سيد درويش والقومية الموسيقية
بقلم: أحمد عبدالموجود الشيخ
باحث دراسات عليا بأكاديمية الفنون المعهد العالي للنقد الفني
إن الكلمة المنطوقة أو المكتوبة لها دلالة يفهمها العقل، ولكن العبارات الموسيقية وهي مادة أثيرية لا تلمس ولا ترى ولا تثبت في الهواء، وليست موجهة للعقل مباشرة بل تخاطب الأحاسيس والوجدان وتحرك المشاعر المختلفة عن طريق أعماق النفس, وتعتبر الموسيقى القومية حركة ثقافية تعمق أواصر الترابط الموحد بين أبناء الشعب أو الأمة، ولقد شهد العالم بزوغ فنون جديدة لشعوب وثقافات صغيرة لم يكن لها دور فى الثقافة العالمية من قبل، وبذلك أسهمت فى أثراء الفكر والفن فى العالم وبإضافة محلية عميقة الجذور، ولذلك يجب الأهتمام بالأعمال الموسيقية القومية فى كل مجالات الإنتاج حيث يتم التكامل بعضها ببعض، وبذلك يتكون فى النهاية الوجدان الموسيقى للشعوب والأمة.
وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﻬﻮﻳﺔ وراء ﻇﻬﻮر ﻣﺪارس الموسيقى اﻟﻘـﻮﻣﻴﺔ ﻓـﻲ أوروﺑـﺎ ﻓـﻲ أواﺧـﺮ اﻟﻘﺮن اﻟـﺘـﺎﺳـﻊ ﻋـﺸـﺮ ﻷول ﻣـﺮة ﻓﻲ ﺑـﻮﻫﻴـﻤﻴــﺎ وروﺳﻴــﺎ واﺳﻜﺎﻧﺪﻳﻨﺎﻓﻴﺎ وأﺳﺒﺎﻧﻴﺎ وﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ. وﻗﺪ ﻳﺜﺎر أن ﻋﺼﺮ اﻟﻨﻬﻀﺔ المتأخر ﻗﺪ أرخ لمدارس ﻣﻮﺳﻴـﻘـﻴـﺔ ﻨـﺴﺐ ﻣﺆﻟﻔﻮﻫﺎ ﻟﺒﻠﺪاﻧﻬـﻢ كالمدارس اﻹﻳـﻄـﺎﻟـﻴـﺔ والإنجليزية وﻣﺪارس اﻷراﺿﻲ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ وﻣﺎ إﻟﻴﻬﺎ ﻏـﻴـﺮ أﻧـﻬـﺎ ﻛـﺎﻧـﺖ ﻣـﺠـﺮد ﺗﻘﺴﻴﻤﺎت ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ للمدارس ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﺳﻤﺎت ﻣﺤﻠﻴﺔ واﺿﺤﺔ ﺗﻔﺮق ﺑﻴﻨﻬﺎ وﻻ ﺗﺴﺘﻨﺪ ﻻﻋﺘﺒﺎرات ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ أو ﻗﻮﻣﻴﺔ بالمفهوم الحديث. أﻣﺎ ﻣﺪارس الموسيقى اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﻓﻲ اﻟﻘﺮن الماضي فهي تمثل تحولا ﻛﺒﻴﺮا ﻓﻲ ﻣﺴﺎر الموسيقى اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ اﻟﻔﻨﻴﺔ وما أﺿﺎﻓﺘﻪ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﻴﻢ ﻣﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻣﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ ﺗﺮاﺛﻬﺎ وﻗـﺪ ﻧـﺸـﺄت ﻫـﺬه المدارس ﻓـﻲ ﻇـﻞ روﻣﺎﻧﺴﻴﺔ Romanticism اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸﺮ ﻣﺪﻓﻮﻋﺔ ﺑﺸﻮق اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴـاﺖ ﻟﻠﻌﻮدة ﻟﻠﻤﺎﺿﻲ وﺣﻨﻴﻨﻬﻢ ﻟﺒﺴﺎﻃﺔ اﻟﺮﻳﻒ وﺑﺪاﺋﻴﺘﻪ وﺣﺒﻬﻢ ﻟﻠﻮﻃﻦ وﻋﺸﻘﻬﻢ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ وﻟﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﻬﺮﺑﻮن ﺑﻪ ﻣﻦ واﻗـﻌـﻬـﻢ المصطنع والمفرط ﻓـﻲ اﻟﺘﻤﺪن.
وتعد بدايات القرن العشرين بداية النهضة الثقافية المصرية الحديثة والإنفتاح علي الثقافات العالمية, ظهرت بوادر الثورة علي الإستعمار في 1919 و معها كان الإحتياج إلى رسم الهوية الثقافية المصرية الجديدة بصورة تشمل التحديث والتطوير في جميع المجالات الفنية مثل الأدب والفنون التشكيلية والموسيقى والغناء والشعر, وبلغة عالمية تبرز الهوية و العناصر الجمالية للمجتمع المصري, وتحفظ مكانته وسط الأمم وكان مع حركة محمد على للتحديث زرع البذرة الأولي لتلك النهضة, حيث كان الاهتمام بداية بفرق الموسيقات العسكرية وظهور الآلات الغربية مثل آلات النفخ النحاسية والخشبية في تلك الفرق. تبعا لإفتتاح دار الأوبرا الخديوية بدأ المجتمع المصري الأرستقراطى في تذوق الموسيقى والغناء الكلاسيكى الأوروبى, مدمجين تلك الموسيقات وقوالبها ضمن البرامج الفنية في الصالونات الثقافية لديهم, مما دفع بعض الشباب المصري إلى دراسة الموسيقى الغربية بالخارج, ومعه ظهور حركة فكرية فنية جديدة تأسست”الجمعية المصرية لهواة الموسيقى”برئاسة أستاذ العلوم الطبيعية العالم د.مصطفي مشرفة لنشر التذوق الموسيقي فقدمت حفلات من العزف والغناء المترجم للعربية, ضمت الجمعية نخبة من الشباب الموسيقي والتى يطلق عليها”جيل الرواد”,والتي تعد نواة الموسيقى الكلاسيكية المصرية الحديثة,ضم جيل الرواد موسيقيين مثل أبوبكر خيرت، يوسف جريس, حسن رشيد,
اقترنت الصحوات القومية بالتفتح على الثقافات العالمية, وقد حدث هذا في الموسيقى المصرية في ظهور بوادر الإهتمام بالموسيقى الغربية (الكلاسيكية) وتكوين (الجمعية المصرية لهواة الموسيقى) برئاسة أستاذ العلوم الطبيعية د.مصطفى مشرفة لنشر التذوق الموسيقي فقدمت حفلات من العزف والأغاني الفنية المترجمة للعربية ورغم ضيق حيز نشاطها إلا أنه مؤشر يدل على مناخ ثقافي يتطلع لإستكشاف فروع جديدة من الخبرات الموسيقية ولقد ضمت تلك الجمعية رواد التأليف القومي في مصر مثل خيرت وجريس ورشيد وهيأت لهم الفرص لتقديم بعض موسيقاهم لجمهور محدد وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﺗﻮﺻﻞ اﻟﻘﻮﻣﻴﻮن في العالم إﻟﻰ أﺳﺎﻟﻴﺒﻬﻢ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺣـﻘـﻘـﺖ ﻫﺬه اﻟﻄﻔﺮة الموسيقية ﻟﺸﻌﻮﺑﻬﻢ وﻟﻬﻢ؟
ﻛﺎن ﻻﺑﺪ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻐﻮص ﺑﺤـﺜـﺎ عن الجذور ﻓﺎﻛﺘﺸﻔﻮا ﻣﻨﺎﺑﻌﻬﻢ ﻓﻲ أﺣﺪ ﻣﺼﺪرﻳﻦ ﻫﻤﺎ الموسيقى اﻟـﺸـﻌـﺒـﻴـﺔ أو اﻟﻔﻠﻜﻠﻮر الموسيقي ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ والموسيقى اﻟﺪﻳـﻨـﻴـﺔ المحلية ﻣـﻦ ﺟـﺎﻧـﺐ آﺧـﺮ وﻛﺎن اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺎﻟﻔﻠﻜﻠﻮر أي اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻗﺪ ﺑﺪأ ﻳﻨﺘﺸﺮ ﻛﻤﻠﻤﺢ ﺟﺪﻳﺪ ﻓﻲ اﻟﻔﻜﺮ اﻷوروﺑﻲ وﻟﻜﻦ وﺳﺎﺋﻞ ﺟﻤﻌﻪ ودراﺳﺘﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺎ ﺗﺰال ﻓﻲ الجهد وﻣـﻊ ذﻟﻚ أﺻﺎخ اﻟﻘﻮﻣﻴﻮن اﻟﺴﻤﻊ ﻷﻏﺎﻧﻲ الفلاحة وأﻣﻌﻨﻮا اﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ رﻗﺼﺎﺗﻬﻢ وﻋﻨﻮا ﺑﺂداﺑﻬﻢ وأﻗﺎﺻﻴﺼﻬﻢ ودراﺳﺔ ﺗﻘﺎﻟﻴﺪﻫﻢ المتوارثة ﻓـﻲ ﺗـﻴـﺎر ﺣـﻲ ﻣـﻦ اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ واﻟﻨﻤﻮ والحفاظ ﻓﻲ آن واﺣﺪ وﻫﺬا اﻟﺬﺧﺮ اﻟﻬﺎﺋﻞ ﻫﻮ اﻟﺬي أﻟـﻬـﻢ ﺧﻄﺎﻫﻢ ﻓﻲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻟﻬﺠﺎت ﻣﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺻﺎدﻗﺔ اﻟﺘﻌﺒﻴﺮﻋﻨﻬﻢ, إﻟﻰ أن ﺟﺎء ﻓﺎرس الموسيقى المصرية ﻓﻲ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﺳﻴﺪ دروﻳـﺶ (٥٩٨١-٣٢٩١)ﻓﺘﺮك ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﻘﺼﻴﺮة ﺑﺼﻤﺔ ﺧﻠﺪﻫﺎ ﻟﻪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻓﻲ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻣﺼﺮ وﻣﻮﺳﻴﻘﺎﻫﺎ.
وﺳﻴﺪ دروﻳﺶ ﻗﺪ ﺑﺪأ ﺻﻠﺘﻪ بالموسيقى ﻛﻐﻴﺮه ﻓﻲ إﻃﺎر دﻳﻨﻲ إﺳﻼﻣﻲ ﺛﻢ ﻗﺎدﺗﻪ ﻣﻮﻫﺒﺘـﻪ اﻟـﻜﺒـﻴـﺮة ﻋﺒﺮ ﻋﺎﻟﻢ الموشحات واﻷدوار اﻟﻠﺬﻳﻦ اﺑﺘﻜﺮ ﻓﻴﻬﻤﺎ وﺟﻮد اﻷوﺑﺮﻳﺖ وﻫﻮ ﻓﻦ ﺟﺪﻳﺪ آﺧﺮ ﻧﺒﻊ ﻣﻦ ﺛﻨﺎﻳﺎ الحركة المسرحية ﻓﻲ ﺗﺰاوﺟﻬﺎ ﻣﻊ الموسيقى وأﺑﺪع ﻓﻲ أوﺑﺮﺗﺎﺗﻪ اﻟﺸﻬﻴﺮة ﻣﺜﻞ اﻟﻌﺸﺮة اﻟﻄﻴﺒﺔ واﻟﺒﺎروﻛﺔ واﻟﺴﺖ ﻫﺪى وﻏﻴﺮﻫﺎ ألحانا وأﻧﺎﺷﻴﺪ وﻃﻨﻴﺔ لمست وﺗﺮا وﻃﻨﻴﺎ ﻛﺎن ﻟﻪ ﺻﺪى ﻋﻤﻴﻖ ﻋﻨﺪ ﻣﻮاﻃﻨﻴﻪ.
واﺳﺘﻄﺎع ﺳﻴﺪ دروﻳﺶ ﻓﻲ أوﺑﺮﺗﺎﺗﻪ ﺑﺼﻔﺔ ﺧﺎﺻﺔ أن ﻳﻀﻔﻲ ﻋﻠﻰ الموسيقى واﻟﻐﻨﺎء ﺷﺤﻨﺔ ﺗﻌﺒﻴﺮﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﺧﻴﺎل ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ ﺧﺼﺐ وﺣﺲ ﻣﺮﻫﻒ ومعاني اﻟﻜﻠﻤﺎت وﻧﺒﺾ إﻳﻘﺎﻋﻬﺎ واﻧﻌﻜﺎﺳﻬﻤﺎ ﻋﻠﻰ المسار اﻟـﻠﺤﻨـﻲ وﻧـﺎﺑﻌـﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﻣﻦ تجاوبه اﻟﺼﺎدق ﻣﻊ اﻷﺣﺪاث اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ المحيطة ﺑﻪ. وﺑﻬﺬه الموسيقى اﻟﻐﻨﺎﺋﻴﺔ اﻟﺒﺴﻴﻄـﺔ اﻟـﺘـﻲ ﻟـﻢ ﺗـﺘـﺠـﺎوز المسار اﻟـﺘـﻘـﻠـﻴـﺪي ﻟﻠﻤﻮﺳﻴقى اﻟﺸﺮﻗﻴﺔ ذات الخط اﻟﻠﺤﻨي المفرد اﺳﺘﻄﺎع ﻣﻮﺳﻴﻘﺎر اﻟﺸﺎرع المصري واﺑﻦ ﻛﻮم اﻟﺸﻘﺎﻓﺔ أن ﻳﺮﺗﻔﻊ بالموسيقى المصرية درجات وأن ﻳﺄﺧﺬ ﺑﻴﺪ المستمع المصري ﺧﻄﻮة ﻧﺤـﻮ ﻣـﺴـﺘـﻮى أﻋـﻠـﻰ ﻣـﻦ ﻣـﺠـﺮد اﻟـﻄـﺮب الحسي وﻋﻮده ﻋﻠﻰ اﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﻐﻨﺎء ﻟﻴﺲ ﻣﺠﺮد إﻃﺎر ﻧﻐﻤﻲ ﻷﻟﻔﺎظ ﺧﻠﻴﻌﺔ أو دﻏﺪﻏﺔ ﻟﻠﺤﻮاس ﻛﻤﺎ ﻛﺎن الحال ﻗﺒﻠﻪ. واﻷﻫﻢ ﻣﻦ ﻫﺬا أﻧﻪ اﺣﺘﻞ ﻓﻲ وﻋﻲ اﻟﺸﻌﺐ ﻣﻜﺎن (ﻟﺴﺎن ﺣﺎل ﺛﻮرة ﺳﻨﺔ ٩١٩١) الموسيقي.
وسيد درويش أعلى لأن نسميه (الملحن القومي) أكثر من ﻣﻔﻬـﻮم اﻟﺘﺄﻟﻴﻒ الموسيقي وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻻ ﻳﻘﻠﻞ ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ دوره اﻟﺮاﺋﺪ ﻓﻲ تمهيد موسيقى ﻣﺼﺮﻳﺔ ﻣﺘﻄﻮرة ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻋﻦ وﻋﻲ ﻣﺘﺰاﻳﺪ ﺑﺎﻟﻬﻮﻳﺔ المصرية واﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻷﺣﺪاث المجتمع وتحولاته, ولقد ظهرت البوادر الأولى لما يمكن تسميته بحركة قومية في مؤلفات الجيل الأول في مصر ممثلا في يوسف جريس وأبوبكر خيرت وحسن رشيد في الثلاثينات ولكنها ظلت بمعزل عن الحياة الموسيقية ولم تحفر مجرى في وعي الجمهور إلا بعد الثورة وبتشجيعها الأدبي بالجوائز وتقديمها لأعمالهم في حفلات أوركسترا القاهرة السيمفوني ثم المادي:بتكليف المؤلفين من الجيلين بالموسيقى التصويرية للسينما والمسرح اللذين تولت الدولة شئونهما في تلك الفترة