أدب

بلا أصابع

القاصة: هند يوسف خضر|سورية

       كانت ندف الثلج تتساقط على خيوط الليل كقطع القطن، عندما سمع يوسف صوت صرخة دوت في كل أرجاء بيت جاره سعيد ذهب إليه راكضاً ،حافي القدمين ،عندما وصل شاهد دماء الطفلة شغف التي لم تكمل عامها الخامس تصبغ أرض الديار، تنزف من أصابع يدها اليمنى الغضة، فقد أُغلِق على يدها باب الدار الحديدي فتسبب بقطع إصبعين،صوت ألمها يعلو شيئاً فشيئاً إلى أن فقدت وعيها فانشلت حركة والديها..
حملها وأخذ يركض في الشوارع المدلهمة كانت ضربات قلبه تزداد مع ركضه ليحضر سيارة كي يسعفها ،عوامل الطقس لم تكن تساعد يومها ،لكنه بصعوبة وتحت الثلج وجد سيارة تقف في نهاية الشارع ،هرول إليها وهو يتمتم:
الحمدلله -الله يريد إنقاذ هذه الطفلة -الحمدلله …
صعد بالسيارة وطلب من السائق التوجه فوراً إلى المشفى، دخل المشفى وقد أصيب الطاقم الطبي بالذهول عندما شاهدوا يوسف حافي القدمين،
الطبيب المناوب: هدأ من روعك ابنتك بخير سنجري لها عملية فوراً وستكون على ما يرام، أخفض يوسف رأسه،
الطبيب: الحمد لله على السلامة أوقفنا النزيف لكنها خسرت إصبعين من يدها ،
اهتموا بها في البيت،وهذا الدواء يجب أن تأخذه بانتظام
يوسف: سأتحدث مع ذويها
الطبيب: لستَ والدها من تكون أنت؟
يوسف: أنا جارها
الطبيب: مازال هناك أشياء جميلة في الحياة (الله يكثر من أمثالك في هذا الزمن الهابط)
بعد عام دخلت شغف المدرسة، فقد لاحظ الجميع أن شغف تستخدم اليد اليسرى في الكتابة وهذا ما خفف من ألم أهلها ومعلميها، لقد تعرضت كثيراً لسخرية زملائها التلاميذ و قهقهاتهم عندما كانوا يرددون:
شغف،بلا أصابع أنت، عودي إلى منزلك فأنت مختلفة عنا ،هذا ما كان يحدث في حصة الرسم وكانت في كل مرة تبكي بصمت دون أن تراها المعلمة ودون أن تخبر أهلها، لمحتها ذات مرة تغرق في دمعها وعندما سألتها عن السبب علمت أن رفاقها يتنمرون عليها ،عاقبت الجميع ونادت عليها،طلبت منها أن ترسم ما يخطر ببالها، وكانت الدهشة عندما رسمت بأنامل يدها اليسرى لوحة بطريقة احترافية،اكتشفت موهبتها، اهتمت بها كثيراً ،وحتى التلاميذ أصبحوا من أهم المشجعين لموهبتها ..
كبرت شغف وكبرت معها تلك الموهبة، أصبحت فنانة تشكيلية ذاع صيتها في البلد ،رسمت ذات مرة لوحة وشاركت بها في إحدى معارض الرسم، دخل أحد الزوار وكان رجلاً مسناً، وبدأ يتأمل اللوحات المعروضة وبدا عليه أنه يبحث عن لوحة لشخصية محددة،حدقت به كثيراً وهي تقول: هذا الوجه ليس غريباً عني ،لو أتذكره – لو تسعفني ذاكرتي -آه تذكرت ..
ألستَ العم يوسف؟
نعم يا ابنتي وأنت الفنانة التشكيلية شغف إن لم أكن مخطئاً
نعم صحيح ،يا الله ما هذه الصدفة !أكاد لا أصدق فأنا لم أعد أعرف أخبارك بعد أن غيرت عنوان السكن ، أتذكر حينها كنت في الصف التاسع
لقد جئت لأشتري لوحة من رسوماتك فاسمك على كل لسان
بمحاولة منه ليعطيها النقود، نادت على جميع الحضور والمهتمين وقالت: هذا العم له عليّ دين كبير، رفعت يدها اليمنى، انظروا لقد فقدت إصبعين عندما كنت طفلة وكان الجو مثلجاً والصقيع ينهش المكان،أسعفني وهو يركض بلا حذاء ،فعل كل ما بوسعه لإنقاذي ،جاء دوري لأرد له المعروف وأقدم له هذه اللوحة المغطاة كهدية
أرجوك ..ارفع الغطاء يا عم
رُفِع الغطاء،ذُهِل الجميع ،بكى العم يوسف عندما رأى لوحة لطفلة فقدت أصابع يدها يحملها رجل على راحتيه لينقذها في ليلة ثلجية ممزوجة بالدماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى