أدب

قراءة في رواية “المنتهكون” للكاتبة السودانية سمية هندوسة

بقلم: عفيف قاووق – ناقد من لبنان
“المنتهكون” للكاتبة السودانية سميّة هندوسة صدرت العام 2020 عن دار نشر رفيقي للطباعة والنشر، تمتاز هذه الرواية إلى حدٍ كبير بالواقعيّة حيث تُبرز المعاناة النفسيّة في دواخل الإنسان وأيضاً معاناته مع الأهل والأصدقاء.


تدور أحداث الرواية في مجتمعٍ مُهمَّش أقرب إلى التخلف لما يعتريه من فقرٍ وجهلٍ في آنٍ معاً. وهذا ما يجعل إزدواجية المعايير الأخلاقية والإنسانية تطفو على السطح. ناهيك عن ما نلحظه من تدخلٍ في حياة الفرد واختياراته نظراً لأن مجتمع هذه الرواية أقرب إلى المجتمع الريفي حيث أنّ الكُلّ يعرف الكُلّ ولا مكان للخصوصيّة فيه.
اعتمدت الكاتبة في روايتها أسلوبا رشيقاً ومتناسقاً، حيث جاءت فصولها مترابطة ومنسجمة مع تطور الأحداث، كما أنّ تقنية الحوارات المعتمدة والتي حازت على مساحة لا بأس بها ، أضفت على الرواية جمالية لناحية السرد والبناء الدرامي، فكانت تلك الحوارات على ألسنة شخوص الرواية صادقة وواقعية بعيدة عن أي تكلُّفأو تصَنُّع كونها أتت باللهجة العاميّة وبلغة وتعابير معبرة ومستمدة من الحياة اليوميّة سواء لمجتمع الرواية أو المجتمعات الشعبية الشبيهة في مختلف مناطقنا وبلداننا.
وبكلِّ جرأة وشفافيّة وبدون قفازاتقدّمت لنا الكاتبة روايتها التي قاربت فيها المحظور من غير أن تخدش الحياء العام بالرغم من تطرقها إلى بعض القضايا الإجتماعية الشائكة التي تعصف بالمجتمع المهمَّش أو الفقير إذا جاز التعبير. لقد قدّمت الواقع كما هو دون أن تخفي العديد من الممارسات المظلمة في حياة الفرد أو المجموعة. بل قاربتها بكل صدق ودون أية مبالغة أو تجميل.
بالعودة إلى مضمون الرواية سنحاول الإشارة إلى بعض المحاور أو الإشكاليات التي اُثيرت ومن هذه القضايا نذكر الآتي:
1- “مسألة التحرُّش الجنسي”والتي تكاد تكون ظاهرة شائعة في مختلف البيئات والمجتمعات ويمكن أن نعزو أسبابها إلى الهَوَس الذي يشكل حالة مرضيّة عند المُتَحرِش والذي يستغل فقر وقلة وعيّ المتحرش به نظراً لصغر سنه ولعدم درايته بخطورة ما يُمارَس عليه مقابل ما يحصل عليه من هدايا او أموال يكون بأمسّ الحاجة إليها. وهذا ما يجعله يمتنع عن فضح الرجل المتحرِش إمّا خوفاً من الأهل وإمّا رغبة منه على قلّةِ إدراكه بالحصول على المزيد من الهدايا او الألعاب.وهذا ما استفاد منه “الصنعاني” الذي مارس أبشع أنواع الإستغلال الجسدي للفتيات الصغيرات أمثال ناهد أو صابرين وغيرهنَّ مقابل بعض النقود او قطعٍ من الحلوى.

الحديث عن التحرش يأخذنا للتطرق إلى مسألة أخرى أثارتها الرواية وهي الإعتداء الجنسي على الفتيات البالغات وما ينتج عن مثل هذه الإعتداءات من آثار مجتمعية ونفسية يصعب تجاوزها، وهذا ما حدث مع ”هادية” التي أعتدى عليها “عابدين” زوج جارتها وحملت منه من غير ان يعترف بفعلته، مما دفع بوالدتها لإجبارها على التخلي عن المولودة التي ستتربى في دار “الداية ستنا” وتتبناها إبنتها مناهل.
مثال آخر من أثار العلاقات الجنسية غير الشرعيّة، تمثله ناهد المولودة من أبوين غير شرعيين والتي عاشت في كنف المرأة كلثوم، وعندما طلبها علي إبن الصنعاني للزواج ثارت ثائرة أبيه فهو يرفض أن يتزوج إبنه باللقيطة ناهد.
2- المسألة الثانية التي يمكن الحديث عنها في هذه الرواية هي “مسالة السحر والشعوذة” والإعتقاد بها من قبل الكثيرين، وهذا النموذج قدّمته الكاتبة بشخص مريم التي تؤمن إيمانا كبيرا بمثل هذه الشعوذات، فهي ترجع كل شيء يصيب الفرد إلى الحسد او السحر وتنطلق لزيارة المشعوذين اعتقادا منها بجدوى التعاويذ وشرب ماء كتابة أدعياء الأشياخ. ناهيك عن حلقات الزار التي كانت تقام لطرد الأرواح الشريرة وغيرها.
3- المسألة الثالثة التي أثارتها الكاتبة والتي لا تقل خطورة عن سابقاتها هي مسألة ما يسمى “بزواج القاصرات”، وهذا ما انتهجه الصنعاني الذي عرف عنه الجشع وحب إكتناز المال في خزنة تحت أرض غرفته، فقد جمع الأموال والذهب لقاء تزويجه لبناته القاصرات من أثرياء عرب. هذه القضية تكاد تكون شائعة وللأسف في مجتمعاتنا الفقيرة المقترنة بالجهل والتخلف بشكل أو بآخر ويجب محاربتها للحد من إنتشارها قدر الإمكان.
4- المسألة الرابعة والتي أثيرت في الرواية ولكن بشكل عرضي هي مسألة ما إصطلح على تسميته “بالتعصب أو التطرف الديني” وقد ظهر هذا التعصب في متن الرواية في نموذجين، الأول تمثل في علاقة الحب التي نشأت بين جورجيت المسيحية الأرمنية وبين الشاب المسلم طارق، هذه العلاقة قوبلت بالرفض التام من قبل والد طارق الذي يرفض ان يتزوج إبنه بفتاة من غير دينه، وقد أنعكس هذا الرفض سلبا على نفسية جورجيت أوصلها إلى حال من الجنون وعدم الإتزان ومن ثم الوفاة.
أما النموذج الثاني الذي قدمته الكاتبة عن التطرف الديني فهو ما أثارته من الحديث عن “تنظيم القاعدة” وكيفية تجنيدها للشباب والشابات مقابل إغداق الأموال عليهم، وكان من ضحايا هذا التجنيد أمل شقيقة هادية التي إنجرفت مع هذا التيار المتطرف لتقتل في أفغانستان.

من ناحية ثانية ونحن بصدد الحديث عن رواية المنتهكون لا بد من الإشارة إلى قدرة الكاتبة على تصوير النسيج الإجتماعي للبيئة التي تخُصّ الرواية، وخاصة تلك البيوت المتلاصقة والتي من خلال ما يسمى “بالخوخة” وهي فتحة في جدار الغرفة الملاصقة للبيت المجاور يتم من خلالها التواصل بين الجارات. كما أشارت الرواية إلى تلك الجلسات النسويّة التي كانت تجمع بين الجارات في المناسبات الاجتماعية المختلفة حيث يظهر بشكل جليّ التكافل الإجتماعي فيما بينهن، مثلما حصل عندما تداعت النسوة إحتفاء بولادة علويّة لإبنتها هادية، وتهافتن لمساعدتها وإنقسمنّ إلى فريقين لتحضير وجبتي الغداء والعشاء،وكل واحدة أتت وهي تحمل سفرة طعام جهوتها في منزلها، وكذلك فعل رجال الحيّ باستضافة زوجها الخير مختار للغاية نفسها.
أيضا في هذه الرواية فقد حضر المكان بشكل لافت عندما تحدثت الكاتبة عن
مدينة بورتوسودان وقدمت لنا نبذة ولو موجزة عن تلك المدينة وتاريخها الموغل في القِدَم، حيث يوجد فيها أكبر ميناء بحري في السودان وسميت بورت سودان، قبل أن كان إسمها مرسى الشيخ برغوث نسبة لوجود ضريحه في تلك المدينة.التي كتب عنها الملاح البرتغالي خوان دي كاسترو وأيضا تم ذكرها في أطلس بطليموس الجغرافي . وقد إكتسبت إسمها نتيجة وجود ميناء كبير على شواطئها.
وفي سياق منفصل تماما عن مجريات الرواية لم تشأ الكاتبة إلا أن تُضَمِّنها إشارة ولو بسيطة ومخففة عن مسألة التحرير لأرتيرا وتكاتف الجبهات للحصول على الإستقلال المنجز والتام بعد الإنفصال عن إثيوبيا.
لا بد من تسجيل الملاحظة التالية وتحديدا في الحل الذي لجأت إليه كل من لؤلؤة إبنة الصنعاني وأيضا هادية إبنة علويّة، فمثلا لؤلؤة التي حرمها والدها من أية مساعدة ولم يهتم بتأمين قوتها وقوت عيالها لم تجد وسيلة سوى اللجوء إلى سرقة مفتاح خزنة والدها لتأخذ ما تريد من أموال. كما انها تواطأت مع أخيها علي للإستيلاء على كامل تركة والدهما دون بقية الإخوة.
أما هادية ولكي تقوم بتأمين حاجات ومتطلبات أمّها المقعدة وإخوتها فقد لجأت إلى إستئجار منزل في منطة رأس الشيطان وهي المنطقة المخصصة لممارسة أعمال البغاء، وإمتهنت الدعارة لتأمين حاجياتها.
إنّ الحل الذي لجأت إليه كلّ من لؤلؤة وهاديّة قد يعطي إنطباعا ان لا سبيل للخروج من آفة الحاجة او الفقر سوى الحلول غير الأخلاقية كالسرقة او البغاء، علما ان هادية في نهاية الرواية افتتحت لها دكانا للمتاجرة لتحصيل لقمتها بالحلال، فلماذا لم تلجأ إلى هذا الحل دون المرور بسقطة الرذيلة؟.
أخيرا نبارك للكاتبة سمية هندوسة صدور روايتها هذه والتي دون شك تنبىء بأننا امام روائية من الطراز الرفيع والملتزم بقضايا مجتمعه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى