في طفولة نظرية الحاكمية

د. خضر محجز | فلسطين

استهلال:

“ولولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ” البقرة/251

الإسلام هو دين الله، لكن تجربة الحكم في الدولة الإسلامية ليست هي دين الله، بل هي محصلة اجتهادات الناس، وعلاقات القوى العديدة المتناحرة، لجعل وجهة نظر ما هي التي تسود، على باقي وجهات النظر الأخرى.

لم يقل الله لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: سارعا بالذهاب إلى سقيفة بني ساعدة، فقد سبقكم إليها الأنصار، وامنعاهم بكل أنواع الجدل الممكنة من تولي السلطة. لم يكن الله بالقطع هو الذي أوحى لهما بهذا، كما أنه لم يكن هو الذي قال لهما: لا بأس بأن تبادرا علياً ـ عليه السلام ـ بالسبق إلى هذا الأمر، خصوصاً وهو مشغول بتغسيل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولولا ذلك لتسبب لكما بصداع خطير!.

إن علاقات القوة هي من قال ذلك بالتأكيد. فلقد علم الشيخان أن لعلي نظرية سياسية تقضي بوراثة الحكم وجعله في آل محمد. ولعمري إنها لنظريةٌ أحسنَ التاريخُ في التعامل معها في اتجاهين:

1ـ وأدها في مهدها.

2ـ ثم تقرير أن وأدها هو من فعل البشر، لا من فعل دين الله.

يقول نيتشه:

“يمارس كل عظيم قوة تفعل رجعياً: فهو يعيد وضع التاريخ كله موضع السؤال، وتزحف أسرار الماضي من أوكارها لتضيئها شمسه… ربما لا يزال الماضي محجوباً بشكل أساسي. لا نزال بحاجة إلى الكثير من القوى ذات المفعول الرجعي”(1).

دعونا الآن نتأمل ماذا كان سيحدث لو أن الشيخين فشلا في إقناع الأنصار برأيهما، أو لو أنهما وصلا متأخرين، بعد أن بايع الأنصار منهم أميراً. ثم دعونا نتأمل فيما كان سيحدث لو أن علياً أخر تجهيز رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسارع إلى السقيفة، وناقش هناك برأيه واجتهاده!. أعتقد أنه كان من الممكن أن تؤول الأمور عندئذ إلى وجهة أخرى. ولو حصل ذلك لتشدد (المتكلسون) من بعدُ في الاعتقاد بأن تلك الوجهة المختلفة، هي دين الله تحديداً، ولا شيء غيرها.

إن تأملاً محايداً في هذا الحدث (الدنيوي الصرف) يتيح لنا أن نمحو باطمئنان هالة القداسة التي حاول المتشددون أن يحيطوا بها حركة التاريخ، وكأنهم يريدون أن يقولوا لنا إن كل ما فعله السابقون كان خيراً خالصاً. ولو كان ذلك كذلك، إذن لما تبرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات مرة من بعض أفعال خالد، ثم لما عزله عمر عن القيادة، أو لما جلد عمر صلعة عمرو بن العاص، بعد أن أتاح للذمي ضرب (ابن الأكرمين)؛ بل حتى لما جلد عمر ظهر أبي هريرة، وصادر ماله المشبوه مصدره، عندما جاءه بعد عام من ولاية ما وقد أثرى فجأة؛ ولما ثارت الشحناء بين فاطمة ـ عليها السلام ـ والصديق حول ميراثها من فدك؛ ولما اضطر علي إلى مبايعة الصديق بعد شعوره بالضعف بعد وفاة حبيبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم(2) ـ ثم لاستحال على شهود عدول ثلاثة(3) أن يشهدوا بأن الصحابي الذي كان واقفاً على رأس رسول الله في الحديبية قد زنا، بل لما زنا ماعز والغامدية ـ وكلاهما من الصحابة ـ منذ الأصل، ولما ضيع عثمان خاتم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولما جلد أبا ذر ونفاه إلى الربذة، ولما ولى أقاربه من طلقاء الفتح في المراكز الحساسة في الدولة، ولما انحاز عدد من الصحابة إلى معاوية، مع علمهم بأن الحق في الطرف الآخر من المعركة… إلخ.

إن كل ذلك هو فعل الناس في الدنيا بشروط الدنيا…

لا علاقة للوحي ولا لدين الله بكل هذا. ولو أراد الله أن يتدخل في شكل الدولة لأوحى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكيفية فعل ذلك. وهل يعقل أن يهمل القرآن تفصيل القول في مسألة كهذه، ثم يلتفت إلى تفصيلات أقل أهمية ككتابة الدين، والوصية بمن حضر الموت، ومدة الرضاعة، وما شابه ذلك؟.

والحق أن تلك كانت هي مرحلة طفولة الدولة الإسلامية.

ونحن نعلم أن ما يصلح الطفل هو ليس بالضرورة مما يصلح البالغ. تطرفني بعض المخلوقات الجميلة بقولها إنها ترغب في هذه الطفولة وتعمل لعودتها!. ولعمري إن هذا لنوعٌ آخرُ من الحنين إلى ما لا يكون أبدأً، إنه حنين فرويدي طفولي لثدي الأم، التي فطمت صغيرها وتخلت عنه، ورمته في لجة الحياة. إن هؤلاء الأطفال يحلمون أحلاماً (جميلة) بعودة أهل الحل والعقد، وولي الأمر، والبيعة، والخليفة الذي ينام وتحت رأسه نعلاه، ليراه سفير الدولة العظمى فيسلم… بل إنهم ليحلمون بسقيفة طينية واطئة السقف ضرورة المشاروة، كسقيفة بني ساعدة!. ومع ذلك ـ ويا لكل الشياطين ـ نراهم في أغلب الأحيان متسللاً إلى وعيهم، ومهيمناً عليه، رجال كهارون الرشيد الذي يحج عاماً ويغزو عاماً، ثم يسلي نفسه ـ بين كل حجة وغزوة ـ بسفك الدماء ونهب الأموال والتمتع بالحسناوات؛ أو كعبد الملك بن مروان الذي لم يكتف بأن يقول للقرآن (هذا فراق بيني وبينك)، بل وجه جيشه إلى العراق ليقتل مئات الآلاف من المسلمين، تمهيداً لملك كان القرآن سيمنعه من تمهيده بهذه الطريقة، أو كالحجاج الذي يترحم عليه خطباء الفتنة اليوم، أو كعبد الحميد الذي لا يخجل معوقو العقول من اختراع فضائل موهومة له!… إلخ.

فهل لنا من بعد كل ذلك إلا أن نحمد الله على أن عافانا مما ابتلى به أمثال هؤلاء، ثم ندعهم في طفولتهم القاصرة، لنهتم بكتابة تاريخنا بالسواعد والعقول والدم والجهد، كما فعل الأجداد العظام!.

لقد تطورت الدولة الإسلامية من بعد، وفق منهج دنيوي يقرر أنه حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله. ولولا ذلك لما استطاع العلماء السابقون أن يركنوا إلى طاعة أمراء لم يأتوا من السقيفة ولا مما يشبهها أو يدانيها، ولأعلنوا عليهم الثورة. تصوروا لو أن حاكما من هؤلاء قرر أن يوزع الأراضي المفتوحة على المقاتلين، أو لو أراد أن يوزع بينهم كل الغنائم، اتباعاً لما فعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكان من الممكن لمروان أو هارون أو حتى عمر بن عبد العزيز أن يقيم جيشاً حديثاً، أو دولة ذات مؤسسات وموظفين، واتصالات حديثة؟.

يقول سپينوزا:

“يبذل الإنسان الحر ـ الذي يعيش بين الجهلة ـ قصارى جهده كي يتجنب حسناتهم”(4).

وإنه لحق أنه مما يخزي كل مؤمن أن يأتينا الآن شخص ليفعل ذلك، أو ليدعو إليه، ثم يقول لنا هذا هو دين الله!.

ولو شئنا أن نكون مثل هؤلاء السلفيين لقلنا إن تطور الدولة من بعد، كان برضى الله ورعايته، ولو لم يكن راضياً عنها لما فتح لها البلاد، ولما أخضع لها العباد، ولما أتاح لأحدهم أن يتبجح بأنه يملك مخازن ثروات قطر السماء، مقرراً أنها من حقه وحده، ثم يسكت عنه الله ولا يعاقبه عقاباً، يرد إلينا شكل الدولة، كما قررها الله على يدي أبي بكر وعمر!.

إن الإقرار بأن شكل الدولة النهائي قد تحقق في السقيفة، يحمل في طياته زعماً مكذوباً بأن كل المخالفين كانوا على الباطل، بمن فيهم علي وفاطمة والأنصار. كما أن الإقرار بأن الاستيلاء على السلطة بالقوة هو اجتهاد ديني مباح، يحمل في طياته رضاً ظلوماً بكل مساوئ يزيد وعبد الملك وهارون والسفاح والمنصور والحجاج وعبد الحميد وسليم الأول… وهلم جراً. لا يقبل المعوقون بأن نقول لهم إن هؤلاء كانوا مجرد حثالة من الأوغاد، الذين سرقوا مالنا وزوروا تاريخنا؛ بل يحفظون لهم حق الاجتهاد في دمنا والحصول على أجر واحد، أو ربما أجرين!. والطريف في هذا العته المتزيي بزي الدين، أنه لا يني يطلب منا ـ بصفاقة عجيبة ـ أن يحكمنا، ثم يهددنا بالخلود في النار إن لم نقبل، وكأن نار حكمهم أقل ضراوة!.

لم يكن شكل الحكم الذي نبع من السقيفة سماوياً، بنفس القدر الذي لم يكن فيه شكل الحكم الأموي والعباسي والفاطمي والعثماني ـ بل والسعودي ـ سماوياً كذلك. ولئن قيل إنهم كانوا يحكمون الشريعة، فالسؤال الذي سوف يبزغ حينئذ سيقول: وأي شريعة هذه التي تجعل مال الدولة ملك الحاكم، وتترك الناس جائعين؟. أتدعون الناس إلى كراهية الله ودينه أيها التعساء؟.

لكن هل هناك حكم سماوي في الدولة؟. لو قلت لا لما كفرت، ولو قلت نعم لما أصبحت أعظم إيماناً. إن شكل الحكم في الدولة متروك للناس يختارونه بما يصلح أمور دنياهم. إنما جاء الحكم لإصلاح أمور الدنيا، بما لا يضر بأمور الآخرة. لقد طلب الإسلام من الناس أن يعبدوا الله ويحققوا العدل.

العدل هو أساس الملك، والخير هو أساس الدين. وإذا كان الخير جامعاً لكل معروف، فإن العدل يصبح أمرأً دينياً، على الحاكم أن يقيمه، وعلى الناس أن يرغموه عليه بحد السيف أو حتى بالقنابل الذرية.

يقول: أدورنو:

“ما من تاريخ كوني يفضي من العبودية إلى النزعة المحبة للإنسانية، وإنما هنالك تاريخ يفضي من المقلاع إلى القنبلة، التي تعادل قوتها قوة مليون طن من الـ(T.N.T)… إنه التاريخ الواحد الوحيد، الذي لا يزال يكر إلى هذا اليوم، مع وقفة بين الحين والآخر لالتقاط الأنفاس”(5).

لن ننال العدل بالدعوة الواهمة إلى إقامة النظرية الإسلامية في الحكم، لسببين بسيطين أولهما أنه لا وجود متحققاً لها في الواقع، ثم لأننا لا نعرف شكل حاكمها المتأثر بكل سيرورات التاريخ. إن دولة عمر وأبي بكر لم تكن بأمر من السماء، بل جاءت تحقيقاً لمصلحة أمة ناشئة وليدة تحبو في سلم الحياة، ولما تفطم إلا قبل قليل بموت نبيها.

كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأم التي أرضعتها وهدهدت سرير طفولتها، فلما أن أحست أنها شبت عن الطوق، وصار بإمكانها أن تأكل مما تنبت الأرض، غادرتها إلى رعاية الله ثم وعيها. وإن كل قول يحاول الالتفاف على هذه الحقيقة إنما هو نابع من الرغبة الملحة في العودة إلى مهد الطفولة.

ولئن كان مستبعداً أن يقوم فينا اليوم من هو مثل عمر، في مرقعته الشهيرة، ونعليه المخصوفين، والزيت الرديء الذي يقرقر به بطنه؛ فلقد يقوم فينا هارون أو الحجاج أو المنصور أو يزيد أو حتى عبد الحميد. ولقد حدث ما يشبه هذا بالأمس، وعانينا منه طويلاً، وأوصلنا إلى ما نحن فيه. ولعمري لقد كان حكماً من نوع قبيح كان ديننا يرفضه سابقاً، وظلت عقولنا ترفضه من يومه الأول حتى الآن، مهما طنطن به البؤساء من راسبي الثانوية، الذين فتحت لهم الكليات الشرعية أبوابها وافتتحت لهم به الأحلام. ويا لهول ما سنراه من أمثال هؤلاء حين يصبحون حكاماً!. أيحكمنا الراسبون ونسمي ذلك دين الله!. سبحانك هذا بهتان عظيم.

ولماذا نذهب بعيداً، هل من هؤلاء الحكام ـ الذين حكمنا بعضهم في العصر الحديث باسم الإسلام ـ من يقبل بأكل اللحوم المجمدة، كما يفعل ميسورونا اليوم؟. هل هناك أحد من الدعاة أو ومؤسسي الأحزاب الدينية من يرتدي ملابس من البالة كما نفعل نحن؟. إن ما نراه من مظهرهم ولباسهم ليقول لنا عكس ذلك تماماً، حيث نراهم يلبسون أفضل من هيلاري كلينتون، ويملأون بطونهم من أطعمة أجود من التي يتناولها أوباما؛ وكل ذلك من أموالنا المسروقة!. ثم دعوني أسأل: هل كان كل من تقي الدين النبهاني وحسن البنا يوزع كل مرتبه على الفقراء، ثم لا يبقي إلا ما يكفي لمرقعة وخبز جاف وكسرة بصل؟. أنا أعرف شخصياً ابنة النبهاني رحمه الله، حينما كانت موظفة في عيادة الرمال، وكانت تلبس الملابس العادية الغربية التي نلبسها، ولم تكن متحجبة بما يكفي لإرضاء أتباع الشيخ المرحوم. فهل كانت هذه الابنة غير متعلمة طريقة أبيها في الملابس الإسلامية؟. لا أظن ذلك، خصوصاً وقد رأيتها حسنة الإسلام، وسمعت منها الكثير عن حبها لأبيها واقتدائها به.

ـــــــــ

الإحالات:

1ـ العلم الجذل. ترجمة سعاد حرب. دار المنتخب العربي. بيروت. 2001. ص58

2ـ انظر: صحيح البخاري. تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر. ط1. المجلد3. دار طوق النجاة. بيروت. 1422هـ. ص139ـ140

3ـ الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة ـ شهادة صريحة ـ بالزنى، كانوا ثلاثة. فلما تقدم الرابع للشهادة، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “قُلْ ما عندك، وأَرجو أَن لا يهتك اللَّه صحابِياً على لسانك. فقال: رأيت نفساً تعلو، أو استاً تنبو، ورأيت رجليها على عنقه كأنهما أذنا حمار. ولا أدري، يا أمير المؤمنين، ما وراء ذلك. فقال عمر: الله أكبر. فأسقط الشهادة ولم يرها تامة”. الماوردي. الحاوي الكبير. ط1. ج13. دار الكتب العلمية. 1994. بيروت. ص227

4ـ علم الأخلاق. ترجمة جلال الدين سعيد. دار الجنوب للنشر. تونس. دون تاريخ. ص336

5ـ انظر: تيري إيجلتون. مفهوم التاريخ في الفكر 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى