تأملات في حديث نبوي(١).. الجزاء من جنس العمل
رضا راشد| باحث بالأزهر الشريف
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :《من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه》أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
والرفث في الحديث هو نفسه الرفث في حديث الصيام (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث )كما رجح الحافظ ابن حجر -وإليه نحا القرطبي-،مرادا به ما هو أعم من الجماع من كل تعريض به ومن كل فحش في القول ؛خلافا للرفث في آية الحج (..فلا رفث ولا فسوق )حيث يراد به فيها الجماع كما رجح الجمهور .
(ولم يفسق ) أي لم يأت بسيئة ولا معصية .[انظر في كل ما سبق: فتح الباري ٤٤٧/٣].
وقد بنى هذا الحديث كما هو ظاهر على أسلوب الشرط المكون من:
(*) أداة الشرط(من) .
(*)جملة فعل الشرط (حج…)معطوفا عليها جملة (فلم يرفث ولم يفسق ).[قال الطيبي:الفاء في قوله (فلم يرفث) معطوف على الشرط ،وجوابه (رجع)أي صار : [ فتح الباري ٤٤٧/٣].
(*)جملة جواب الشرط(رجع كيوم ولدته أمه )قال الطيبي《والجار والمجرور خبر للشرط ويجوز أن يكون حالا، أي : صار مشابها لنفسه في البراءة عن الذنوب في يوم ولدته أمه》[فتح الباري٤٤٧/٣]
فها أنت ذا ترى أن الحديث مبنى على أسلوب الشرط المقيد فعله بالعطف (فلم يرفث ولم يفسق) ،والمقيد جوابه بالحال (.كيوم ولدته أمه)..وجملة الحال التى هي قيد للجواب هى أسلوب تشبيه ،
شُبِّه فيه الحاجُّ منتفيا عنه الرفث والفسوق به( نفسه) حال أن ولدته أمه .
ووجه الشبه : البراءة من كل ذنب ،كما سبق بيانه في عبارة الطيبي رحمه الله .وكما رجح الحافظ ابن حجر في قوله (رجع كيوم ولدته أمه ؛اي بغير ذنب ،ثم قال :وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات )[فتح الباري٤٤٧/٣]
***
كما قلت: لم يُبْنَ الحديث على أسلوب التشبيه بل بني على أسلوب الشرط؛ ثم جاء أسلوب التشبيه مطويا في كنف الجواب قيدا له بالحالية ،لكنه بمجيئه في هذا الموقع قد تكفل بتحقيق مقصد الشرط بالحث والحض على الفعل تأتيا للجزاء ؛ثم بتحقيق غاية التناسب بين الشرط والجزاء على نحو ما سنرى بتوفيق الله .
فما فائدة قوله صلى الله عليه وسلم 《رجع كيوم ولدته أمه..وأن لم يقل مثلا :(غفر له ما تقدم من ذنبه ) ،كما قيل في صوم رمضان مثلا ؟
والجواب وبالله التوفيق ،لعدة فوائد:
(*) الفائدة الأولى :
نفي توهم المبالغة ؛إذ لو جاءت أي عبارة أخرى لربما فهم أن الأمر على سبيل المبالغة، وأنه يغفر له صغار الذنوب دون كبارها؛ لكن التشبيه دل دلالة صريحة على أن من حج بهذه الصفة تمحى ذنوبه كلها: صغيرها وكبيرها؛ لأن الطفل يوم تلده أمه لا ذنب له إطلاقا.
(*)الفائدة الثانية :
تحقيق التناسب بين الشرط والجواب من باب《 الجزاء من جنس العمل 》 ؛وذلك ببيان أن الحاج -بإحرامه لله في إزار ورداء متجنبا المحيط والمخيط -قد أشبه الطفل ساعة ولادته في ظاهره حيث يلف في خرقتين باليتين على ما معتاد ، فكان حقا على الله تعالى بجوده وكرمه أن يعيده طفلا في مخبره بالنقاوة من الذنوب كما خرج لله طفلا في مظهره .وذلك ما لم يكن ليتحقق لو كان قيل (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر )،مثلا.
(*) الفائدة الثالثة :
الحض على المبالغة في التجرد من الرفث والفسوق؛ بما أضفاه التشبيه على فعل الشرط من معنى لم يكن ليكون لو لم يذكر التشبيه؛ وذلك أن الجزاء عظيم (خرج كيوم ولدته أمه ) فكان لابد أن يكون الفعل عظيما؛ لأنه لا يجازى بالكثير ثوابا على القليل عملا [ولهذا كان من علامات الوضع في الحديث أن يتضمن الحديث ثوابا عظيما على عمل قليل ]؛فدل الثواب العظيم على أن العمل أيضا عظيم؛ وهذا ما لا يتحقق بمجرد انتفاء الرفث والفسوق عن الحاج، بل ببلوغ الحاج في التجرد عن الرفث والفسوق مبلغ الطفل ساعة ميلاده ؛ لأنه لا يملك آلته أصلا، فالطفل لا يرفث ولا يفسق ليس لأنه لا يريد بل لأنه لا يستطيع ؛ فلا لسان له يتكلم، ولا عقل بفكر ولا قلب له يبغض فيكون منه الرفث والفسوق .ومعنى هذا أن الحديث بهذا التشبيه كأنه يخاطب الحاج قائلا :إذا أردت أن تعود من حجك خاليا تماما من الذنوب فكن في تجردك من الرفث والفسوق كالطفل الذي لا يملك ما يرفث به أو يفسق من لسان أو عقل أو قلب .
(*) الفائدة الرابعة :
الحض على التجرد الكامل من شوائب الدنيا مظهرا ومخبرا، بنسيان كل ما يميزه عن غيره من اسم أو لقب أو غنى أو مُلْكٍ أو عزة أو سيادة ..إلخ ؛ لأن الطفل ساعة ميلاده لا يعرف له اسما، ولا نسبا، ولا حسبا، ولا غنى، ولا ملكا …وما إلى ذلك مما يُفتَخَر ُ به ويُتَكَبَّرُ بسببه على الناس .
فمن أراد أن يعود من الحج طفلا نقيا من الذنوب صغيرها وكبيرها ،فليخرج إلى الحج طفلا في مظهره بالإحرام، طفلا في مخبره بالتجرد الكامل من الرفث والفسوق؛ ثم بالتجرد الكامل من كل ما يشوب القلب من الآفات :فلا حقد، ولا حسد، ولا بغض، ولا شنئان، ولا كبر، ولا خيلاء، ولا دعاء بدعوى الجاهلية ، ولا افتخار بحسب ولا بنسب ولا بمال ولا بملك ؛بل يجب عليك أيها الحاج أن تنسى في الله اسمك وذاتك وحسبك ونسبك ،كالطفل يوم مولده لا يعرف له اسما ولا نسبا ولا حسبا ولا ملكا فضلا عن ان يفتخر بشيء من ذلك.
أرأيتم كيف كان هذا التشبيه النبوي البليغ أداة حض على بلوغ الحاج أعلى مراتب العبادة بفناء ذاته وتلاشيها في حب من خرج حاجا لله ..لينال بذلك المرتبة الأسنى في غفران الذنوب ؟
أو علمتم منزع الحافظ ابن حجر رحمه الله في قوله (وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات)؟
فاللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل .
واللهم حجة بعد حجة تبلغ بنا ما أردته منا (فلم يرفث ولم يفسق)؛تحقيقا لما وعدتنا به (رجع كيوم ولدته أمه).
وبالله التوفيق.
يتبع إن شاء الله