أدب

امرأة زائفة (4 – 5)

رواية من واقع الحياة الثقافية

م. أسامة الخولي | شاعر وأديب مصري

الحلقة (4)

في اللحظة الأولى التي وافق فيها هادي على مقترح حياة بتأسيس صالونها الأدبي أيقظت الشيطان النائم في جوفها واستدعت معه طلاسمها وسحرها وكل خبراتها السابقة في عالم الخيانة
قبل غفوته الملكية بأحشاء حياة جمع الشيطان مريديه وراهنهم أن حياة تستطيع أن توقع بأحمد وأخيه وأبيه في شباكها
كانت حياة واقفة عن شماله
بينما يصطف مريدوه أمامه
الأكثر شرا فالأكثر
في شكل مخروطي مفرغ من الداخل
رأسه الشيطان وحياة
وقاعدته الشياطين محدودي الفطنة
وارتفاعه ممتد في الزمن من الخط الرابط بين الخطيئة الأولى َحتي ممارسة الجنس عبر الهاتف ليلا أو نهارا تبعا لقانون الشره عند حياة وحالتها النفسية
همهمات متداخلة بين جموع الشياطين فهمت حياة منها أنهم يشككون في قدرتها على الإيقاع بالأب وابنيه إذ أن ذلك فوق تصور الأبالسة
ضحكت حياة ساخرة وقالت بصوت أشد نعومة من جلد حية خرجت للتو من جحرها الشتوي
وأستطيع اصطياد أمه لو أردتُ
لكن يكفي أحمد وأخوه فوالده تجاوز السبعين من عمره ولا فائدة من اصطياده
ثم أردفت على هذا الشرط قبلت التحدي
بعد فتره كان أحمد نزيلا في إحدى المصحات النفسية بعدما اعترف له أخوه أن حياة كانت تواعده وهو في اتتظار عودتها يتناول الشاي ويقشر الوقت عند أهلها
بعد هذه الحادثة تحديدا منحها الشيطان صولجانه وغفى في تابوته الملكي داخل أحشائها
كان الدرس الأول الذي علمها الشيطان
عدم الرضا والتمرد على قسمة الله وقدره وأخبرها أنه أخرج آدم من الجنة بسبب هذه الخطيئة
سمتها حياة الطموح
وسماها الشيطان البطر
وكأن حياة تحمل لعنة لقبها فهي حياة البطران
ولذلك فحياة دائمة التطلع لما في أيدي الآخرين يظهر ذلك دوما في حديثها النادر عن صديقات المهنة اللواتي تزوجن زيجات سعيدة أو تحققن على المستوى الوظيفي فهي تصفهن دائما بأنهن ذوات مواهب وقدرات محددوة وتندهش جدا كلما وجدت نموذجا سعيدا في حياته الأسرية
هناك ثأر لا ينتهي بين حياة والبيوت الهادئة
أغلقت حياة غرفتها عليها ووضعت هاتفها على وضعية عدم الإزعاج حتى لا يسترعي انتباه هادي صوت الإشعارات التنبيهية لرسائل الماسنجر وكانت لم تعرف بعد شيوع استخدام برنامج الواتس آب
أو بالأحرى لم يطلعها الشيطان عليه إذ كان غافيا داخل أحشائها
هناك حالة عشق بين حياة والفيسبوك فهو يمثل لها طريقا سهلا لاصطياد ضحاياها
ترسل عبره رسائل مشفرة لكل ضحية جديدة
تنشر صورها ذات القناع الواحد المعتمد
لدى هذه النوعية من الضحايا وتستخدمه لمآرب أخرى
في بداية رحلة الصيد ومع دخول الضحية لمرحلة المكالمات الطويلة تنشر حياة أول رسالة مشفرة غالبا عن العوض وجميل قدر الله إذ خبأ لها الخير
حتي تصل الضحية لمرحلة التعلق فتنشر رسالة عن ماهية الحب فالحب أمان وصدق وثقة
المرحلة التالية تظهر عند اول خلاف وهنا ياتي دور الفيس بوك ومنشوراته الشبيهة بشعرة معاوية فتارة تحذر من الذكريات وكم هي قاسية وتارة تحذر من التعود على الأشياء
كل ذلك طبعا متبوع بصورها وهي على سرير المرض تحاصرها أنابيب المحاليل ووصفات الأطباء
وهكذا تتوالى الرسائل المشفرة حتى يستسلم ضحيتها
يتكرر هذا التكتيك مع كل ضحية
لذلك تجد تكرارا واضحا لمنشوراتها عن الفقد والحب والبعد والقرب والعوض والإشارات على فترات زمنية متفاوتة
الفيس بوك هو أهم ادوات صيدها ورأس حربتها لذلك فهي على استعداد للتازل عن اي شيء إلا صفحتها على الفيس بوك
جلست حياة بهدوء على طرف السرير وبجانبها قطتها المدللة
وضعت سماعات الأذن السلكية في أذنها
وبصوت خافت قالت لمحدثها
ألو
أجابها محدثها
عملت إيه
فردت بسرعة وثبات
لا تقلق هادي وافق على فكرة الصالون
أراك غدا
آه نسيت أقول لك
انتطر بالسيارة بعيدا عن مدخل البناية وعن الشارع الجانبي المؤدي للشارع الرئيسي لأن
سيدة حارسة البناية رأتني آخر مرة وانا أترجل من سيارتك وأخبرت هادي
يأتيها الصوت من الطرف الآخر
وماذا فعلتِ؟
لا تقلق أخبرته أنني كنت مستقلة سيارة أجره وليست سيارة خاصة
عذرا حبيبي لأول مرة أكذب في حياتي
لكن لا حيلة لي ثم أنها ليست كذبة
ألست ملاكي الحارس ؟
يجيبها بلى
المشكلة يا عمري أنها أخبرته أنني كنت بجوارك في الكرسي الآمامي للسيارة وليس الخلفي كعادتي حين استقل سيارات الأجرة
ولذلك عاتبني في ذلك
يرد الطرف الاخر معقبا وبماذا أخبرتيه؟
اردفت حياة بغيظ سيدة بنت الكلب تراقبني
قلت له بعصبية
كان مكيف هواء السيارة غير فعال فاضطررت للركوب بجوار السائق قريبا من مخارج الهواء المكيف
صدقني يا قلب حياة أكاد أموت لأنني لم اتعود على الكذب لكن كل شيء يهون من أجلك
يا حبيبي طبعا أعرف أنك تقدر كل هذه التضحيات هي كلها من أجلك
مخاطرتي بالحديث معك في هذا الوقت المتأخر من الليل
لقد عوضني الله بك عن كل الأشياء وحبي لك غير مشروط بشيء
لم تترك حياة الفرصة لمحدثها أن يعقب فلقد ألقت السلام على عجلة وانهت المكالمة بجملة مختصرة
سلام الآن
اراك غدا
قضى محدثها ليلته لائما نفسه لوما شديدا لأنه عرض حياة للكذب وانه فعلا يعرضها للخطر بحديثه الهاتفي معها طوال الليل بينما زوجها علي بعد خطوتين وباب
آه لو يعلم أنه قد سبقه مئات الضحايا قبله سمعوا نفس الكلام بنفس الإحساس وأنه مجرد حلقة في سلسلة طويلة ممتده منذ عقدها الثاني وحتى عقدها السادس وستستمر بعد رحيلها إذ أنها تجهز من يرث جلدها وأقنعتها من فتيات دور اليتامى ومنتسبي الملاجيء الخيرية من مجهولات النسب
كان ذلك التزاما منها أمام الشيطان ليحميها من ثار ضحاياها ويمنعها منهم
أخذت حياة نفسا عميقا بعدما انهت المكالمة ووقفت أمام مرآتها استعدادا لاستحضار شيطانها من غفوته
وهنا حدثت المفاجأة

الحلقة (5) 

كان الأمر اعتياديا بالنسبة ل حياة فهي ومرآتها تتبادلان الأسرار والأقنعة
ومرآتها هي الكائن الأوحد الذي يعرف وجه حياة الحقيقي والكائن الأوحد الذي تثق به
الآن تبدأ حياة طقسا لن يتكرر
ستوقظ الشيطان المتمدد في أحشائها لتستشيره أولا ثم ليجدد طلسمه السحري الذي ألقاه بين نهديها وفخذيها ليمنحها جاذبية ووهجا استثنائيا
كان ذلك منذ سبع سنوات وهي تعبر سنتها الثالثة بعد أربعين خطيئة لتكرر زيفها المعتاد ولكن بمذاق مختلف ودم جديد
مذاق الشعراء ودماء المثقفين
يبدو وجهها شاحبا بعدما مرت على ملامحه عجلات السنين المحملة بوجوه الضحايا وصرخات المعذبين ودعوات النساء الطيبات اللواتي صارت بيوتهن قاعا صفصفا بسببها
كذلك تعوّلُ حياة على شيطانها في التخلص من الأوردة المنحوتة بفعل الزمن على ظهر يديها فكل الوصفات الطبية والمرطبات لم تستطع إخفاءها
أشاحت حياة ناظريها عن تلك الأوردة الممتدة من رسغها حتى منابت أصابعها
وتمتمت
تبا للشيطان وللأوردة اللعينة
لقد وعدني ذلك الماكر قبل غقوته ألا يصيبني الهرم ولا تظهر علامات الشيخوخة على جسدي
محلولة الشعر كانت
ترتدي قميصا أسود اللون يشفُّ عن كتفيها ونحرها
وجزءًا من لؤلوتي صدرها ينير ظلام الغرفة الدامس
ويمتد إلى ما فوق ركبتيها حاسرًا عن ساقيها ثلجية البياض قطنية الملمس حتى تطرد الملائكة من غرفتها وتفسح المجال لزائرها مع علمها المسبق أن
الملائكة وحياة لا يجتمعان في مكان واحد أبدا
الآن يمكنها أن تبدأ طقسها الشيطاني
قطتها المدللة بفرائها الأبيض
والمرآة
وأمشاط الشعر
وأحمر الشفاة
وزحاجة العطر الرخيص الذي تشتريه دائما من شارع عدلي
ومورد الخدين
ومعطر الشعر وصبغته
وخفيها اشتراهما لها أيمن الحوفي في زيارتها الأخيرة للأسكندريه
وملاءات السرير ووسائده
حتى المصابيح المطفأة
والباب المؤدي لشرفة غرفة نومها حيث ينفث هادي دخان سجائره في الأوقات القليلة التي يضطر فيها للدخول لغرفتها لإجراء حديث عابر
كلهم على أهبة الاستعداد للحدث الأكبر ما بين الخوف والترقب
المشكلة أن حواس حياة تعمل جميعا في آن واحد فهي تستطيع أن ترى وتشم وتسمع وتبكي وتضحك وتغني وتنتحب وتصرخ وتكتم أنفاسها وتمرض متى شاءت وتشفي نفسها بنفسها متى شاءت وتزن ضحاياها بميزان حساس وأعظم مواهبها وأعلى حواسها هو التمثيل
كل ذلك يتم بمهارة عالية وتركيز كامل لا تطغى حاسة على أخرى ولا موهبة على أختها ولذا أحست حياة فجأة بخيالات أمام باب غرفتها
وتلك موهبة أخرى منحها الشيطان صكها
الإحساس بالظلال
نفعتها كثيرا هذه الموهبة حين تلتقي ضحاياها خلف الباب المغلق
ظلال أقدام
تقترب ثم تتوقف للحظات ثم تبتعد ثم تعيد الكرة من جديد
هي تعودت أن ترى مثل هذه الخيالات أثناء مهاتفاتها الليلة مع ضحاياها وتعرف وجهتها غالبا تكون لزوجها متجها للحمام أو عائدا منه ولحياة تكتيك عفوي اكتسبته ضحية بعد أخرى إذ تخفض صوتها للحد الأدني حين تحس اقتراب الخيالات من باب غرفتها هامسة لضحيتها
اصبر لحظة
ثم تسحب غطاء السرير عليها حتى إذا ما فتح زوجها الباب فجأة يظن أنها نائمة
علمها الشيطان فيما بعد مع تقدم نظام الأندرويد نظام تشغيل الهواتف أن تشغِّل مقطعا قرآنيا حتى إذا سئلت عن سبب وجود سماعة الأذن في أذنيها وهي نائمة ؟
فالإجابة المريحة
استمع للقرآن
لكنها مستحيل أن تسمح لزوجها أن يسحب سماعة أذنيها ليتأكد من صحة كلامها
وإن تجرأ وفعل وهذا مستبعد تماما فبضغة زر واحدة تنهي المكالمة ويعلو صوت القرآن عابرا أسلاك السماعة ليستقر في أذنه وتبدأ وصلة طويلة دامعة من اتهامه بالشك المرضي والغيرة الجنونية كل ذلك يحدث بينما هاتفها لا يظهر الرنات المتتابعة القلقة لضحيتها لأنها دوما وببساطة تضع هاتفها على وضعية عدم الازعاج قبل رجوع زوجها للمنزل بعشر دقائق هذه الوضعية تضمن عدم ظهور الاتصال الهاتفي أو الرسائل عبر اي تطبيق على خلفية شاشة الهاتف
الشيطان علّمها حيلا كثيرة هذه المرة لكن
حواسها تلك الليلة تخبرها أن الأمر مختلف وأن وراء الأكمة ما وراءها
الاحتمال الأبعد أن زوجها يخونها
الاحتمال الأوسط أنه يطمئن عليها ويتأكد من نومها بسماع صوت شخيرها المميز
الاحتمال المستحيل أنه يبحث عن دليل خياناتها له إذ ربما أثار طلبها المفاجئ بتأسيس صالون ادبي كصالون مي
شيئا من شك في صدره وذلك مستحيل
حقا مستحيل فحياة استطاعت بقدراتها على تزييف الأدلة وحبك الروايات الملفقة أن تقنعه منذ زمن بعيد أنه مريض بالشك وعليه استشارة طبيب وفعلا استسلم هادي كعادته لرغبة حياة وبدأ في التردد على طبيب نفسي
شيء ما في صدر حياة لا يهدأ بسبب تلك الخيالات
تقترب حياة من باب غرفتها وبهدوء شديد تمسك بمقبضه استعدادا لفتحه
تقترب الخيالات من جديد مع همهمات غير مفهومة تتضح كلما اقتربت الأقدام من باب الغرفة وفجأة تسمع هادي يقول لمحدثه على الطرف الآخر من الهاتف
لا تقلقي هي زمانها في سابع نومة
تتلمظ حياة غيظا
تلصق أذنها بالباب
صمت يليه جملة واحدة
حاضر لكن ارتاحي الان واراك غدا عند العاشرة صباحا في مكتبي
صمت آخر يقطعه ابتعاد الخيالات عن الغرفة
وتمتمات خفيفة تتلاشى رويدا رويدا
أخذت حياة نفسا عميقا محتشدًا بالنار ساحبا كل الأكسجين داخل الغرفة
وحياة لمن لا يعرفها ليست كباقي النساء من طين وماء بل من ماء ونار لذا فهي تتمتع بثبات انفعالي يبهر ضحاياها
فتحت حياة باب غرفتها بهدوء ورسمت على وجهها قناع #امرأة_خائفة وبصوت بارد قادم من أقصي نقطة متجمدة بصحراء سيبريا جاءت جملتها مستفهمة قصيرة محملة بوعيد مخفي بين حروفها
حبيبي سهران ؟
كان هادي قد أحس بصوت الباب حينما فتحته حياة فالقى بجسده سريعا على أريكته في صالة المنزل ولكن الوقت لم يسعفه ليسحب غطاءه على جسده أو ليغلق عينيه مستدعيا حالة النوم القلق أو المستيقظ فجأة من نوم عميق ولذا لم ينطق بشيء غير انه حرك رأسه بعلامة النفي من هول مفاجأته بخروج حياة من غرفتها في ذلك الوقت المتأخر من الليل وبدون سماعات الأذن و الهاتف
هو اعتاد خروجها المتقطع في مثل هذه الأوقات للحمام فقط
وطريق الحمام من غرفتها لا يمر بالصالة وهي دائما تفعل ذلك في صحبة هاتفها مثبتة سماعات الأذن صديقتها الأليفة داخل اذنيها
لذا حرك رأسه نافيا على عكس ما تقتضى حالته
ضحكت حياة ضحكة عالية منغمةً آخرها وأكملت طريقها للمطبخ
تناولت قارورة البيبسي
وحياة تعشق البيبسي ووجبات ماكدونالد السريعة
فتحت حياة قارورة البيبسي بهدوء متعمد وأفرغت قليلا منها في كوب فخاري اشتراه لها صديقها المقيم بالنمسا في زيارته الأخيرة لمصر ثم حملته قافلة إلى غرفتها
ولحياة طريقتها الخاصة في الانتقام من ضحاياها وهادي بالنسبة لحياة ضحية متاحة وتحت الاختبار والطلب طول الوقت لذا فقد قررت أن تسلخ جلده ورجولته بهدوء شديد ودم بارد بسكين انتقامها ناسية أو متناسية أنه تجرع كاسات خياناتها له حتى الثمالة أو واضعة احتمال ولو بعيد أن محدثه على الطرف الآخر قد تكون إحدى قريباته او زميلاته ألجأتها الظروف إلى الاتصال به في هذا الوقت المتأخر
لكن الخائن يخون العالم كله
كما اللص
يعتقد أن جميع الناس لصوص
تماما كما قالت العرب قديما
رمته بدائها وانسلتْ
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى