سياسة

جمدوا خلافاتكم وتعالوا إلى كلمة سواء

نهاد أبوغوش | فلسطين
شكل صمود مخيم جنين، وما رافقه وما تلاه من عمليات للمقاومة امتدت لمناطق مختلفة في الضفة الغربية، لطمة لمنطق الغطرسة والعنجهية الإسرائيلي الذي يعتقد بقدرته على حسم صراعه مع الفلسطينييين بقوة الحديد والنار والقتل والدمار. وما زال يظن بأن ما لا يُحلّ بالقوة يمكن حلُّه بمزيد من القوة. ولا حاجةَ لدى أصحاب هذا المنطق للنظر إلى جذور هذا الصراع وأسبابه العميقة، ولا ضرورة عندهم أبدا للتفكير في أسباب عناد الفلسطيني، وإصراره على المقاومة على الرغم من الخسائر الثقيلة التي تلحق به بعد كل جولة قتال وعدوان.
ألحق العدوان الأخير خسائر مؤلمة لأهالي مخيم جنين والمحافظة بشكل عام، تمثلت بارتقاء اثني عشر قمرا من خيرة أبناء الشعب الفلسطيني، وأكثر من مئة وعشرين جريحا ومثلهم من المعتقلين، وبتدمير واسع للبنية التحتية، تهجير واسع لآلاف السكان (هذه وحدها جريمة حرب بحسب شهادات منظمات دولية متخصصة وحيادية). قد تبدو هذه الكلفة عادية، ومألوفة قياسا بحجم المعركة والكميات الهائلة لأدوات القتل الفتاكة التي دفع بها الاحتلال لهذه المعركة، فضلا عن بطولة المقاومين، ولكن علينا ألا ننسى أن هذه الخسائر الكبيرة وقعت في مخيم مثخن بالجراح وصغير نسبيا ، ولعائلات فقدت عددا كبيرا أبنائها وأعزائها خلال الاعتداءات السابقة التي تخللتها سلسلة من المذابح الصغيرة والمتوسطة.
الخلاصة الأبرز في هذه المعركة/ الملحمة هي فشل الاحتلال في تحطيم النموذج الذي مثله مخيم جنين، والذي ظل يقاتل ويقاوم حتى اللحظة الأخيرة، وفق ما وثقته عديد المحطات الفضائية وعشرات الصحفيين المتواجدين في الميدان، بل إن نطاق المواجهة اتسع ليشارك به المواطنون بكل ما تيسر لهم من مواد يمكن إلقاؤها على جنود الاحتلال وآلياتهم المدرعة المنسحبة تحت وابل المقذوفات الشعبية هذه.
كل الأكاذيب التي روّجها الاحتلال ليبرر عدوانه يمكن دحضها بسهولة، وبخاصة الحديث الملفق عن وجود بنية تحتية ل”الإرهاب” كمعامل ومختبرات لصنع العبوات ومنصات الصواريخ، فالتخطيط لهذا الاجتياح سبق الكشف عن هذه الأدوات بشهور، كما أن قوات الاحتلال اجتاحت المخيم عشرات المرات فنفذت عمليات الاغتيال والاعتقال والهدم، فإذا أضفنا لذلك السيطرة الكاملة على أجواء المخيم ومداخله ونظام الاتصالات، يصبح من المتعذر نشوء تلك البنية التحتية المزعومة. ولكن ما فات قوات الاحتلال وقادتها ومفكريها أن البنية التحتية للمقاومة تكمن في الإنسان، أي في قلوب الشباب ووجدانهم وإرادتهم وإيمانهم بحقهم، وهذه مقدرات لا يمكن كسرها أو تحطيمها لا بعملية محدودة ولا باجتياح واسع، ودائما تثبت صحة المعادلة بأن قدرة أدوات القتل الفتاكة محدودة، بينما قدرة الصمود وآفاق الإرادة الإنسانية غير محدودة ابدا.
مثل تشييع جثامين الشهداء أكبر استفتاء على مكانة المقاومة في وعي الناس، وبخيار المقاومة باعتباره خيارا مشروعا أولا، ومؤثرا في معادلة الصراع، وهذا بالضبط ما تخشاه إسرائيل من أن يتحول مخيم جنين إلى نموذج يُحتذى في سائر الأراضي المحتلة، وأن يصبح هذا الشكل النضالي هو الشكل الرئيسي للمرحلة المقبلة، ولذلك عملت آلة الاحتلال كل ما في وسعها وطاقاتها التدميرية المشحونة بالحقد والكراهية، على تحويل المخيم من رافعة للنضال الوطني وقاطرة تقوده في مرحلته الجديدة، إلى عبء على الناس وحياتهم وسلامتهم وأرزاقهم، لتخلق وعيا جديدا مفاده أن المقاومة وحدها هي سبب معاناة الناس ومتاعبها.
ملحمة جنين رفعت الروح المعنوية الفلسطينية، وخلقت مزاجا شعبيا واثقا بجدوى النضال، ولكنها لم تبدد كل السموم والأدران التي علقت بنا خلال سنوات الانقسام البغيض، وهنا كادت تقع الكارثة فتنحرف البوصلة باجتماع الحسابات الفئوية مع الرعونة والطيش وقلة الأدب وغياب روح المسؤولية، ووقع التصرف المشين تجاه وفد اللجنة المركزية لحركة فتح برئاسة نائب رئيسها الفدائي محمود العالول (أبو جهاد)، بما يفضي لو ظل هذا الاتجاه قائما بأن يقدم الفلسطيني ما عجزت عنه آلة القتل والدمار.
صحيح أن الحادثة لم تأت من الفراغ، وسبقتها حملات تحريض وتجاذبات واتهامات متبادلة، وملاحظات محقة وأخرى غير محقة تجاه دور السلطة والفصائل والأطراف المختلفة، ولكن الصحيح أيضا أن ما جرى تزامن مع تحولات ملحوظة في الموقف الرسمي تلت محرقة ترمسعيا، وتعززت خلال معركة جنين وعنوانها التأكيد من قبل أعلى المستويات السياسية على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، والدعوات لتفعيل القيادة الوطنية الموحدة ولجان الحراسة، وكيف ينبغي استقبال المستوطنين الذين يهاجمون القرى وصولا إلى دعوة الرئيس لاجتماع الأمناء العامين، وهي كلها مبادرات مهمة ينبغي التقاطها والبناء عليها، واشتقاق المهمات العملية المناسبة منها ومن واقع الهجوم الشامل الذي تشنه إسرائيل على الشعب الفلسطيني بهدف إخضاعه وحسم الصراع معه وتصفية حقوقه الوطنية.
بعد الواقعة المدانة في استقبال قيادة فتح، نشطت آلة التوتير والانقسام على نحو لم نشهده خلال الأعوام القليلة الماضية، واستُنفرت العصبيات، واستُصدرت البيانات بنفس المضمون واللهجة والاتجاه من قبل أوساط نقابية وحكومية وفصائلية، والأخطر ما شهدناه من لغة التهديد والوعيد من قبل مجموعات تنسب نفسها لتشكيلات المقاومة، بما يزيد من تسميم الأوضاع ويصب في خدمة أهداف الاحتلال.
لا يحتاج قائد بحجم أبو جهاد إلى شهادات من أحد، ولا إلى رد اعتبار، كما أن مكانته المرموقة لا تأتي فقط من تاريخه الشخصي وسيرته النضالية، بل كذلك مما يعلَّق عليه من آمال بأن يتولى إدارة وتوجيه دفة الحركة الوطنية بكل فصائلها للمرحلة المقبلة، فالعدوان لم يتوقف، وما اجتياح مخيم جنين إلا حلقة من حلقات الهجوم الشامل الذي يتمركز في القدس ويهدف لتهويدها واستكمال التطهير العرقي للمواطنين الفلسطينيين، ويشمل غزة عبر الاعتداءات المتكررة عليها وكل الأراضي الفلسطينية وخاصة في الريف والمناطق المصنفة (ج) تمهيدا لفرض الحل النهائي، وهنا بالضبط يحتاج الشعب الفلسطيني إلى جهود كل أبنائه، فلتوضع الخلافات الفئوية الجدية والمصطنعة جانبا، جمدوا خلافاتكم وتعالوا إلى كلمة سواء، وليعمل الجميع على برنامج عمل موحد على قاعدة القواسم المشتركة لصد الهجوم العدواني الداهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى