الفكر النهضوي العربي وقوة المشاكلة بين الـ (ذات) والـ (آخر)
بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
كان ولم يزل الفكر النهضوي العربي يعاني من إشكالية كبيرة وهامة في بنيته وماهيته وجوهره، فقد كانت ومازالت ملامحه غائبة عن معرفة ورؤية المشتغلين من المفكرين والفلاسفة وكبار المثقفين على مفاهيم التحديث والتطوير والتخلف والتراجع، عبر الأجيال العربية التي عاشت في القرنين الأخيرين. وذلك لعدم الانتباه الشديد لموضوع الفصل بين السياسي والنهضوي الحالي، وهذا يعني أنَّ أسئلة النهضة العربية كانت متميّزة عن الظروف الموضوعية الحالية التي تحيط بها. وفي مقدمتها الضغوط السياسية الهائلة التي كانت بمثابة تحديات مصيرية لمستقبل الأمة العربية، فقد كانت تتجاوز الهموم الفكرية الخالصة من أجل استمرار وجودها وكينونتها، وهو أمرٌ أصبح مألوفاً نوعاً ما، ومفهوماً لأمتنا العربية التي وقعت ومازال بعضها يقع تحت تسلط القوى الإستعمارية الكبرى، إنَّ بالوجود العسكري الأجنبي المباشر أو من خلال القواعد العسكرية المنتشرة في معظم بلداننا العربية، أو بالتبعية السياسية والاقتصادية والأمنية، تلك القوى هي التي حرمت بلداننا العربية من الاستمرار في التطور والتقدم وبناء حضارة عربية حديثة. منذ الحملات الاستعمارية الصليبية المعروفة بحروب الفرنجة، والتي دامت نحو مئتان وتسع سنوات، ومنذ الاحتلال العثماني لوطننا العربي الذي استمر طيلة أربعمائة سنة تقريباً، وجاء بعدها الإستعمار الغربي ممثلاً ببريطانيا وفرنسا وإيطاليا، والكيان الصهيوني والولايات المتحدة الامريكية، هذا الاستعمار امتاز بالتفوّق التقني والحضاري. لذا فقد كان الوعي النهضوي العربي مشدوداًعلى نسقٍ واحد ووتيرةٍ واحدة، يحتلها ويسيطرعليها عنف المضاهاة والمشاكلة بين (الأنا) و(الآخر).هذا العنف هو الذي يغذي حالة سيكيولوجية الاضطهاد الجمعي كما يقول الفيلسوف وعالم النفس السويسري (كارل غوستاف يونغ Carl Gustav Jung) (1875 ـ 1961)م، هذا الاضطهاد يقع تحت وطأة الشعور بالدونية التي تسلب الإرادة والقوة، نتيجة سيطرة وطغيان (الآخر)، ليس فقط بما يملك من قوةٍ ماديةٍ وعسكريةٍ واقتصادية، بل بأسرار الشخصية الحضارية الغامضة، بالغة التعقيد المتخفية خلفها.
فقد نشأت الكثير من الحالات التي أصابت مجموعة من الناس الذين يعيشون حالةَ (وُهَامُ الاضطهاد Persecutory Delusion) كونهم تعرّضوا وما زالوا يتعرضون للقهر والظلم والملاحقة والاضطهاد. لذا يعتقدون أنهم يتعرّضون لــ وُهَام الاضطهاد لأنهم يعانون من الأوهام التعسفية التي انتشرت في بلداننا العربية، وهو شكلٌ من أوهام الفصام البارانويدي حيث يشعر الشخص بأنه ملاحق من قبل الأجهزة الأمنية أو قوى الجيش، ويشعر بأنَّهم يتجسَّسون عليه. كل ذلك نتيجة حكم الطغاة والمستبدين وممارستهم أبشع أنواع القهر والتعذيب والسجن والاعتقال والسحل. هذه العلاقة المتعارضة والضدِّية بين (الذات) و(الآخر) هي التي تحكَّمت في ترسيخ وتأسيس الدوافع الأولى للحراك العربي العام الموصوف بالحراك الاجتماعي العارم. وهذا ما أدّى إلى إعاقة نشأة الفكر الأصيل بما يرجع أولاً لذاته وكينونته. فكان انشغال النخبة الثقافية العربية بابتكار العديد من الحلول المؤقتة لتراكم المعضلات والقضايا والمشكلات العامة الحالية والطارئة، وهذا ما يجعل النهضة العربية بعيدة عن طرح الأسئلة الرئيسية، المتعلِّقة بالعقل العربي نفسه الذي سعى ويسعى إلى فهم الواقع على حقيقته، والتعامل معه بعقلانية وموضوعية. وفي حين تقع التبدلات والمتغيرات الواقعية من سياسة واقتصادية وثقافية وحتى العسكرية بكل حمولاتها وثقلها من حول الإنسان العربي، إلّا أَّن طريقة وَعْيهِ تظل في منأى عن مساءلتها لأجهزتها المعرفية، وقد راحت تمارس عاداتها الذهنية التقليدية السائدة آنذاك، خاضعةً للمعايير ذاتها التي يتبناها الفهم الجماهيري الجمعي التقليدي العام لقضايا العالم من حوله. وهذا ما عبّرت عنه الفلسفة بالقول إنَّ حالة ما قبل المعرفة أو الحالة اللامعرفية، تتابع سطوتها وطغيانها على الحالة المعرفية البَعدية التالية، اللاحقة بها. وهذا يؤدّي صراحةً أنه إذا كان العقل العربي يرى العالم من خلال منظار أسود ومظلم، فسوف يستمر في رؤيته أسوَداً مظلماً، وإن كانت تجتاح العالمَ الرياح العاصفة والأنواء والأعاصير الجارفة، والأضواء اللامعة من كل جهة. إنّ فهم العالم لا بدَّ أن يكون كونياً عالمياً من طبيعة موضوعه بالذات، بينما بات ينوء الوعي العربي أخيراً تحت أظلَمُ رِدَّةٍ عرفها تاريخنا العربي نحو بدائيته الأولى الخاصة.
من هنا كانت ثنائية (الذات) و(الآخر) التي أدارت وتحكمت في مسيرة النهضة العربية، تفجّر مراحل ودورات جدليتها التاريخية عبر معارك لا طائل تحتها وعقيمة، ما دامت لم تتمكن من أن تتعامل مع (الآخر) إلا(بذات) أنظمتها المعرفية وقوانينها الخاصة بها التي تتعامل بها مع نفسها، وتدير شؤونها بنفسها لذلك كانت معظم الحقب التاريخية النهضوية تعيد صياغة وانتاج نفس مخرجات الحقبة التي سبقتها. والسبب الرئيس الهام في هذا السياق هو أنَّ الفكر النهضوي العربي مُعاق ولم يكن متعافي في يومٍ من الأيام، سواء أكان اتجاهه نحو تفكيك عُقَدِ (الذات) والكشف عن آليات تكوينها وماهيتها وتركيبها، أو سار نحو فهم (الآخر) في محاولة ممارساته المعادية الضدية، وصولاً إلى فهم أعماق فكرة تفوقه وصعوده، من هنا نجد أنَّ معظم الأسئلة المعرفية في حالة عطالة لأنها ترزح تحت وطأة البحث المتواصل عن طرق ووسائل الدفاع الحالية لدى (الذات) للرد على تخرصات وتحديات (الآخر) الذي غالباً ما يفرض حالةً من الصراع الدموي الحاد من خلال هجوماته الحضارية وغزواته الإستعمارية المتواصلة، لذا كان وقوع الوعي النهضوي العربي تحت وطأة إشكالية التقليد والمشابهة، وتظاهرات المماثلة، وحالات الاندماج حدّ التماهي مع (الآخر)، والردّ الصريح والواضح عليها بالرفض الحدّي تارةً، أو تجاهل إشكالية العلاقة ومآلاتها أصلاً، والاعتراف الضمني والظاهري بخطرها تارةً أخرى، وهذا يشكّل سيكولوجية متراكبة متشابكة ومعقَّدة، مانعةً مقدماً، للبحث والتقصي عن أيِّ عمليةِ تجسيرِ تواصلية صحيحة وسليمة بين تكوّن ونشوء أسئلة (الذات) عبر (الآخر)،وبين عملية اكتساب وتنمية الأجوبة الصحيحة والمناسبة التي تخصّ (الذات) وحدها دون غيرها، باستقلال أنطولوجي عن عنف وقسوة الثنائية الصراعية عينها بين القطبين المفترقين أو المتوافقين في اتجاهاتٍ معيّنة، بحيث آن أصول التطوّر والتقدم وشروطه المتعدّدة، ما كانت لتنبع من حالة المجتمع وظروفه وإمكانياته الخاصة به.
لذا فإنَّ جدلية المثاقفة مع (الآخر) كانت ممتنعة عن التحقق التلقائي. وهذا الامتناع كان صريحاً وواضحاً. ولأنّه كذلك كان البديل الدائم عنها هو سهولة التقليد والمشابهة والمقاربة. إذ أنَّ المثاقفة بين (الأنا) و(الآخر) تتطلَّب إمكانية التبادل. في حين أنَّ المجتمع بكل مكوناته المحجوزة في إسار تأخره التاريخي منذ الصيرورة وعبر السيرورة التاريخية،عندما يُفاجأ بكل فعاليات (الآخر) المتطوّر والمتقدم عليه في كل شيء، لا تسمح له صدمة المفاجأة المتواصلة والمستمرة أن يتجاوز عتبة ردّ الفعل الغريزي العفوي، المتمثِّل في الاندفاع العفوي القوي وراء جاذبية التقليد المباشر دون محاكمة عقلية أو منطقية، القائم فقط على فعل الأخذ من (الآخر)، دون أن يملك القدرة على إعطائه ما يقابله. فالتقليد والاحتذاء والمماثلة هو أخذٌ بدون عطاء، بينما لا تولد المثاقفة والتفاعل بين الثقافات تأثيراً وتأثّراً لا يكون إلا نتيجة الاتصال الحاصل بينها، واحتكاك بعضها البعض. كما أنّ لايِّ منا أن يكون إلّا من خلال جدلية الأخذ والعطاء معاً على أن يُفهم العطاء هنا تجديداً لـ (الذات)، لذا فإنَّ الهوة الكبيرة قاطعة بين الموقفين: المثاقفة والتقليد. وقد يتمادى التقليد والاحتذاء والإتباع حتى التغلغل في نسيج المثاقفة. وكثيراً ما تكون علّة تعثر وخلل الفعل النهضوي العربي ناجمة عن ممارسة المثاقفة والتفاعل بين الثقافات وتبادل المعرفة كامتداد لآليات التقليد والاتباع عينها، ولكن عبر التباساتها بمظاهر التطوّر والتقدم الزائفة والمبهمة نوعاً ما كونها غير حقيقية. في حقبة الانبهار الأوَّل والتأثّر السريع والاندهاش والإعجاب باكتشاف الغرب، سيطرت ثنائية أوروبا الغربية والشرق على بدايات الفكر النهضوي العربي. فاحتلت أوروبا في ظاهر الأمر وفي البداية موقع النموذج الذي يفرض على (الآخر) أفعال المضاهاة والمشابهة بين أحواله المتردية والصعبة والقاسية، ومزايا النموذج الطاغي المستبد،والمشابهة والمضاهاة لم تكن تخرج عن المقارنة بين مظاهر القطبين على الرغم من الاختلاف الكبير بينهما، ليس بهدف تفكيك مفاعيل وعوامل كل منها، بقدر ما كانت المقاربة والمقارنة مشفوعة بإطلاق التقييمات وأحكام القيم من تفضيل وتحبيذ لــ(الآخر) أو لـ (الذات)، أو من رفضٍ ونبذٍ للمعتقدات وتسفيهها والانتقاص منها، ورفض المسالك الفردية والعامة. فقد كانت الدوافع نحو المقاربة والمماثلة إلى درجة التماهي الكامل مع النموذج المتقدِّم والمتفوِّق من ناحية الشعور بالدونية والانتقاص من الــ (ذات) أي (الانا)، ومن ناحيةٍ ثانية تُحرِّضُ على الرفض والممانعة، والمدافعة بتطوير وتحديث نزعات الاستعلاء والرفض المعاكس. والتراجع والتقهقر نحو الماضي التليد وفردوسه المفقود. وفي مثل تلك الأحوال والظروف القاهرة والبائسة من الانغمار والاحتضان تحت موجات أحكام التقديرات والقيم والنواميس الصادرة بحق الــ (آخر)، ومرَّةً ثانية بحق (الذات)، ما كان مقدَّراً للفكر الحواري النقدي أن يُولَد بسلام وعافية ودون عوائق، أو يستقل عن سلطة المضاهاة والمشاكلة الفورية.
إن السؤال المعرفي (الأبيستومولوجي) الذي طرحه المفكر النهضوي وعالم الدين والفقيه والمجدِّد الإسلامي محمد عبده ( 1849 ـ 1905) م عن سبب تفوق الغرب (المسيحي) وتقدّمه، وتأخر الشرق بشكلٍ عام والشرق العربي المسلم بشكلٍ خاص، لا يزال معلقاً في الفراغ اللامتناهي. ولم تأتِ أي أجوبةٍ عليه، وبدءاً من المفكر محمد عبده نفسه الذي أعلنه صراحةً، باكتشافات بنيوية واقعية أو فكرية إلّا من خلال سيطرة لثنائية جديدة، ذات موسيقا ورنّة بلاغية خاصة ومميزة لها وقعها اليوم في العالم. وهي الحداثة والأصالة، وتناظر ثنائية الـ (ذات) والــ (آخر). فتغدو الـ (ذات) محلاً مرجعياً للأصالة والماضي الذهبي، والثقافة العربية العميقة، ويظل الـ (آخر) مالكاً حصرياً للحداثة والمعاصرة، موزّعة بشكل متفاوت على بقية دول العالم. وبذلك مرَّ الوعيَ النهضويّ العربي، في مختلف أزمانه وأحقابه طرْحُ إشكالية الحداثة والمعاصرة ،والتقدم والتطوير والتحديث من أصولها (الأنطولوجية) الوجودية ـ أي ما بعد الطبيعة ـ تحت فورةَ طغيان التقييم المعياري وشدته الذي يمارسه التمييز والفرز والغربلة الاحتكاري لمصطلحيْ الأصالة والحداثة والمعاصرة، وذلك كلما ظهرت في مراحل ومفارز ومنعطفات الحدث التاريخي الهام والمؤثِّر، ملامح موضوعيةً لثقافة التأسيس والتكريس في المختلف والمتنوع وضرورتها الهامة والمطلقة الحيوية بالنسبة لتحوّلات وتبدلات المصير العام، كما أوضحته النّخبُ الفكرية والثقافية والمعرفية، من أزمةٍ كارثية خطيرة إلى أزمة أخرى، فكيف يمكن الحديث عن الحداثة وميزاتها ودورها الهام بدون عقل حداثوي ؟ أو كيف يكون الحديث عن المعاصرة بدون عقلٍ معاصر؟
في حقيقة الأمر نعلم أنّ إشكالية الحداثة واستطالاتها ترجع أساساً إلى ما يعانيه العقل من إشكاليات واستطالات التي لم يتم طرحها عند مفكري النهضة العربية بشكلٍ عام إلا من خلال ما يجب تبنيه سواء من الأفكار والمفاهيم والآراء، أو المذاهب وتفرعاتها، وصولاً إلى الأيديولوجيات وزمنها. أو ما لا ينبغي الأخذ به . لم يجرِ الانتباه إلى المبدأ القائل أنَّ العقل الحداثوي المتطوّر هو ما ينبغي أن يكون أوّل الأمر موضوع استفهامه البدئي الأوّلي لذاته من خلال مختلف إنتاجه وما يقدِّم، فقد اقتصر التفاعل والتعامل مع العقل بشكلٍ عام، وليس من تم وصفه بالحداثوي بَعدُ، كما لو كان جهاز اختيار للأفكار الجاهزة وانتقادها التي يلتقطها من محبين ومغرمين بالغرب وما ينتجه من بضائع ، والآخر لمأثورات الثقافة المكتنزة والتراث الغني الثر. فبعد إفلاس كل مجموعة أو كل جيل من طوائف تلك الآراء وتلك الاستعارات، يعود العقل المتوهِّج إلى اكتشاف غربته الأولى وما فقده إزاء كل ما كان استعاره من سلع وبضائع الآخرين ودمجه في كيانه .كما لو كان من نتاجه ومن علاماته وإشاراته، لكنه سرعان ما يغطي غربته السالفة باستعارة أدلجات آخرى قادمة من خارجه. لذا فإنَّ تاريخ الأفكار النهضوية العربية لا يكشف عن حركة تطور أو نمو في مسيرة وعي وفهم متكامل بقدر ما تبرز المشاهد المعرفية والثقافية عبر جولات ونقلات بين أنظمة ذات صيغ سياسية أكثر منها قضايا فكرية، تلبي العديد من الحاجات الآنية المرتبطة بالتحولات البنيوية ومتغيرات الظروف العامة المحيطة بالمجتمعات خلال مراحل الاستعمار الكولونيالي، وما تلاها من مرحلة الاستقلالات الوطنية والتاكيد على بناء الدولة الحديثة.