أدب

قراءة في ديوان (لك تفاصيل المطر) للشاعرة ميادة المبارك

عندما تصبح الكلمات نوتات شعرية

بقلم: ناظم ناصر القريشي
“كل شوق يسكن باللقاء، لا يعوّل عليه” ابن عربي
” المهم هو أن لا أصل أبدا الى أي مكان، أن لا أكون في أي مكان ” صمويل بيكيت


الشعر كالحب هبة ربانية منحها الله تعالى للإنسان فهو وجد بوجود الإنسان وهو الحلم الأبهى الذي يأتي إلى الروح , لذا لا أحد يعرف ماهيته و من أين يأتي في أي لحظة يضعنا تحت سطوته وهذا هو سره المكنون وكنزه الدفين , لكن الذي نعرفه انه يملأ فراغات في أروحنا و يسري في الدم دون قيود ؛ و الشعر دائما في راهن حضوره يمنحنا الدهشة بأبعادها العميقة والمتسعة دوما و المحرضة في أحيانا كثيرة ، و يتبعها إلى آخر الأثر , وهو يخاطب الوجدان , فيعيد تشكيل الحياة , فهو مظهر للتطور الواعي لمطلق الحياة والوجود و هذا ما سنجده في ديوان الشاعرة ميادة المبارك و الذي منحته عنوانا شفيف هو عنوان أحدى قصائد الديوان ( لك تفاصيل المطر ) المطر الذي يحي الأرض بعد موتها فتفاصيله النماء ،فبنثيثه أو انهماره نشعر بالحنين إلى كل شيء،و الاشتياق لوهج البدايات الأولى المحفوفة باللانهائي حيث الأشياء تأخذ وجهها الحقيقي ،و يشيع التدفق المتواصل في كل الاتجاهات ويتجلى فيها السمو الروحي, فالشاعرة ميادة المبارك تنظر إلى الشعر كطاقة حياتية ، لذا هي تتفرد بسياقاتها الخاصة و بأسلوبها المميز ، باقتصادها الكبير في الكلمات يصاحبها غريزة الانسياب التي ترافق إيقاعات انهمار الوجد في صورها الشعرية و الموسيقية أذا جاز التعبير ، فهي تمتلك هاجس الإشتغال على اللغة و نحتها داخل القصيدة وديوانها البكر هذا ما هو إلا خطوة في ترسيخ هذا السياق ، فسنجد القصائد تتفتح كالزنابق تحت المطر ، والتأويل يحوم حولها في تفاصيله فتقول في قصيدة (خافق العمر) وهي مفتتح ديونها :
صِف لي إنهمار وجدكَ المأسورِ شوقاً على خلجان عمري ..
صِف لي!!
فأنا ما زلت أتنفس مبتدأ طريقي معك ..
أستقي النبض من عسيرِ أيامٍ أدمنتها خوفاً عليك..
فأُقلّب جمر مواقد الذكرى الجاثمةَ على صدري..
لتاااااريخٍ..
عرّجَ بي حيثُ قطاف سُفنِكَ المأهولة بالرحيل..
هنا تصبح الكلمات بعمقها الدلالي والجمالي، حيز عجيب للتكوين تكفي لان تجعلنا نرافق انهمار الوجد المأسور شوقا، فهي تماثل المطر والصورة الكلية لها تعبر عن الحاضر من المعنى تبقى مستفزة. فهي بكلمات قليلة تنهمر دون عسر تشكل كل هذا الإبداع وتجلب الشعر، لتتحول الى نوتات شعرية معلقة كأجراس المطر فتقول الشاعرة في قصيدة (نُوتَةمُعلّقة)

هل اااااانَ الوقت لديك !!
أن نتحاور همساً
وتُعلن لي عن أسفاركِ المخبوءةِ بين طيّات الكلام
هل فككّت شفرات رموز الصمت ما بيننا
وحوارية الخجل المُعطّرة بضوعِ عباراتِ السلام
فصبري المأزوم تغّشاه موج بحرٍ عارم
يستترُ ذهولاً ظامئاً

هذه الكلمات التي يستترُ خلفها ذهولاً ظامئاً ستنمو في شجنها وهي تتجه إلى الشعر كما يتوجه المطر إلى موعده مع الأرض ليمنحها الحياة والنماء، فيجد المتلقي نفسه مأخوذ معها أو فيها أو إليها , هذه القصائد التي ستتجه إلينا لنوحد اتجاهنا بعد ذلك ونسير سوية فنقرأ في قصيدة ( إستثناء )

جئتُكَ!!
خلفَ تيهِ المعنى أستجدي منكَ نُضبَ السؤال!!
جئتكَ!!
أبحثُ عن مطلقك المشاكس لرؤيتي الحالمة ..
كيْ أبتهلَ من تواشيحِ سمرتكَ الفتية وداعةَ أول الغيث ..
فحنجرة الوقت أناااااا..
أُصفرُ من بللِ حُلمي المنقوعِ باستثنائكِ المنسكب مجازاً..

هنا مقام مطر شرقي وأظن لونه ازرق أو هو كذلك، يستيقظ في قصيدة اوركسترا حيث الشاعرة قدمت ما يجب أن تعزفه فرقة موسيقيّة كاملة حيث تعلن عن حضور الشعر كموسيقى، بهمسها القادم من أزمان بعيدة وتكرارها الجميل الذي نتمنى أن لا ينتهي ونتساءل كيف حولت الشاعرة الكلمات الى نوته موسيقية و أوحت لنا أننا كنا هناك مع الاوركسترا خلال لغة غنية بمفرداتها ودلالتها
أوركسترا
يصادرُني همسكَ الدافىء كفراشة..
تُحلقُ بي كرفيفِ جناح مُبتلٍ بالندى..
لأتوحدّ بك..
فتجتاح سكوني المتقدَ من لهيبِ الجمرات….
تأخذني لبذخِ ذيّاكَ اللقاء الموشوش في أعماقي..
فمسودتي الحاضرة شاهد عصري الجديد بك..
يُطاردني تاريخكَ حيث اللالالا مدى..
لينتهي الصمت بيننا..
كجمال إرتباكي ..
وعلى مرمى القدر..
يأخذني شيء قد يحضرَ بيننا..
و أُسائلُ نفسي !!
هل؟
سأُشعلُ إنارةَ حرفي الصغير حيثُ موطىء قدَمك المُضرّج الخُطى..
وهل؟
سأجلسُ قربَ قنديلكَ الأيمن
أكتنز خضرة فراديسكَ المُخضبة من دجلة الخير
فيفرّطُني عقدكَ كياقوتةِ امرأةٍ خَجلة..
أنتظر منكَ بارقَ الضوء!!
وتحت سطوة الإندهاشِ وجنونهِ..
تتركُني مُعلقة!!
كعلامة إستفهامٍ حائرة؟؟
وخارج منطقة ندائي المفعم السرية
أتأمل جمال المصادفة,,
وإن أخطأها الوقت..
فليكن هو !!
الخطأ الأجمل

أن إحساس الشاعرة بالكلمات وقيمتها الإبداعية،وابتكارها للصورة الشعرية وتكثيفها للمعنى ودفعه الى أقصى حدود التأويل حيث يقف المتلقي عندها مندهشا وكأنما مايراه هو شكل جديد من الحياة بثت فيه روح المطر، فتقول الشاعرة في قصيدة (لكَ تفاصيل المطر)
لي في عينيكَ رذاذَ مطرٍ يتساقطُ كرقصةِ درويشٍ ثَمِل ..
يتخاتلُ عليّ بلعبةِ إختبائهِالعصرية ..
ليحشّدُ في محرابي متاريساً من جيوشِ الهوى ..
فتتعاظم حجم سيول الشوق الكامنةَ داخلي..
أُفصح عنها في مقدم عيد ميلاده ..
لأكووووونَ!!
نوتةً تتراقصُ على جيدِ وترهِ المحسوس..
تؤوبُ لعالمِ عشقٍ مكتظٍ بالحنين..

 

لنقرأ هذه الترنيمة العراقية السومرية الآسره لنعرف بعدها أن انخيدونا لم تغادر الشعر الذي ابتكرته أبدا فهي لازالت في امتدادها الحاضر نخلة عراقية تثمر شعراً، أو امرأة من ماء تقدم النذور،وأن الشعر ليس كلمات على رقيم الورق
لأنكَ تعزفُ بلا وترٍ
وترتلُ من وقدِ حنانكَ تمتماتٍ هامسة
سأستعجلكَ
لترقنَ قيدَ جنتي لبعضِ الوقت
وأُطالبُ ملائكتها الصالحة أن تستفرَ الرجوع لأقدامِ الأرض
تُعينكَ مندوبها السامي
لتمزج معها ألوان طيف الشمس
توحدهُ ببياضِ حكمتكَ
أن ديوان (لك تفاصيل المطر) يجسد حضورًا إنسانيًا وشعريًا رائعًا في مجمله؛ فهو السهل الممتنع ولغته تهب نفسها للمتلقي عبر اشتغال شعري يتراكم كنغمة موسيقية قادمة من إيقاعات تفاصيل المطر من زمن مفقود نحاول أن نبحث عنه، زمن لا يأتي إلا مع المطر، فلغة المطر ليست لغة حيادية فهي دائما تتفاوض مع الأمل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى