محمد الدالي.. أوقات مؤجلة
د. عبدالحكم العلامي
“رهان الخريف” عنوان مثير ودال, يحيل إلى العديد من التصورات منها على سبيل المثال ما يتعلق ببنية العنوان التي تتكون في مسارها الأول من مبتدأ مضاف “رهان”, ومضاف إليه “الخريف”, و خبر هذا المبتدأ مضمربإمكاننا أن نستدعيه هكذا مثلا: رهان الخريف حال أو قادم أو محقق, وما إلى ذلك من تصورات تتم بها عملية الغلق الدلالي حسب نظرية الجاشطلت, و بإمكاننا أيضا أن نرى هذه البنية/ بنية هذا العنوان على نحو آخر تصبح فيه كلمة رهان خبر لمبتدأ مضمر يمكن تصوره حسب تلك النظرية هكذا: هذا رهان الخريف أو هو رهان الخريف, وما إلى ذلك من تصورات. وفي الحالين هناك مضمر ينبغي البحث عنه من أجل إحداث حالة من الوئام الدلالي. و هذا العنوان ¬¬_إضافة إلى ذلك_ يشير إلى ان هناك مُراهِنيين ومُراهَنا عليه و هذان المراهنان لابد لأحدهما في نهاية المطاف أن يخسر الرهان هذا هو المنطق, و تلك طبيعة الأشياء, و هناك زمن يتمثل في الخريف كما هو حادث بالفعل في تلك البنية, و هنا يبدأ تصور آخر يتعلق بجملة من الأسئلة ينبغي إثارتها من أجل السير قدما في عملية التأويل, من هذه الأسئلة مثلا ما يتعلق بماهية الرهان, و صفة المراهَن عليه, و فيما يبدو لي أن الرهان يتعلق هنا بفكرة مصير الإنسان على هذه الأرض, و أن المراهِنيين هما الإنسان و الزمن, فمنذ أن وطأت أقدام الإنسان على هذا الكوكب الأرضي شغلته هذه الفكرة/ فكرة البقاء, و ظل يصارع من أجل نوالها فأخذ يبني القرى والمدن, ويشيد الحضارات محاولا الإمساك بلحظات تحققه حيَّا و معافى يزهو باكتمال بهائه, ونجاح مقاومته لعوامل الزمن, و هي تحاول جاهدة أن تنال من هذا البهاء, و تسرق تلك الهناءة, غير أن صراع الإنسان مع الزمن لم يدم طويلا بعد أن تأكد ذلك الإنسان من وجود متربص آخر لا يمكنه الفكاك منه ألا وهو الموت, و هنا تخور قواه, و يتداعى بهاؤه, و فيما يبدو لي أنه قد خسر الرهان, بعد أن تحالف الزمن مع الموت في عملية إفنائه, و بهذا يكون أي الإنسان قد أيقن أنه قرين للفناء, و أن ما بذله من جهود من أجل البقاء, إنما جاء فقط ليصب في محاولته تأجيل هذه المواجهة, يقول محمد الدالي:
عامل الزمن له مفعول السحر
لذا كان لزاما
الاحتكام إلى الفراغ
ربما نكتشف الحياة
من جديد!
ثم يردف قائلا:
قدري أن أضحك و أبكي في آن واحد
لا يدركون أن هذا قتل
فأنا أقتل في اليوم
آلاف المرات
بعدما تحولنا إلى خصيان
نفتقد الخصوبة في كل شيء
اللعنة.
للأوقات المؤجلة في ديوان:رهان الخريف* أسبابها الغامضة/ أسبابها الدفينة/ أسبابها المسرفة في النأي! و رهان الخريف _فيما أرى_ دال على قدر كبير من الإثارة, فعلى ماذا يراهن الخريف إذن في مثل هذه الأجواء شديدة الوحشة, على ماذا يراهن و ليس ثمة من مثير سوى تلك الوساوس التي تجلس الذات الإنسانية متمترسة خلفها في انتظار لحظة ما, في وقت ما قد تجيء, و قد لا تجيء من أجل إنجاز شيء خاصة وأن عامل الزمن له مفعول السحر على حد قول الشاعر؟ و أن الرغبة في محاولة الاكتشاف لا تشي بشيء سوى أن نحاول من جديد, و عندئذ يكون قدر هذه الذات الإنسانية ان تبكي هكذا, و تضحك في آن واحد! بعد أن جاء المنتج النهائي على غير مرادها/ تحولنا إلى خصيان” مما أفقد هذه الذات اتزانها, و جعلها تهلوث صارخة هكذا: اللعنة! بينما يساورها _على الجانب الآخر_ هاجس السؤال عن ماهية ذلك السر المضحك المبكي في آن من أجل إدراك إجابة ما عن غايته/ غايته التي تفتح شهية ذلك الإنسان إلى المعرفة الحقة تلك التي ينبغي أن تكون هذه الذات على بينة منها بحيث تصبح قادرة على تحديد أولوياتها معها, و يمكنها كذلك إدراك وجودها المبتغى, يقول الدالي:
أتحرك نحو البداية
الدرج غارق في الظلمة
أشيائي القديمة
المتناثرة في كل الاتجاهات
تعرفني جيدا
مثقل الخطوات
أتلمس زر النور الغائر في الحائط
كجرح قديم
أضغط عليه
ينطلق النور المبهر
على الحائط المقابل
بعض الرسومات الفرعونية
و شجرة جافة
ليس لها أغصان
ملتصقة بالحائط.
على الذات الشاعرة إذن أن تتحرك حركة إرتدادية بقصد محاورة أشيائها القديمة/ أشيائها المتناثرة في كل الاتجاهات, غير أن الدرج غارق في الظلمة, و زر النور غائر في الحائط كجرح قديم, و المتاح الوحيد في مثل هذه الأجواء القابضة لا يتعدى مجرد حائط عليه بعض الرسومات, و شجرة جافة عارية من الأغصان ملتصقة هكذا بالحائط! كل شيء ساكن/ كل شيء فاتر/ كل شيء موحش, و طارد: شيء وحيد فقط يتحرك/ شيء وحيد فقط ينبض غير أن نبضه لا يشير إلى حياة! إنه نبض النازف المحتضر الذي يتحرك مثقل الخطو إلى حتفه المحدق هكذا!
إنه ألم الشعراء النبيل ذلك النبع الإنساني الرقراق الذي ينهل منه الشعراء متشحين بعذاباته, شاربين من روائه الذي لا ينفد ما بقي إنسان على هذه الأرض:
ربما يصادف الصدق بعضا من أقوالنا
كل يعرف رأيه جيدا
فالآراء كالمؤخرات
يحملها الإنسان
ويعتقد أن …؟!
الموقف يشير إلى قراءة على قدر كبير من الأهمية تتعلق بمحاولة الإفصاح عن نقيصة إنسانية تتمثل في اعتداد بعض الناس بآرائهم, و الوقوف عندها ناكرين على من عداهم آراءهم, مهما كان لهذه الآراء من وجاهة, و في قوله: الآراء كالمؤخرات, يحملها الإنسان …” ما يُزكِّي هذا المعنى, و يعضِّد من دلائله, و هذا الموقف من لدن الشاعر _إضافة إلى ذلك كله_ إنما يجيء بحسبانه رسالة موجهة لأمثال هؤلاء بوصفهم عقبة أخرى تضاف إلى العديد من العقبات في مسيرة هذا الإنسان, و هو يحاول إنتاج حياة متسامحة يُلاقي فيها أخاه الإنسان على مائدة تحاورية صحية و عادلة, و هو موقف يعكس إيمان الشاعر الراسخ بأهمية الحوار في حل المشكلات, و الوصول إلى نتائج مرضية لأطراف النزاع أي نزاع فعلى كل منا أن يسعى ليلتقي مع أخيه _عن طريق الحوار_ على مسافة بينية متقاربة تحفظ لكل منهما تعايشه ووفاقه مع بني جلدته, و ترتقي بالفعل الحضاري إلى أعلى درجات تحققه. ثم تبدأ هذه الدوال في فكِّ شفراتها ليأخذ الهمُّ الإنساني المعيش سمته على شبكات تلك الدوال, يقول محمد الدالي:
أحتاج إلى نفسي أحيانا
أتودد تارة
أو أحتج
أسألها فقد مللت هروبها
تعاتبني دوما
تقنعني بأنني غير متوازن
كيف و كل الظروف المحيطة همُّ يومي
لا يزول!
عصر الكتروني مرهق للأعصاب
دخلٌ غير ملائم للمصروف
غلاء يلتهم كل شيء
الثانوية العامة و “هبة” جزء من هذا الهم
“منى” تلهو برسوماتها
و “عادل” عشوائي غير ملتزم!!
هنا يتوارى الكلِّي ذو الأفكار المجردة, و النظرات المعدة ليخلو المشهد تماما للذات هكذا وحيدة ملتاعة, يصرفها همها اليومي إلى متابعته و الاستغراق في تفاصيله التي لا تكاد تنتهي مع متطلبات عصر إلكتروني مرهق, يقابله دخل يومي غير ملائم, و غلاء يلتهم كل شيء, ثم ما يلبث أن يسفر هذا الهم عن مفردات مؤلمة أخرى تتجه إلى إبراز هذه الذات, و قد فقدت قدرتها تماما على المواءمة, بعد أن نالت هذه الهموم, و تلك الشواغل من أبسط حقوقها الذي يتمثل في توق نفسها إلى تحصيل المعرفة, فها هي ذي شهادة الثانوية العامة/ حلم أبناء الأسر البسيطة في مصر, تتحول إلى حلم بالفعل, ولكنه صعب المنال في مواجهة تأزم اقتصادي, و فساد معلمين لا يهمهم سوى تحصيل المال من خلال مراجعة أسعار حصصهم بحيث تصبح ملائمة لشراء أحدث السيارات, و السكن في أعالي العمارات, وارتداء أغلى القمصان و الياقات!
مراجعات:
* يراجع: محمد الدالي/ ديوان “رهان الخريف” الهيئة العامة لقصور الثقافة/ القاهرة/ 2011م.