراض ولكنها محكومة بنوع من المنطق الداخلي الذي يجمع هذا التنوع في وحدة متماسكة، فيقول:

اعطني اليوم وخُذْ غدا       إنّني لم أرجُ فيك السندا

إنّ مَن يزرع ينل من جهدهِ   بيد أنّي عارفٌ لن أحصدا

  ونلحظ في المقاطع الشعرية أنّه ذو إحساسٍ حاد بالصوت في معنى الكلمة حينًا، وفي لفظها حينًا آخر.. فهو يسمع هسيس ندى وأنين النّاي، و همس الورد:

لعينيكِ

هسيسُ ندى، ولفحةُ بردْ

أنينُ  النَّاي، وهمسُ الوردْ

   وإنّ الميزة الكبرى في شعر الزبيديّ تكمن في رصانة مبانيه وقوالبه الشعرية، وأنّ ديباجته في غاية الصفاء، مع بيان في منتهى الاشراق، وألفاظ في أعلى الجزالة:

الجهلُ يسبِقُ خُطوَ العلمِ والأدبِ  والنُّورُ يُحبَسُ في زنزانةِ الظُّلَمِ

الجهلُ سُقْمٌ إذا ما حطَّ في بدَنٍ  كالنَّهْرِ يسقِي سوادَ الأرضِ والدِّيَمِ

يبني سرابًا من الأوهامِ تسْكُنها      سُودُ الأفاعي تُغذيهِ بألفِ فَمِ

   وعلى الرغم من بساطته المعنوية فقد استعمل ألفاظًا عاميّة كلفظة ( شروكي) وهي من الألفاظ العامية المبتذلة،  تستعمل للسخرية استلها الزبيديّ من اللغة الدارجة وليست هي الوحيدة في شعره، وإنما هو جريء في لجوئه للعامية يأخذ بعض ألفاظها المتداولة فقد استعمل( عنَّاي اجيت لدارك… جيت اشتكي من نارك)، و( خاصرتي)، و( البورصة).

 ونلحظ في شعر الزبيديّ استعماله الصور المجازية المتكلفة، ولكنه على كل حال قد حمل رسالة الشعر في وطنه بلسان فصيح، وقلب إنسانيّ. وله كثير من حسناته الكثيرة ما يشفع له ببعض المآخذ الفنية التي تؤخذ عليه.

  ويبدو واضحًا تأثر الزبيديّ بالنسق القرآني في قوله:( يسوّد فهو كظيم) ، و( فما إن إفل عادَ إليّ)، و( فلمّا أفلت)، و( الطير صافات تدور)، و( وليس كمِثله شأن).

  وتجري أغلب قصائد الزبيديّ محاكاة للموروث، فالمحاكاة كثيرًا ما تجيء متماثلة في المناسبة، مع بعض التغيير، وفي الصور، من تشبيه واستعارة في الوزن والقافية بطبيعة الحال، ولا يجد قارئه كبير عناء في ارجاع بعض قصائده إلى مصادرها في التراث، وإعادة أغلب صوره إلى الشعراء القدامى:

جاءت تُغنِّيكِ بل تستنطِقُ العَتَبا..  واستوقفتْ طَلَاً ما عاد مكتئبا

نورُ الروابي وأصداءٌ بها حملتْ  بعضَ ابتسامٍ وذِكرى واشتعالٍ صِبا

 ومهما قيل في شعره فشعره جاء صورة صادقة لحياة الشعب والأمة. استطاع الزبيديّ أن يسلط عدسته الدقيقة، لترسم أوصاب الشعب، ومآسيه، وما كان يعتوره من فقر مدقع، وجهل دامس، ومرض عضال، ولم يكن الزبيدي مصورا أمراض الشعب، ومعضلاته فحسب، بل استطاع ذلك أن يحارب الظلم، والاستبداد بشتى صوره، وأشكاله وألوانه، وعبَّر بكلِّ وضوح ما كان يجترئ عليه الحكام، من هدر لحقوق الشعب، وسيطرة على أمواله، وموارده، فئة قليلة حاكمة تنعم بالخيرات، وملايين يتضورون تحت رحمة الاستبداد، والمرض، والجهل، نعم كان الزبيدي مصورا كل هذه الحوادث، سواء أكانت اجتماعية، أم سياسية، بإسلوبه الواضح السلس يفهمه الشعب كل الشعب، ويدرك معانيه. يقول:

الجهلُ أطبقَ ليلًا في مضارِبِنا      حتّى أرانا كذئبٍ ساحَ بالغَنمِ

هُمْ أعملوهُ أصولًا طيَّ مَطحَنةٍ   كُلّ الرِّغابِ وسدوا السَّمعَ بالصَّممِ

هُمْ يحكمونَ باسم اللهِ في أممٍ    حتّى تعرَّت خُيُوطَ الرُّقطِ في أممِ

  ونلمس في شعر الزبيديّ ظاهرة شعر الحب أو التغزل بالحبيبة نراها تبرز بروزا واضحا . يقول:

هذه الرقصةُ لي ،

هل تسمحين

يحضنُ الجوري عفاف الياسمين..

ويدي تلتفُّ غُصنًا يتثنى

فوق خُصْرٍ بدلال وحنينْ..

في بحارِ المغرمينَ

وعيونٌ ترسمُ الشوقَ جناحًا بيننا

والحقّ أنّ للزبيديّ أسلوبه الخاص في نسج الشعر الذي يتميز بألفاظه، وطريقة تكوين الجمل، والعبارات، وفي تضمين المرددات الشعبية، واستعمال الأوزان ثم محاولة ايجاد المعادل الموضوعي.

  وخلاصة القول فشعر الزبيدي تعبير عن ثقافته، وقد عبَّر به بكل أمانة واخلاص تجاه أمته، وشعبه بإسلوب اختاره لنفسه .    

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى