المفرزة التي لاحقت المشاهير (4)

من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاء كمال الخشن | لبنان

نواصل الحكاية مع الشاعر محمد الماغوط

كنت أحثُّ خطايَ وأتعجلُ لأصل إلى المجلة قبل أن يغادر المحاسب .لأتمكن من استلام مستحقاتي المالية قبل سفري . وبين الفينة والأخرى أحاول الالتطاء تحت شرفات الأبنية وأروقة المحال التجارية . وأحاول تغطية شعري بحقيبتي اليدوية.

قال: لماذا تتعجلين؟ قلت: لا أريد ان أخسر تسريحة شعري وزينتي .لأنني سأسافر اليوم .قال: أنت جميلة بدون رتوش. قلت: وأنت تجيد الإطراء بدون مظلة واقية .. ليتك تعرف كيف ينفش شعري تحت المطر (إنه مصيبة, كارثة) قال: جمالك يشع من داخلك من نفسك النقية من عفويتك وثقتك بنفسك، وسرعة بديهتك.

كان يتحدث وهو  يلهث. ومع ذلك يتابع أحاديثه المضحكة ويرسم صوراً كاريكاتورية للحياة. كما كان يرسمها في الشعر والمسرح و النقد. وهوعلى صلة  وثيقة بتلك الصّوَّر .. فلا تكاد تميز بين الحقيقة والخيال في كلامه كما لا يستوجب عليكَ وأنت تحادثه ان تطرق لتتمعن فيما يقول .. إنه يحكي ذاته التي كانت أرضاً خصبة لأعماله المسرحية . لم يصطنع يوماً شخصية مغايرة تستر مافي نفسه عن الأعين. 

وطيلة الطريق من المزرعة حتى السبع بحرات كنتُ أشعر بالأسى, لكنني في نفس الوقت لم أتمالك نفسي من الضحك وهو يسرد لي هذه الحادثة: (ذات يوم طلب مني رئيس التحرير حضور حفل نيابة عنه كان يعتقد أنه يقدم لي مكافأة ثمينة. دون أن يكون على دراية بكرهي للحفلات الرسمية . فكنت اختلق الأعذار لكي لا أذهب، مرة أتذرع بحذائي الضَّيِّق, وتارة بسحاب بنطالي المقطوع ,أوبعدم امتلاكي بزة رسمية ,أوربطة عنق أو بعدم امتلاكي لسيارة . أو أدعي المرض.

لكنه وفرَ لي اللباس والمال والسيارة والسائق. لم يترك لي مبررا لعدم الذهاب. فاضطررتُ لحضور الحفل مكرهاً أخوك لا بطل .كان جميع من على المائدة ينتظرون ضيف الشرف. واستغربت أنهم لم يبدأوا بتناول الغداء رغم حضوره لكن استشفيتُ بعدها أنه لايمكنهم البدء إن لم يضع هو الفوطة في البداية . كان الجميع يتفننون في وضع الفوط ومسك الأكواب والسكاكين والشوك يومها فقط اكتشفتُ أنه هنالك وضعية محددة لشوك المقبلات وشوك الطبق الرئيسي فلم يكن همي في ذلك اليوم إلا وصول  الطعام.. حيث كان بطني خاويا . وحين أحضر النادل الطعام ووضعه على الطاوله ، كنتُ اول من همَّ به. رغم انه طعام بسيط (طبق سلطة وقطع من الفجل وبعض حبيبات  الزيتون وحمُّص بالطحينة ومتبل باذنجان ومخلل).

قلتُ: تقصد المقبلات .قال: وتلك كانت الطامة الكبرى فقد أُتخمتُ منها تماماً .وكنت اعتقد أنها وجبة الغداء الرئيسية. لذا كنت أستغرب لم َلا يرغب الجميع الأكل مثلي؟ لكن المفاجأة الحقيقية كانت بعد أن أُتخمت من المقبلات . حيث بدأوا يحضرون الوجبات الرئيسية المكونة من أطباق لحم شهية ومن الدجاج والكبة,والروبيان . والكثير مما تشتهيه النفس ممَّا لذ وطاب من أصناف الطعام التي جعلت عيني تغادران محجريهما .

ولكن لم أكن قد تركت في معدتي فراغا ولو للقمة واحدة.مما أحزنني كثيرا وذهبت إلى المرحاض علَّني أنجح في تفريغ معدتي من المقبلات ..لكن دون طائل.شعرت بخيبة كبيرة. فأسندت رأسي إلى الحائط ,ورحت أبكي لأنني خسرت فرصة تذوق ذلك الطعام الذي كنت محروماً منه طيلة عمري.

كان يحكي ذلك بحرقة وحسرة . لكنه يعود ويضحك ويرفع نظارته ويمسح عينيه ويضحكني معه .. أقول له كافي ) لقد سال الكحل من عينيَّ. فيقول لي :أحب ضحكتك ..لأنها (طالعة من الصماصيم) . وكلما لمس دهشتي وسعادتي يسترسل دون انقطاع وأسترسل أنا بالضحك الممزوج بالوجع . حيث عثرت على الروح العذبة الندية الصادقة المعجونة بالعذاب والقهر والظلم .والتي استطاعت ان تنقل ذلك القهر والجوع والحرمان دون تجميل أورتوش

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى