أدب

رسالة من العالم الآخر

بقلم: متولي بصل – مصر
أوصيت كتابة أنني عندما أموت أن يضعوا قلما وبعض الأوراق في قبري! حتى أكتب كل ما يمر بي وما يحدث لي داخل القبر من خير أو شر .
لم يكن الموت محببا إلى قلبي، بل كانت مجرد فكرة كتبتها في وصية؛ وذكرتها لزوجتي. فكرة تملكتني بسبب كثرة من يموتون حولي في زمن الوباء والبلاء! لكن يبدو أنها راقت لها؛ وبطريقة سحرية بدّلت الوصية؛ فبدلا من (قررت عندما أموت….) جعلتها ( قررت أن أموت .. .. ) وبالفعل وضعت لي السم في طاجن البامية الذي أحبه؛ ووضعت خبرة الطهي التي اكتسبتها طيلة السنوات الماضية في هذا الطاجن؛ حتى إنني كدت آكل أصابعي، وأنا ألتهم البامية المسمومة!
الجميع يعتقدون أنني انتحرت من أجل أن أقوم بهذه التجربة الرهيبة، أسمعهم الآن وهم يصفونني بالمجنون؛ ويتهمونني بأنني وصمت العائلة كلها بالعار ؛ ها هو ابن خالي الذي يكرهني بشدة؛ ودون سبب، يقول ( الكلب عاش ناكرا ؛ ومات كافرا !) أما ابن عمتي الطيب، فسأل من حوله ( ماذا سنفعل في وصيته؛ الوصية يجب أن تنفذ على حد علمي) ردت عليه أختي الكبرى قائلة بغضب واضح ( معقول هذا الكلام! كفاية فضائح، سيرتنا أصبحت على كل لسان؛ ادفنوه، واقفلوا عليه باب القبر بالضبة والمفتاح، الله يسامحه! جرّسنا وفضحنا.)أما أخي الأصغر الذي نشبت بيني وبينه العداوة والبغضاء بسبب الميراث، فقال ( لا تجوز الصلاة على المنتحر؛ قاتل نفسه – يا جماعة – كافر؛ لا يغسّل؛ ولا يصلى عليه.)
لم يوافق أحد منهم على عودة جثماني من المستشفى إلى البيت! اتفقوا جميعاً على أن يذهبوا به مباشرة إلى القبر! وفي القبر لم أجد شيئاً مما أوصيت به! لم يحترموا وصيتي! ابني الأكبر أصر على أن يحمل الجثمان معهم وهم ينزلون به إلى اللحد؛ وغافل الجميع؛ ودس شيئاً في طيات الكفن، لم يلاحظه أحد؛ وخرجوا؛ وأغلقوا الباب بإحكام! وكأنهم يخشون خروجي!
أخرجت ما وضعه ابني، وأخفاه في الكفن؛ فإذا به عبارة عن دفتر صغير؛ وقلم؛!وهاتفي النقال! ابني حبيبي نفذ الوصية؛ بسعادة كبيرة ضغطت مفتاح التشغيل؛ فأضاءت شاشة الهاتف الفضية؛ فاستنار المكان حولي؛ نزعت قماش الكفن الملفوف حول جسدي؛ وتربعت في مكاني؛ فوجئت أن القبر ليس حفرة مخيفة كما كنت أتخيل! بل وجدته يشبه تماما حجرة مكتبي! والأعجب من ذلك أن التكييف كان موجودا؛ وكان يعمل لدرجة أنني شعرت بالبرد يتسلل إلى جسدي؛ مما جعلني أتساءل إذا كنت حقا ميتا أم أن كل هذا مجرد كابوس رهيب! طلبت زوجتي على الهاتف؛ فاجأني صوت ابنتي وهي تسألني بلهفة واضحة ونبرة صوت غاضبة:
– بابا! أين أنت، لماذا لم تُحضر المبلغ الذي طلبته منك! لقد طردتني سكرتيرة المستر لأنني لم أدفع فلوس الدرس؛ الامتحان غدا؛ الله يسامحك يا بابا ضيَّعت مستقبلي!
ثم سمعت صوت زوجتي؛ وشعرت بأنفاسها الساخنة تلفح وجهي! وهي تقول باستفزاز كعادتها:
– ثلاثة أيام بلياليها وحضرتك ناسينا! إذا كنت مرتاحا عندك؛ وناوي تطوِّل؛ أرسل لنا مصروف البيت؛ الأكل خلص؛ والأولاد محتاجين مصروف؛ ومواصلات؛ ودروس!
أصابني الذهول، وتساءلت في حيرة:
– إذا كانت زوجتي تحدثني بهذه الطريقة، ولا تعلم وفاتي؛ فمن الذي وضع لي السم في البامية؟! مؤكد أنها أختي الكبرى؛ إنها تكرهني، ولم لا وقد طردتها مضطرا بعد المشاجرة التي وقعت بينها وبين زوجتي مؤخرا؛ طردتها حتى لا تتفاقم الأمور، ويحل الخراب على بيتي! وربما يكون الفاعل هو أخي الأصغر فما دار بيني وبينه أثناء تقسيم الميراث أشعل نارا من الصعب جدا إطفاؤها!
في خضم هذه الحيرة سمعت جلبة خلف باب القبر؛ فأطفأت الهاتف؛ وعدت إلى داخل الكفن بسرعة؛ وتمددت كما كنت، شعرت بدبيب أقدام كثيرة من حولي؛ وانحنى اثنان نحوي؛ أحدهما يقيس النبض؛ والآخر يضغط بقوة على صدري، و .. .. ؛ وسمعت صوتا – تشي نبرة صوته بأنه ضابط شرطة – يقول:
– يبدو أنه على هذه الحالة منذ ثلاثة أيام! هل مات؟!
– لا، لم يمت، لكن نبضه ضعيف جدا!
– معقول! مرت عليه ثلاثة أيام؛ ولا يزال على قيد الحياة؟!
– قلبه قوي؛ ولديه إصرار على أن يعيش! شخص آخر في نفس هذه الظروف مؤكد كان سيموت في أقل من هذه المدة!
– لكن كيف عرفتم أنه هنا في المكتب ؟!
كان الضابط يوجه سؤاله لبعض الجيران الذين دخلوا مع أفراد الشرطة، ورجال الإسعاف؛ رد أحدهم قائلا:
– الأستاذ هشام المحامي اعتاد هو وأسرته كل خميس على أن تذهب زوجته وأولاده إلى شقتهم في رأس البر؛ و بعد أن ينهي عمله؛ يلحق بهم؛ وتخلو الشقة يومي الجمعة والسبت، لكن هذه المرة سمعنا أصواتا؛ وطرقات غريبة تأتي من الداخل ؛ فظننا أن لصوصا يحاولون سرقة ونهب شقة الأستاذ؛ واتصلنا فورا بالشرطة.
سأل الضابط هذه المرة الطبيب الذي كان يسعفني:
– هل هي غيبوبة سكر؟
– لا؛ سعادتك هو ليس مريض سكر، ولكن يبدو أنه فقد توازنه؛ وسقط على الأرض؛ فاصطدمت رأسه؛ وفقد الوعي! إنها إمور تحدث كثيرا لمن كان في مثل سنه !
رغم أنني كنت في حالة يرثى لها؛ واضطر رجال الإسعاف إلى نقلي إلى المستشفى؛ إلا أنني كنت قد بدأت أشعر بما يدور حولي؛ كل الوجوه حولي غريبة؛ بحثت بينهم عن وجه ٍ واحد ٍ أعرفه فلم أجد! أين أولادي؛ وأين زوجتي؛ أين إخوتي؟! لولا بلاغ الجيران ما أحس أحد بوجودي! ربما لو بقيت في هذا المكان شهورا ما أحس بي أحد منهم حتى تتعفن جثتي وتزكمهم الرائحة! بكيت كثيرا عندما سمعت ممرضة تسأل زميلاتها في دهشة:
– أليس له أقارب؟!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى