فلسطين أعطيناك عهدً!!

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام | الجزائر

 

جذوة الثّورة على الظّلم لا تنطفئ من القلب، والسّعي لاسترجاع الحقّ لا يفتر في النّفس، والقيام بواجب التّضحية والفداء لا ينفكّ عن إرادة الحرّ.. وفي المقابل، إنّ عاقبة الظّالم الانكسار والاندحار، مهما يطل الزّمن، ومهما يتمادى في عسفه وحيفه، والانهزام سبيل المستبدّ مهما يستعن بأيّ قوّة تتوفّر عنده، ومهما يستنفر من معتدين مثله وخونة يحيطون به، فإرادة المؤمن بالله الموقن بنصره العزيز، والمؤمن برسالته وواجبه في تحرير نفسه وأرضه وكلّ ما له به صلةٌ من المستعمر والغاصب.. المؤمن بكلّ ذلك، والمتسلّح بسلاح العزيمة والصّدق والإخلاص، والمتدثّر بلباس الثّبات والصّمود والتّحدّي والتّصدّي، والمحيط نفسه بسياجٍ من المناعة والحصانة من الارتداد والتّخلّي عن الدّفاع عن نفسه ودكّ حصون العدوّ والخائن، مهما يكن التّصعيد والتّنكيل والقهر..

المتسلّح بهذه المقوّمات، لن يهزم بإذن الله تعالى، بل يصيب العدوّ والخائن والمتلوّن والمخادع والمخاتل في الصّميم وينالهم في المقاتل؛ لأنّهم بأعمال الأحرار والأباة والشّحعان.. ينصدمون بالقوّة القاهرة لكلّ ما يخطّطون، وينصرعون بالزّحف الذي يأتي على كلّ ما يهيّئون من وسائل الدّفاع عن أنفسهم وكياناتهم..

هذا ما يحدث الآن على أرض الواقع في القدس وغزّة وتل أبيب وفي كلّ أرض فلسطين، وفي كلّ شبر من الشبر المغصوب من الصّهاينة. ضُرِبُوا في العمق، وأصيبت دفاعاتهم بالعجز عن حمايتهم وصدّ الهجمات من فئة صغيرة عددا وعدّة وإمكانات، لكنّها الأكبر إيمانا وشجاعة وبسالة وتضحية، والأكثر صبرًا في الميدان وفي الشّدائد والمحن.. والله مع الصّابرين..

انتفض المقدسيّون دفاعا عن القدس والأقصى، وثار أهل غزّة على الغزاة الصّهاينة، وضربوهم في كبرى مدنهم بما أبدعته عبقريّاتهم من أنواع الأسلحة والصّواريخ التي حيّرت أولي الألباب من الصّهاينة والخونة من ذوي القربى والأقارب الذين تحوّلوا عقارب تلدغ الفلسطينيّين، لكنّ السّحر انقلب عليهم، فأصبحوا في وضع لا يحسدون عليه من الانكسار والانهزام والخيبة والحسرة.

الأهمّ في كلّ حركة وانتفاضة وثورة هو إبقاء جذوة التّحرّر حيّة في القلوب، بعيدة عن التّأثّر بكلّ العائقات النّفسيّة، التي تزهّد في التخلّص من الاحتلال الصّهيوني للأراضي العربيّة، وفي إفشال إراداتهم.. الإبقاء على هذه الجذوة متّقدة في النّفوس، متواصلة بين الأجيال مهمّ جدًّا وضروري للاستمرار في الضّغط على الكيان الصّهيوني وإرباكه وإيجاد اختلالات في مخطّطاته ومشروعاته العدوانيّة..وإلحاق الخسائر الماديّة والمعنويّة بكلّ ما له صلة به وبمن يسانده ويحوطه ويحتضنه من قريب وبعيد.. هذا الفعل عهد يقدّمه الأحرار هديّة وفداء للأرض المقدّسة المغصوبة، وأهلها  المقهورين…

 هذه السّبيل التي تتّبعها الفصائل الفلسطينيّة، وهذا المنهجالذي  تسير عليه المقاومة الفلسطينيّة.. جعل العدوّ الصّهيوني في خوف وهلع، وصيّره في رعب واضطراب دومًا وأبدًا، إلى أن يزول ويضمحلّ.. فهذا المصير يسير إليه بسرعة بإذن الله. فعاقبة الظّلم والغطرسة هي الاندحار والسّقوط والفناء بحول الله وقوّته.

إنّ سياسات العدوّ الصّهيوني الغاصب هي قتل هذه الحماسة في النّفوس، والدّفع بها إلى الاستسلام والرّضى بالواقع المعيش؛ لذا تأتي هذه الانتفاضات  المتتابعةلتبقي على التّعلّق بالوطن الفلسطيني قائمًا، والارتباط بالقضيّة الفلسطينيّة (أمّ القضايا وجوهر الوجود العربي والإسلامي) وثيقًا..

بهذا الإصرار على الكفاح، بهذا التّمسّك بالمقاومة، بهذا الإقدام على دكّ حصون العدوّ بأيّ وسيلة متوفّرة، مع التّسلّح بالإيمان، والتّحلّي بالصّدق والإخلاص، والانشداد إلى الهدف في خطّ مستقيم.. يكون النّصر في المعركة مهما تشتدّ، ويكون القهر للعدوّ مهما ساعده يستدّ، ومهما يملك من عناصر القوى العالية..

فيا من هو في الميدان اثبت، ويا من يقوم بالمساندة استمر، ويا من بقي متفرّجًا تحرّك، ويا من يتمادى في الخيانة ومعاونة العدوّ الصّهيوني في عدوانه وظلمه احذر..فالزّحف متواصل والضّربات لا تتوقّف، والمقاومة تشتدّ، والحرب تشتعل وتستعر..والعهد على المضيّ قدمًا في الجهاد لن يتخلّف.. نقول للمتقاعسين المتخاذلين ما قاله الشّاعر الجاهلي لقيط بن يعمر:

مَا لِي أَرَاكُـمْ  نِيَـامًا في بُلَهْنِيَـــــة   وَقَدْ تَرَوْنَ شِهَابَ الحَرْبِ قَدْ سَطَعَـا

انتفاضة الشّعب الفلسطيني تطوّرت وتقدّمت وأضرمت نيرانها في قلب معاقل العدوّ، فكيف يتأخّر عنها؛ مشاركةً أو مساندةً أو تأييدًا أو… حرُّ الضّمير، رهيفُ الإحساس، حيّ المشاعر؟!

يقول محمود سامي البارودي:

فَيَا قَوْمُ هُبّوا إٍنَّـمَا العُمْرُ فرصةٌ   وَفِي الدَّهْرِ طُرْقٌ جَــــمَّةٌ وَمَنَافـِعُ
أَصَبْرًا  عَلَى ذُلِّ الهَـوَانِ وَأَنْتُــمُ   عَدِيدُ الـحَصَى، إِنِّي إِلَى اللهِ رَاجِعُ

هل يرضى الواحد منّا البقاء بعيدًا عن القيام بواجبه، بما يستطيع ويقدر عليه، وقد سنحت الفرصة للانقضاض على العدوّ الغاصب المتغطرس، الذّليل الـجبان في الوقت ذاته؟؟ هل هذا سبيل الأبيّ الكميّ؟؟

قال مفدي زكريّاء عن جهاد الجزائريّين الذي يكرّره الفلسطينيّون اليوم:

جِهَــادٌ دَوّخَ الدُّنْيــا وَأَلْقَـى   (هُنَالِكَ) في سِيَاسَتِهَا اضْطِرَابَا
وَزَلْزَلَ مِنْ صَيَاصِيهَا فَرَنْسَا   وَ   أَوْقَعَ    في حُكُومَتِهَا    انْقِلَابَا

هذا ما يتكرّر اليوم في معركة الصّمود على أرض فلسطين الثّائرة الباسلة..انتفاضةُ القدس والأقصى وغزّة..أربكت العدوّ الصّهيوني، وألقت الشّكوك في سياسة الصّهاينة داخليًّا وخارجيًّا، ونالت من حلفائها (الصّياصي) دروعِ احتمائهم، ومَساندِ غطرستهم، فتزلزلوا وخابت مساعيهم. كما أنّ دولة العصابة المستبدّة تعيش انقلابات فيما بينها، وفوضى جرّاء ضربات المقاومة.. هذا بالضّبط ما حدث في الثّورة الجزائريّة.( دوّخت، ألقت، زلزلت، أوقعت.. ) فكانت النّتيجة اندحار فرنسا وانحسارها عن أرض الجزائر مطرودة ذليلة.. فستكون النّتيجة نفسها للصّهاينة.. سيندحرون وينحسرون وينتهون بإذن الله العليّ القدير. فأحرار العالم مع المقاومة الفلسطينيّة، والتّعاطف مع جهادهم يتزايد، إذن، إنّ النّصر آت بإذن الله.  فرجل الحريّة والنّضال ” نيلسون مانديلا ” كان يردّد: ” لن تكتمل فرحتي حتّى تتحرّر فلسطين”. نقول له فرحتك وفرحة فلسطين قريبة بعون الله وقوّته.

إنّ وعي الشّعوب بنضال الشّعب الفلسطيني، وإيمانهم بقضيّته العادلة، وتفهمّهم لمعاناته الطّويلة، وإدراكهمحقيقة  إرهاب العدوّ الصّهيوني.. كلّ هذا يعدّ المؤشّر القويّ على قرب انتصار الحقّ الفلسطيني.. فليثبت المجاهدون في الميدان، وليواصل المساندون في احتضان هذا النّضال، وليستمر المتعاطفون في التّشجيع..هذه كلّها وسائل وسبل ومقوّمات.. ترفع من معنويات الفلسطينيّين، وتحطّ من معنويات العدوّ المتغطرس.

المهمّ  من كلّ هذا التّقرير والتّنصيص والبيان هو الدّعوة إلى استفاقة الغافل  ومعرفة الجاهل وتحرّك العاطل ونفار المتثاقل، وارتداع المتطاول، والبذل بلا طائل..

كتب  مفديزكريّاء سنة 1961 فصيدة طويلة عنوانها: ” فلسطين على الصّليب”، أنهاها بهذه الأبيات:

وَفِي  نَكْبَةِ العُرْبِ  مَوْعِظَةٌ   مَدَى الدَّهْرِ لِلـمُهَجِ الوَاعِيَهْ
فَمُدُّوا يَـدًا نَـحْوَ أَوْطَانِنَـا   وَنُنْقِذْ  حِمَانَا مِنَ الهَاوِيَهْ
فَإِنْ  تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمُ   وَيُنْجـِزْ  أَمَانِيكُمُ الغَالِيَـهْ
وَلـنْ  يُخـلِفَ اللهُ  مِيعَادَهُ   وَلَا رَيْبَ سَاعَتُنَــا آتِيَـهْ

هذا عهد يأخذه كل حرّ أبيّ على نفسه، ويلتزم به ويتمسّك بتنفيذه، فإن يعلم الله فينا خيرًا يؤتنا خيرًا.. ومن تعلّق بالنّصر أعانه الله على تحقيقه، فساعته آتية بإذن الله تعالى..” فلسطين أعطيناك عهدًا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى