الديمقراطية الحديثة والمعاييرالأخلاقية السياسية
بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
تطورت فكرة الديمقراطية منذ العهد اليوناني القديم حتى عصرنا الحالي ، وبدأت تأخذ أبعاداً جديدة تبعاً للظروف والمستجدات في كافة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم. ففي حديثنا حول (الديمقراطية democracy) باليونانية (lδημοκρατία dēmokratía) في عهدها اليوناني تجسّد معناها في حكم الشعب، وتعتبر شكل من أشكال الحكم التي يشارك فيها جميع مواطنين الدولة المؤهلين بالتساوي ودون تفرقة، أو من خلال ممثلين عنهم يتم انتخابهم عن طريق صنايق الاقتراع، والتي تعمل على تطوير واستحداث القوانين والتشريعات الناظمة في القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تمكِّن المواطنين من الممارسة الحرّة والمتساوية بينهم دون تمييز، لتقرير المصير السياسي. وهي في نهاية المطاف تعبير عن نظام الحكم في دولة ديمقراطية لوصف ثقافة مجتمع. ثقافةٍ سياسيّة وأخلاقية معيّنة لها تجلياتها الخاصة من أهمها وجود مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلمياً وبصورة دورية. كان هذا المفهوم قد نشأ في أثينا اليونانية قديماً كما بيّنا آنفاً، أما الآن فقد نشأ ما بات يُعرَف بالديمقراطية الجديدة أو الثورة الديمقراطية الجديدة، وهو مفهوم يستند إلى مستوى القضايا الاجتماعية، كما يستند إلى نظرية الطبقات الاجتماعية الأربعة التي ابتكرها مؤسس جمهورية الصين الشعبية الرئيس الصيني الراحل (ماو تسي تونغ Mao Zh Zedong.ogg) (1893 ـ 1976) م، والذي شكّلت أفكاره ما بات يُعرَف بالماوية. وكان له الفضل في إطلاق هذا المفهوم بعد الثورة الصينية والتي زعمت في الأساس أنَّ الديمقراطية في جمهورية الصين الشعبية سوف تسلك مساراً خاصاً مميزًا بشكلٍ حاسم عن أيّ دولة أخرى في العالم. تلك المفاهيم يمكن أن يتم تبنيها في كلّ بلد من دول العالم الثالث الذي ستكون لديه طريقته الخاصة والفريدة نحو الديمقراطية وممارستها، نظراً للظروف الاجتماعيّة والثقافية والمادية الخاصة ببعض البلدان. وكان (ماو تسي تونغ Mao Zh Zedong.ogg) قد وصف الديمقراطية التمثيلية في الدول الغربية بأنها ديمقراطية قديمة قِدَم الحضارة اليونانية، ووصف النظام البرلماني الغربي بأنَّه مجرد أداة لتعزيز دكتاتورية الطبقة البرجوازية التي تمتلك رؤوس الأموال والمهن والحِرَف، كما تمتلك القدرة على الانتاج والسيطرة على المجتمع ومؤسسات الدولة من خلال الموافقة على الصناعات التحويلية. كما وَجَدَ ماو تسي يونغ أنَّ مفهومه للديمقراطية الجديدة على تعارض مع ديكتاتورية النمط السوفيتي السابق للطبقة العاملة التي افترض أنها ستكون البنية السياسية والثقافية المهيمنة في عالم ما بعد الرأسمالية ومآلاتها. إنَّ أفكار الزعيم الصيني الراحل ماو تسي يونغ كان يهدف من خلالها أن يخلق دولة صين جديدة، دولة تتحرّر بالكامل من الجوانب الإقطاعية وشبه الإقطاعية وملكية الأراضي لثقافتها القديمة، فضلاً عن الإمبريالية اليابانية التي طغت بشكلٍ غير مسبوق .
مفهوم الديمقراطية الجديدة يهدف إلى الإطاحة بالإقطاع وسلطته، وتحقيق الاستقلال عن الاستعمار. إلّا أنه يتعارض مع الحكم الذي تنبأ به الفيلسوف والمؤرخ وعالم الاقتصاد الألماني (كارل هانريش ماركس Karl Marx) (1818 ـ 1883) م بأنَّ الطبقة الرأسمالية سوف تتبع مثل هذا الصراع عادةً،هذا الزعم يدعو لأن تكون بدل من ذلك سعيها إلى الدخول مباشرةً إلى المنظومة الاشتراكية من خلال الدمج بين الطبقات الاجتماعية التي تحارب النظام الحاكم القديم. وهذا التحالف يوضع تحت قيادة وتوجيه الطبقة العاملة ومعها أحزابها الشيوعية، وتعمل مع الشيوعيين بغض النظر عن منهجهم وإيديولوجيتهم المتنافسة من أجل تحقيق الهدف المباشر الأوَّل المتمثل في «نظام ديمقراطي جديد». في حقيقة الأمر كان هذا الرأي يتشارك معه قائد الحزب البلشفي والثورة البلشفية فلاديمير ألييتش أوليانوف المعروف بـ (لينين) (Vladimir Ilyich Ulyanov-Lenin) (1870 ـ 1924) م الذي كان قد انشق عن أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي (Russian Social Democratic Party) بسبب فكرة أنَّ الطبقة العاملة قادرة على تنظيم وقيادة الثورة الديمقراطية في بلد متخلف اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً مثل روسيا، حيث الظروف الموضوعية للاشتراكية لم تكن موجودة بعد. وكان الشيوعيون الصينيون حينها يأملون بأن تتمكن الطبقة العاملة بطريقة مشابهة من تحقيق بناء اشتراكية وشيوعية كاملة النضج، وقادرة على العطاء، على الرغم من المصالح الطبقية والاجتماعية المتنافسة للطبقات الاجتماعية في المجموعة.
في سياق مشابه هناك ثمةَ خطرٌ كبير يُهدِّد الديمقراطية بمفهومها العصري الحديث. وثمةَ خطرٌ أكبر أيضاً يُهدِّد الأخلاق الإنسانية العامة ومستقبل البشرية جمعاء من جراء المبالغة في شرح وتفسير (المبادئ الديمقراطية Democratic principles)، أو استخدام بعض جوانبها لتحقيق أغراض غير متوافقة مع أهدافها، وتتنافى كلياً مع مقاصدها الجوهرية الأساسية، ذلك أنَّ الهدف والمغزى الأساسي من ممارسة الديمقراطية أو الشورى، هو التعبير عن إرادة المواطنين وطموحاتهم، وعدم فرض ما يمكن أن يتعارض مع رأي الغالبية العظمى من المواطنين، وصناعة لوائح وقوانين تشريعية تحقِّق لهم المصلحة والأمن والاستقرار المشترك، ضمن ضوابط ولوائح حدَّدتها العقود الوطنية التأسيسية في غالبية دول العالم، وأشارت إليها الشرائع السماوية، وهناك الكثير من الدساتير المعتمدة في الدول أشارت في مقدمتها إلى الإجلال لله وحده، ومنها تم تحديد ديانة الدولة أيضاً، وهذا الأمر يفرض على القانونيين والمُشرّعين المنتخبين الركون إلى القيم والمبادئ والنواميس التي يتفق عليها غالبية الشعب في البلد.
لقد تم التأكيد على أنّ بعض الأعمال التشريعية والقانونية في بعض الدول الغربية، قد خرجت عن الإطار العام المتعارف عليه بتقادم عشرات بل مئات السنين لدى البشرية جمعاء بحجة إطلاق مزيد من التطوّر والتقدُّم، ومنها محاولة إنتاج آراء ومفاهيم جديدة للتخلّص أو للهروب من الاعتقاد الراسخ بأن الله خلق الناس جميعاً من ذكرٍ وأُنثى، وأنَّ الأديان السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام أشارت إلى هذه الواقعة بوضوحٍ تام، وهذه الأديان لم تتنكر أبداً لأي نفسٍ بشرية خلقها الله بوضعياتٍ خاصة ومميزات فريدة، ولهؤلاء الحق بالحياة الإنسانية والرعاية الاجتماعية والاقتصادية كما غيرهم، لكن الزواج كعملية إنسانية واجتماعية تعدُّ سرٌ مقدس بين المرأة والرجل حصراً في الديانة المسيحية، ولا يحصل في الإسلام إلا بين رجلٍ وامرأة. وتشريع زواج المثليين يأتي من ضمن تجاوز حدود الصلاحية وفقاً لفلسفة القانون، الذي يهدف إلى تقديم إجابة عن العديد من الأسئلة المتعلقة بالقانون والنظام القضائي، والعلاقة بين القانون والأخلاق. وقد وضع الفيلسوف البريطاني جون لانجو «جيه إل» أوستن John Langshaw Austin نظرية في هذا الكتاب واسمها the command theory of law أي نظرية الأمر. في هذه النظرية اهتم جون لانجو اوستن بتقسيم القانون إلى: الموسَّع والمضيق. فقد تمَّ تقسيم الموسَّع إلى: أولاً قانون باعتبار المجاز، والثاني قانون باعتبار القياس. أمَّ المضيق فينقسم إلى قانون إنساني أو بشري ، وقانون إلهي.
لأنَّ المثلية قوننة ما هو خارج الطبيعة الآدمية التي فطرنا الله عليها، ويعتبر خروجاً على حدّ السلطة القائمة، وهذه السلطة لا يمكن أن تكون سلطة مطلقة ومجرَّدة من أي قيد أو حدود، وعندها ماذا يمنع (تشريع القتل) على سبيل المثال لا الحصر، إذا ما جرى أي تغيير وانحرفت الأكثرية من المواطنين لأي سببٍ كان.
يقول المفكر والفيلسوف وعالم الاجتماع الأمريكي مايكل والزر (Michael Walzer): لا يجوز اعتبار أنَّ كل ما يُشرَّع بقانون، حق. والنظرية التي وضعها المفكر والفيلسوف السياسي الفلورنسي نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي Niccolò di Bernardo dei Machiavelli)) (1469 ـ 1527) لم تصل إلى حد تبرير اعتماد أي وسيلة للوصول إلى الهدف المنشود، وميكيافيللي Machiavelli دعا إلى ممارسة البراغماتية ضمن حدود الالتزام بالأخلاق العامة، وتجنَّب تدمير التراكم الحضاري والإنساني للبشرية. حتى إنَّ المفاهيم والآراء التي اعتمدها القياصرة الروس قبل عام 1917م، وشعارهم الأساسي المعلن هو : (ما هو مصلحة للقيصر، هو مصلحة للدولة)، تلك المفاهيم والآراء لم تتخط حدود الكرامة الإنسانية الخاصة بالنفس البشرية، ومفاهيمهم وآراءهم تم تفصيلها ما بين ما هو لله وما هو للقيصر. فقد ورد في الإنجيل المقدس (أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) (مرقس 12 : 12ـ 17).
ويتفق فقهاء العلوم السياسية على أنه لا يمكن ممارسة قيادة الناس وتوجيههم باتجاه إيجابي وحفظ مصالحهم دون الالتزام بمعايير الأخلاق. والأخلاق في السياسة من خلال اتخاذ الأحكام الأخلاقية حول العمل السياسي والعوامل السياسية التي تشتمل مجالين هما أخلاقيات المنصب وأخلاقيات السياسة العامة المتعلقة بالقوانين. ونزاهة وإخلاص واستقامة للمصلحة العامة واللياقة والصراحة والتجرُّد. ولا يمكن إنكار كون بعض جوانب الممارسات الديمقراطية الحديثة والمعاصرة وبعض التصرفات الأُوليغارشية (حكم الأقلية) دمَّرت الفكرة، وتحوَّلت مهنة بعض السياسيين في البلاد إلى ما يشبه المقاولة التي يمكنها التعهد بالقيام بأي عمل، وهو دور الوكيل، بما في ذلك بعض الأعمال التي تتضمن على قذارة جلية وخرق لكل المعايير الأخلاقية والإنسانية. بينما مهنة السياسة هي من أشرف المهن في الدولة، لأنها تتعلَّق بقيادة المواطنين.
لا يمكن إنكار كون (الديمقراطية الحديثة Modern democracy) التي جاءت مع (الجمهورية الهلفيتية) من عام 1798 وحتى عام 1803م، والتي ترافقت مع الثورة الهلفيتية بالديمقراطية إلى سويسرا. التي كانت انتفاضة ضد طبقة النبلاء ـ هي التي أسَّست لاستقرار سياسي في العديد من الدول ، ومنها على وجه الخصوص الدول الغربية التي نجحت في إغناء الحياة البشرية، من خلال المساهمة الفعالة في تطوير الأنظمة والقوانين والتشريعات الناظمة وتشجيع الابتكارات العلمية والثقافية والمعرفية. وفي المقابل، لا يمكن التسليم بأن النُظم السياسية ومنهجها ،والمؤسسات الدستورية التي تعتمد المقاربات الديمقراطية الحديثة بل والمعاصرة، قادرة على التعامل مع كل ظواهر ومشاغل الحياة البشرية وتفاعلاتها، أو أنّها قادرة على تحدي الطبيعة وقوانينها أيضاً.
ما يمكن التسليم به في إطار الملفات السياسية أو الاقتصادية، لا ينطبق على بعض أسرار الطبيعة وقوتها الكامنة فيها التي ما زالت عصية على القدرات الهائلة والمعرفة العميقة التي وصل إليها الإنسان. والتغوُّل في المساحات الفسيحة والعميقة لأسرار الكون المكنون، قد يكون متعباً أكثر مما يتصوره الكثيرون أو بعضهم. وفكرة المادية التاريخية التي أسّس لها الفيلسوف الألماني (كارل هانريش ماركس Karl Marx) منذ منتصف القرن التاسع عشر، أخفقت في العيش طويلاً، فقد ذبلت وترنَّحت مع سقوط الاتحاد السوفيتي السابق عام 1990م.
إنّ الحفاظ على الطبيعة بكل مكوناتها ليس مطلباً دينياً فقط، كما يحاول بعض المتمسكين بنظرية (الحرية من دون حدود Freedom without limits)، بل هي ضرورة إنسانية جامعة مانعة، وتجاوز (حدود الطبيعة Nature limits)، وابتكار تسميات جديدة معاصرة للمخلوقات البشرية، فيهما مغامرة قد تُهدِد مستقبل البشرية جمعاء، وممكن أن تنقلب رأساً على عقب على غلاة المطالبين بها بالدرجة الأولى ودون تردّد.