قراءة تحليلية في قصيدة (اللجوء الى الجحيم) للشاعر السوري أنس الحجّار
مصطفى ضيه|ناقد وشاعر تونسي*
أولا – قصيدة: اللجوء الى الجحيم
صرّافتانِ
وكُوّةٌ للذكرياتِ
وتشتري منها الصُّروفا
حوِّلْ نقودَ البؤسِ إنّكَ راحلٌ
أوراقُ حزنِكَ بخسةٌ
إذْ لا تساوي فرحةً
ضعْ في الحقيبةِ ضحكةً
خبّئ بها صورًا تعيدُكَ ليلةً
طفلاً يشاكسُ قطةً في الدارِ
ينثرُ حُمقَهُ بسخافةٍ
ما أسعدَ الطفلَ السخيفا!
وعلى الحُدودِ اجْعَلْ سُكُوتَكَ
زَورقًا في بَحرِ غيظِكَ
كي تَكونَ بعينِ مَن وَدّعتَ
أو بِعيونِ من تَلقى شَريفا
*
لا تبكِ
دمعُ الراحلينَ خطيئةٌ
تحتاجُها في الغربةِ الحمقاءِ
تعجنُها بطينِ الذكرياتِ
لتبنيَ الأوهامَ ذاتَ تشوّقٍ
قصرًا منيفا
واعبرْ جسورَ الظنِّ نحوَ الغيبِ لا ..
لا تلتفتْ
ماضيكَ خوفٌ والشجاعةُ كذبةٌ
فاهربْ بحلمِكَ
إنَّهُمْ يتآمرونَ على الرؤى
يتعقبونَ ملامحَ الغافينَ كي يتناهشوا
الحلمَ الضعيفا
*
لا تنتظرْ
إنَّ الصباحَ غدا كفيفا
هُوَ لنْ يراكَ لأنَّهُمْ
فقؤوا عيونَ الفجرِ كي تلقاهُ
إنْ ناظرتَهُ وحشًا مخيفا
لملمْ سنينَكَ والثواني واحترفْ
تنظيفَ آثارِ الأناملِ وابتكرْ
موتًا نظيفا
هُمْ … لا تسلْني من هُمُ.
فأنا وظلُّ الياسمينِ
وقامةُ النخلِ الحزينِ
وماءُ دجلةَ والفراتُ
وكلُّ ثكلى عاقرتْ خمرَ الأنينْ
سنجيبُ: لا ندري.
ولكنْ قال لي نيسانُ: إنَّ بِوِسعِهِمْ
أنْ يجعلوا منّي خريفا.
*
سِرْ نحوَ منفاكَ الجميلِ مردّدًا:
أنا لا أريدُ الموتَ، إذ ماتَ الوطنْ.
كلّ الشّوارعِ والمدائنِ
والزهورِ وكلُّ أصحابِ الطفولة ِ
أتقنوا دورَ الكفنْ
إنّ الجراحَ عميقةٌ
ما من يدٍ قد أوقفتْ فينا النزيفا
واقرأ هنا (والتينِ والزيتونِ)
واعلمْ أنّ ربَّكَ قد حَبَا الإنسانَ أحسنَ هيئةٍ
لكنّ عُهرَ فؤادِهِ يغتالُهُ
فارحلْ لعلّكَ تلتقي قلبًا عفيفا.
*
يتقيّأ التاريخُ في أفكارِنا
ونعتّقُ الأحقادَ خمرًا
كلّما زمنٌ صحا
قمنا بفتحِ زجاجتينْ
لتديرَنا الأقداحُ بينَ الرشفتينْ
مقهىً وطاولةٌ عليها ساقيانِ
وفتنةٌ بخطيئتينْ
لَغَطٌ وتَرْتَبِكُ المَعاني
إذْ يَضيعُ مَعَ الصّراخِ هنا هديلُ حَمَامَتينْ
وعلى الجِدارِ، السّاعَةُ الحُبلى يقينًا
مَجَّها في الشَّكِّ سَيْرُ العَقرَبينْ
صُوَرٌ وشاشاتٌ
وأفئدةٌ تُرَتِّقُ جرحَها
في الوَقتِ بينَ النَّشْرَتينْ
فاصمتْ وغادِرْ حانَةَ التاريخِ
كيْ تَشتاقَ عَوْدًا
مِثلما أغمادُنا اشتاقَتْ سُيوفا
*
شوقٌ
وتمضغُكَ الليالي فاصطبرْ
إنَّ الرّحيلَ فضيلةٌ
ستعودُ يومًا إنّما بقصيدةٍ
أبياتُها من شوقِها ذَرَفَتْ حُروفا
واعلمْ بأنكَ كنتَ في وطنٍ
على شرفاتَهِ صلى جميعُ الأنبياءْ
وبأنّهُ البابُ الوحيدُ إلى السّماءْ
قفْ…
فوقَ ناصيةِ الحنينِ
وألقِ شعرًا … وانتبهْ ..
الشّعرُ لا يُلقى بحضرةِ أهلِهِ
إلا وُقوفا
ثانيا – القراءة التحليلية – مصطفى ضيه
قصيدة ملحمية ليس لها نظير في تاريخ الأدب العربي،قديمه وحديثه.قصيدة فصلت ونسجت من وجع وتفجع وانكسارات وتشظي ذات ملتاعة في وطن ممزق،أشلاء،فيه انقلب سلم القيم وتعطل المنطق و سادت فيه الخرافة والأسطورة وأخلاق العبيد.وطن يحتضر ويشتغل بمقولة الفيلسوف الألماني”لا شيء حقيقي،كل شيء مباح”.وطن بحجم الكون ماساته وبعمق المحيطات جراحاته:وحده الشاعر الملتاع يجلس وسط الحرائق والدخان والركام يفتش عن مكان لم يلحقه بعد الخراب ولم يزلزل ولم تصل إليه أعاصير الطوفان ليكمل قصيدة تليق بالمقام.. وقد يكون عنوانها”مرثية الآباء والأوطان! قصيدة نسجت على “لا”النافية والناهية التي تعطلت وظيفتها اللغوية:لم تعد تنفي وتنهي مثلما تعطل كل شيء في الوطن وعدنا إلى فيزياء نيوتن التي يحكمها مبدأ العطالة الثابتle principe d’inertie stationnaire.
هانحن نرجع إلى العصر الحجري، إلى عصر لا يسمى.خارجون عن الجاذبية الأرضية،خارج التاريخ والجغرافيا فلا العلم يحددنا ولا الفيزياء الانشتاينية تستقطبنا.نمجد الغمد المنسي ونهجو السيوف،نجل الفسولة ونختلق العداوة في الوهاد للرجولة وللمواقف.نمجد الوضيع والمنحط لمصلحة وضيعة والتمجيد تجميد والتجميد خيانة للحياة واحتضان للمطلق وتطليق للنسبي..! قصيدة اللاءات النافية والناهية والامر والطلب بقوة: 1_اللاءات:_اوراق حزنك بخسة اذ لا تساوي فرحة(بسمة) لا تبك دمع الراحلين خطيئة لا تلتفت ماضيك خوف والشجاعة كذبة لا تنتظر ان الصباح غد كفيفا لا تسلني من هم سنجيب لا ندري أنا لا أريد الموت،اذ مات الوطن الشعر لا يلقى بحضرة الله إلا وقوفا (لا النافية+الحصر). 2-الامر والطلب بقوة: “حول نقود البؤس،ضع في الحقيبة، خبىء بها صورا، اجعل سكوتك زورقا، لا تلك (نهي+أمر),واعبر جسور الظن،لا تلتفت،فاهرب بحلمك،لا تنتظر،لملم سنين الحلم واحترف،وابتكر موتا،لا تسلني،سر نحو منفاك،واقرا هنا،واعلم ان ربك،فارحل،فاصمت وغادر،فاصطبر،واعلم بأنك كنت في وطن،قف والق شعرا..” 3-لعبة الضمائر في النص:هي لعبة مراوغة للفهم باستثناء ضمير”هم” المحيل على الغائبين في اللغة ولكنهم حاضرون بقوة في وجدان ووعي ولاوعي”أنت”المتقبل ومن وراءه الباث(أنا).”هم”على حد تعبير جون بول سارتر”الاخرون هم الجحيم”.
قصيدة ملحمية كما قلنا والنص برمته مسرحية وعبارة عن one man show ظاهريا أي في مستوى الشكل هناك ثلاثة ممثلين ولكن في العمق هناك ممثل واحد. إذا شكلا هناك حوار ومضمونا هناك حوار باطني وعبارة عن مونولوج داخلي:الباث مفرد في صيغة الجمع ،يتكلم بضمير الجمع والحوار الباطني يعبر دوما عن تمزق وانشطار! هذا الاسلوب في الكتابة مرجعيته مقولة شهيرة للشاعر الفرنسي الكبير ارتور رمبو ArthurRimbaud” أنا هو الآخر” je est un autre ” .اذن في النهاية الباث هو نفسه أنت وهم ولكن “أنا”الشاعر الواعي هو الغالب والناصح لنفسه أولا فكاني به يقول”فيا نفس صبرا لست والله فاعلمي /بأول نفس غاب عنها حبيبهاثم لكم أنتم”أيها القراء.! ملاحظة:هناك نسج محكم للنص فيه تقدمprogressionوتدرج مدروس بعناية،خاصة في آخر القصيدة:”سر,أقرأ واعلم وارحل،فاصمت وغادر،اصطبر،قف والق(شعرا)أو خطبة وداع!! مدخل القصيدة:صرافتان واقفتان تناديان (تحيلان على بنايتين أو شخصيتين في الطريق العام كما نلاحظ اليوم في السوق الموازية للاقتصاد الوطني) الراحلين إلى اللامكان واللازمان،هيا…حان وقت الرحيل أيها العابرون في مكان عابر..” وفي قراءة أخرى تاجرتان بالدين يبيعان صكوك الغفران للمتعبين والمهمشين والفقراء والمجهلين للدخول زورا إلى جنة لم توجد أصلا في كل الكتب السماوية ووجدت في أذهان الماكيافليين والانتهاويين والوصوليين(نسبة الى ماكيفال Machiavel“مؤلف كتاب” الأمير”.
نهاية القصيدة: وشاعر واقف على أهبة الرحيل للمجهول يشده الحنين فيلقي شعره الذي يشتغل كخطبة وداع:مشهد بديع في مسرحية تراجيدية تحاكي التراجيديا الإغريقية وعلى الضفة الاخرى كوميديا إنسانية ساخرة من الحياة ومن الوجود العبثي حسب تعبير الروائي الفرنسي الكبير: انورى دي بلزاك Honoré de Balzac, العنوان: “اللجوء الى الجحيم”: اللجوء: من لجا٫يلجا فهو لاجىء إلى مكان ما من خطر داهم و”اللجوء”معرف وليس نكرة. الجحيم، “معرفة كذلك وليست نكرة: الاسمان معلومان. ذكر الجحيم يكون دائما مرفوقا بالجنة. الجنة جنتان:جنة أرضية يمكن ايجادها بالقول والفعل إذا تمكن الإنسان من استعمال ملكة العقل على احسن وجه والعلم الذي انتجه يكون في صالحه.ولكن حسب الدراسات العلمية الحديثة والاحصائيات فان هذا الأخير رغم التقدم العلمي الهائل لم يستغل هذه الملكة إلا بنسبة ضئيلة بنسبة عشرة من مائة وأغلب الوقت هناك من يستعمل عقله ضد نفسه وضد حاجته ومصلحته.في العلوم ما تسمى بالصحيحة نادرا ما يطرح العالم سؤالا حول سعادة الانسان بالرغم من أن العلم مرتبط ارتباطا وثيقا بالوعي ولا فائدة من علم بلا وعي كما يقول الروائي الفرنسي فرانسوا دب رابلي. Francois De Rabelais.*علم بلا وعي هو تحطيم الروح”.سراب السعادة يطرحه الفيلسوف بدرجة أولى والفنان بدرجة ثانية أو الاثنان معا اذا اشتركا في الوعي بالضرورة وهو تعريف دقيق للحرية. هذه الجنة الارضية لم توجد على الأرض برغم الرفاهية الظاهرة لأنها مرتبطة بالاحساس بالسعادة والسعادة نفسها نوعان:سعادة الحمقى التي هي شقاء وشقاء الحكماء الذي هو سعادة وقديما قال المتنبي:”ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخ الجهالة في الشقاوة ينعم.”. الجنة الثانية هي الجنة الموعودة في القرآن الكريم.. الجحيم: معرف بالالف واللام اذن هو معلوم لأننا نعيشه وهو جحيم أرضي صنعه الانسان بنفسه لنفسه وللآخرين دون وعي منه. جحيم يعيش فيه المشردون والفقراء والمهمشون والمرضى بلا دواء واللاجئون الذين هجروا من ديارهم ظلما،يعيشون في الشتات وفي المخيمات بلا عطاء ولافراش ولا فوت باطفالهم الذين يعانون من أزمة هويه:طفل أمه لا جئة وأبوه لاجىء وهو لاجىء بلا هوية:أصبح اللجوء وراثيا..! هذه قراءة مستعجلة دونتها أثر قراءة القصيدة من الوهلة الاولى،أكيد تحتاج الى مراجعة،مع المعذرة مسبقا للشاعر المبدع،تحت التأثير الحيني لم أستطع ان اصطبر كما قال في قصيدته وأظنه وبالتأكيد اشتغل هو نفسه على هذا التاثير المباشر في القارىء.! “ليت الفتى حجر”يا شاعرنا أنس الحجار أو أن ندرك ما وصل إليه المتنبي في عصره وعصرنا”أصخرة أنا مالي لاتحركني هذي المدام ولا هذي الأغاريد”!!! شعور بالتشيئة في كل شيء حتى في انسانية الانسان:هذا زمن العولمة الذي يمجده الغافل،هذا زمن الانكسارات والانهيارات المدوية،”فسارق الزهر مذموم بفعلته وقاتل الروح لا يدري به البشر”كما قال جبران خليل جبران.هذا زمن “الاجنحة المتكسرة”والمحظوظ فينا كما يقول الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي”يطير بجناح واحد منتوف”بمعنييه الحاف والمجاور!!!
هامش:
أستاذ اللغة الفرنسية وآدابها أستاذ أول مميز ،فوق الرتبة،رتبة استثنائية، شاعر له ديوان بعنوان”للشعر أزمنة وللهوى وطن” صادر عن دار صامد للنشر والتوزيع2004.