شيء من الحرية قبل أن يندثر في أوطاننا الإنسان!
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
نحاول دائما أن نفهم الأشياء البسيطة.. أو نترجم لغتها.. هذه الأشياء التي يتعذر علينا الفهم ــ إلا طرفا منها تظل تراودنا من حين لحين، تطل من وراء الوعي، ومن خلف حجب العقل.. تظهر في لمحاتها .. تحاور وتداور، وتناوب التواصل،هذه اللغة غير المعلومة والمنطوقة ، ترهقنا بين اللحظات وتثقلنا في صياغة تأويلها الكلمات ..
هذه الحياة الداخلية التي تحكمنا دون أن نحس وتحدونا دون أن نشعر بها، في الانفعالات، في اجترارات الذاكرة من أعماق العقل وأغوار النفس، في الكلمة التي تخرج عفوا أو تحبس خشية؛ وفي الكبوة التي تطيح بالآمال والأحلام ، وفي الفقد الذي يقطع أوصال النفس ويعمي على معالم المستقبل وعطاءات الأيام، وفي الرجفة التي تعيق الطريق، وفي الدفقة الشعورية التي تنير الدرب أحيانا!!..
يقضي الإنسان عمره باحثا عن فهم ذاته وما يفسر طلاسمها، وما يعتريه ويعتريها من حال لا يدري له تأويلا ولا تحليلا، ليحقق هذه الحالة من الوئام النسبي بين المطبوع المجهول (النفس)، وما حوله من رسوم التقاليد وحتميات الشكل الاجتماعي.. تلك الاشياء القريبة البعيدة، من ذواتنا وعن أفهامنا، و التي يعزب تفسيرها، حين تكون جزءا من حياتنا وأفكارنا، بل ربما تصيغ من طرف خفي أفعالنا وذواتنا.
وبين كل هذا وذاك من الواردات الخفية التي تتسلل إلى بؤرة العقل، تختزن بين مساراته، وتعاود تشكيل هذا القادم السلوكي والنفسي من حياتنا بحلوه ومره ، بحسنه وقبحه .. حتى هذه الكلمات التي ربما تفيض منها الآن لغة الامتعاض والاعتراض لم تغفل عنها يد الرقيب الداخلي (النفسي)، فقطعت ووصلت، وأضافت وحذفت وعدلت وجملت حتى تخرج لقارئها في صورة لا يصل منها إلا مايريد الرقيب.. ثم ليفطن القارئ لما بين السطور ويتولى نشر المطوي بين الكلمات.
هذه الأشياء المبهمة، نحاول قولبتها في صورة محصورة أو مقروءة لنفهم بعض أطيافها، والتعاطي معها بشيء من البصيرة، بدلا من أن تظل في أعماقنا وعلى هوامش أفكارنا تشغل كثيرا من مساحة الذهن، وتستهلك كثيرا من طاقة العقل والنفس وتحول آثارهابيننا وبين جسور الحياة.. فكم من قمين طارت به همته، وكم من لبيب قعدت به رعونته وأبطأ به خوفه.
تعاود لتصنع هذا الإنسان الذي بين جنبينا وتصيغ وعيه وقناعاته ومبادءه ومحاسنه ومساوئه؛ وصالهوانفصاله، رضاهونقمته، تطلعاته وانطواءاته.. هذه الرشفة البلاغية التي تنسال حينا في عبارات الكاتب الملهم، وهذه المشاعر الرقراقة الفياضة تسيل من بين حروفه وعباراته، وهذه اللغة الهادرة كالسيل، والفوارة كالنبع؛ المتسامحة، المتشائمة، المتناغمة.. كل هذا جماع وعي مختزن على مدار مرحلة عمرية متفاوتة .. لكنها في النهاية بعضنا أو كلنا.
تحجبنا مثل هذه الأشياء عن ذواتنا فنعاني هذه الحالة المتواصلة من الانفصام بين قناعة الداخل وحتمية الشكل والخارج، وتوق النفس وضياعها في البحث عن المفقود والمرغوب والمحبوب والمحجوب .. يتقوقع الإنسان على ذاته حينا رافضا كل أنواع الهيمنة، لائذا إلى سكينة نفسه التي يطلبها فلا يجدها إلا قليلا، فيما تؤلب ثائرته عليه هذا السطو الاجتماعي..
تقولبنا الطقوس والرسوم واللزوم والمراسم والمزاعم، وتنحت في دواخلنا ذواتا غير التي نعرفها، وتوئد في جوانحنا رغائب طالما عشقناها وعشقنا أيضا أن تدوم ..الطفل الذي يلهو، والشباب الذي يصبو، والحب الذي كان وما زال يعتصر القلب اعتصارا.. والتحرر المنطلق الذي لا يبالي أي براح تحط ركابه عليه في أفق الحياة، والغد المنتظر على أحر من الشوق والأزكى من مس الجمر، والمستقبل المرتقب المرجى في عطاء يقر العين ويرضي ظمأ النفس، ومسابقة الأيام التي تتفلت من قبضتنا ونحن نأخذ بحجزها والسنوات كي تريم..
تميتهذه الأشياء البسيطة بداخلنا الصرخة والرغبة، تكبل انطلاقة الروح وحرارة الحب المتحرر كالفراش، حين تصنع من تقاليد الغابرين، ومن قيود الجاثمين على الصدور نفوسا معقدة وذواتا مؤطرة معلبة.. ثم نبحث عن الإنسان بداخلنا فنجده قد توارى في عتمات القيود، وركام المكتسبات والمنعطفات اللامتوقعة.. وفي زحام المطالب والفروض، وتلاشى تحت أنقاض أهيلت عليه مع مرور السنين.. ثم غدا كأن لم يكن شيئا مذكورا.
كم ذهبنا لوعد لا وجود له، وكم حلمنا بأشياء في عالم الأفكار والأطياف فإذا بها لا وجود لها في عالم الأعراض، وكم تاقت نفوسنا للقاءلا صرام بعده، ودوام محجوب عن الكون وعيون الرقباء والنظراء.
“لكن أزهار الحياة بخيلة”.. في عطاءاتها دوماكالشتاء،تكبت الأحلام وتجمد المشاعر، وتحيل الأمل إلى ذكريات باهتة، تمنعها الإفصاح عن نفسها كما حرمتها من قبل لذة اللقاء، وحرارة الاشتياق، وحفيف حرارة الأنفاس.. فأذبلت الأزهار، وأزوت الشباب، وأنضبت معين الروح الذي طالما كان فياضا!!
شيء من الحرية يعيد إلى النفوس ذلك التوازن المفقود؛ فإن ضراوة القهر تجرف معالم الإنسان بداخلنا، وتعفّي جمال الصبغة الربانية التي صيغت وصنعت على عين بين “أحسن تقويم وأسفل سافلين”، وتحيل هذا الإبداع إلى مسوخ لا يقوم باصطفاء الاستخلاف ولا يجدر بتكريم الآدمية.. حرية تطلق النفس والعقل من قيده وقهره، تتفجر من أغوار العقل شرارات التنوع والتجدد وإثراء الكون، وتعيد قراءة خارطة الجمال في الداخل والخارج.. فيما تؤطره في ما هو مخلوق له ومعدود.