أدب

قراءة في قصيدة: “طقس الحزن” للشاعرة رفعة يونس

في الذكرى الخامسة عشرة لوفاة الشاعر الكبير محمود درويش

بقلم: زياد جيوسي | الأردن

أولا – القصيدة: طقس الحزن

من هنا مر هذا الجميل

وأودعنا حسنه

عربي السمات

نسائله: عن قمح زها.. ماج في رأسه

وتمادت طويلا رؤاه

وعن وجه مغموس

بطهر البيادر حين تبوح

تشاغلنا

عن شتاء منسي

في عام منسي

أيهذا الجليلي

كيف ارتقيت على عرش أشعارنا

واعتليت على سدرة المنتهى

في سماءاتنا

جئتنا عنوانا للزعتر البريّ

لقامات الزيتون

لضحكة زهر اللوز

وإطلالة الحنون.. على جرحنا

جئت في الزمن الصعب

موالا وندى

تهدينا فراشات

وكمنجات

ودفاتر أحلامنا الأولى

في عشق البحر

وفي غنج الفل

فوق صدور الصبايا الجميلات

في قبلة مرت عجلى

لكن .. تركت نايها

رعشة فينا

أيهذا الجمييل

لماذا تسابقنا

في الساحات.. كل نهار

فتسبقنا؟؟!!

أيهذا الجليليّ

كيف تعودنا أن تعود لنا

مثقلا بنجوم القصائد

تشرق في ليلنا

وتعودنا أن تعود لنا

غارقا في نبيذ الحكايات

تبحث عن غيمة في الصباح

لتشرب قهوة حلم معك

كيف تغدرنا؟!

تمضي في الغياب

تعود إلينا في كفن

كيف تتركنا

في عتمة هذا الدرب

يحاصرنا سوطه.. وحدنا؟؟!!

كيف تتركنا .. وتغيب بعيدا

عن صدر أمك

عن خبزها !

عن رائحة التنور تضوع بأثوابها؟!!

كيف يغدرك الموت.. في منفى

فتموت بلا حضنها ؟؟!!

كيف تغدرنا يا محمود؟؟

كيف تعود.. فوق أكف الحياد

حبيبا تعود!

كما قد عودتنا

ونبيا من الطاهرين

فدع لغة البحر للبحر.. نهرا

وطر عاليا في الفضاء البعيد

ودع عنك طقس الحزن

فأنت اليوم طليق وحر

كما قد أردت

كما قد تريد

وعانق سماء أخرى

وزد سيدي في التغريد..

وابحث عن أنخاب معان أخرى

يدهشنا لسعها.. من جديد.

ثانيًا – القراءة

      في هذا النص من ديوان(أصداء في المنفى)الصادر عام ٢٠١٢ عن دار ازمنة بدعم من وزارة الثقافة الأردنية ص ٥٩ التي باحت به روح الشاعرة رفعةيونس، وجدت نفس روحها الشعرية ولكن بأسلوب مختلف، فمن المعتاد أن تخاطب شهيدا أو جريحا أو أسيرا، لكن ليس من المعتاد أن تخاطب شاعرا وترسم له صورة مبالغ فيها بالمديح عبر أشعارها، وإن كان محمود درويش قامة شعرية كبيرة في فلسطين، فهناك أيضا قامات شعرية كبيرة أيضا مثل سميح القاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو، وغيرهم من قامات شعرية برزت في الفترة ما بعد هزيمة حزيران 1967 اضافة للقامات الكبيرة قبل النكبة وبعدها والمجال لا يتسع لذكر الأسماء فهي بالعشرات.م

حمود درويش قامة تستحق التكريم رغم (اختلافي مع مواقفه السياسية والفكرية) والمرحوم كنت التقيه في مركز خليل السكاكيني الثقافي في رام الله الذي تشرفت برئاسة هيئته الإدارية عدة سنوات حيث مكتب مجلة الكرمل التي كان الشاعر يشرف عليها، ومن عنوان القصيدة “طقس الحزن” نجد الشاعرة وضعتنا مسبقا بفكرة القصيدة وبوح روحها في ذكرى الشاعر الكبير الذي غاب جسده ولم تغب روحه، وجرى تكريمه بجنازة لم يكن لها مثيل لشاعر أو أديب خرج بها الشعب الفلسطيني بالألاف وجرى دفنه بتلك الربوة المطلة على رام الله بجوار قصر رام الله الثقافي حيث أسس مركز محمود درويش، ولعل من باب الذكرى أني كنت اصعد تلك الربوة قبل ذلك وأستمتع بالجلوس تحت الصنوبرات على رأس القمة، وكان آخر لقاء بيننا حين دعتني بلدية رام الله للتصويت على اختيار نصب لتكريم درويش حيا، وألقى درويش كلمة مما قال فيها أنه يشعر أنه يودعنا، وبعد اختيار النصب بتصويت المدعويين وتصويت درويش ودعنا جميعا بالمصافحة وغادرنا وسافر لإجراء العملية الجراحية بالقلب وعاد إلينا في كفن.

تقصد الوطن وتبدأ النص بالقول “من هنا مر هذا الجميل” لتكمل الوصف “أودعنا حسنه”، “عربي السمات”، “قمح زها…ماج في رأسه”، “وجه مغموس بطهر البيادر” وتواصل هذه العبارات المادحة حتى تخاطبه: “أيهذا الجليلي”، وهذه الصفة نسبة للجليل في شمال فلسطين ولكنها صفة تطلق على سيدنا المسيح عليه السلام، وتكمل بالقول: “اعتليت على سدرة المنتهى في سماءاتنا”، وهذه مبالغة كبيرة في الوصف فسدرة المنتهى وردت في القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة النجم: “(وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)”، وفي التفاسير هي الشجرة التي وقف عندها سيدنا محمد عليه اطيب الصلاة والسلام وتقع على يمين العرش في السماء السابعة ولا يمكن للملائكة أن تتجاوزها بما فيهم جبريل عليه السلام وعندها ينتهي علم الملائكة، فهل يجوز مدح شاعر مهما بلغت مكانته بوصفه بما وصل إليه سيد الخلق والمرسلين في المعراج؟ وهل يجوز وصفه بالنبي بالقول: “حبيا تعود، كما قد عودتنا، ونبيا من الطاهرين”؟

الشاعرة تعتبر أن درويش قد جاء “في الزمن الصعب” وأنه أتى “لقامات الزيتون، لضحكة زهر اللوز، وإطلالة الحنون.. على جرحنا”، فلو لم يأت درويش فماذا سيكون وضعنا اذا؟ هو سؤال يجبرني النص على توجيهه للصديقة الشاعرة رفعة يونس، حيث لمست في هذه القصيدة الجميلة خروجا عن المألوف وخروجا عن خيال الشاعر والكاتب، وتواصل صور المديح الجميلة وهي ترى أن درويش أتانا “موالا وندى” حيث يهدينا الفراشات والكمنجات، “دفاتر أحلامنا الأولى” حيث فيها عشق البحر وغنج الفل “فوق صدور الصبايا الجميلات”، وتعود وتكرر وصفه بالجليلي بالقول: “أيهذا الجليلي، كيف تعودنا أن تعود لنا، مثقلا بنجوم القصائد، تشرق في ليلنا”، وتواصل تحليقها بلوحات وصف جميلة منقوشة بالكلمات وتقول: “تعودنا أن تعود لنا، غارقا في نبيذ الحكايات، تبحث عن غيمة في الصباح، لتشرب قهوة حلم معك”.

بعد هذه الصور توجه الشاعرة سؤال للشاعر: “كيف تغدرنا؟ تمضي في الغياب، تعود إلينا في كفن”، وتواصل هذا الألم بالقول: كيف تتركنا، في عتمة هذا الدرب، يحاصرنا سوطه.. وحدنا”، وتواصل الألم بالقول: “كيف يغدرك الموت…في منفى”، وأنا أهمس للشاعرة بقول سيدنا علي بن ابي طالب: “يا من توحد بالعز والبقاء وقهر عباده بالموت والفناء”، لتعود من هذا الألم وصور الحزن وتهمس لروح الشاعر: “دع لغة البحر للبحر.. نهرا، وطر عاليا في الفضاء البعيد، ودع عنك طقس الحزن، فأنت اليوم طليق وحر”، فتعود الشاعرة للواقع من جديد بنص حفل بقوة التشبيهات والصور واللوحات وقوة اللغة وجزالة المعاني.

رحم الله شاعرنا محمود درويش فهو قامة شعرية كبيرة، ولكن بالتأكيد أني أرفض تقديس البشر وبارك الله في روح شاعرتنا الألقة رفعة يونس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى