بقلم: ناهض زقوت |أديب وناقد – غزة
منذ أن فتحت شهرزاد مخيلة الرجل على السرد، أصبحت المرأة مصدر إلهامه في التعبير عن تصوراته للحياة، فقدّم المرأة كذات فردية تعيش في اطار الواقع الاجتماعي بكل سلبياته وإيجابياته، وتمكّن من اقناع القارئ بصدق الحياة المتخيلة في ابداعاته الروائية والقصصية التي تعيش في ظلّها المرأة، وشكّل بذلك الصورة النمطية للمرأة بأنها تابعة للرجل.
كان لا بد لتلك الصورة النمطية أن تتغير، وبفضل فتح آفاق التعليم، والتطور العلمي والتكنولوجي، ساهمت المرأة الكاتبة في تغيير الصورة فلم تعد المرأة تابعة بل نداً للرجل ونصف المجتمع، ولها حقوق كالرجل تماماً، تساهم في حركة المجتمع كالرجل، وأن حرية المجتمع وتقدّمه تبدأ من تحرر المرأة من سطوة الرجل. فخاضت المرأة الكتابة منذ القرن التاسع عشر للميلاد مؤكدة على ذاتها ووجودها في المشهد الأدبي تماماً كالرجل، ومدافعة عن حقوقها أمام هيمنة الذكورة. ورغم مرورها في حالات المد والانحسار نتيجة عوامل اجتماعية، إلا أنها كانت متواصلة، ولم تنقطع عبر كل السنوات إلى أن وصلت في القرن الحادي والعشرين إلى طفرة روائية نسوية.
تشهد الساحة الأدبية العربية ومن بينها الفلسطينية ظاهرة الرواية النسوية، وزخم روائي نسوي بدأ يفرض نفسه ويتميز في الساحة الأدبية وصل إلى حد المنافسة على الجوائز العالمية، ولكن الغالبية مازلن أسيرات الذات، وأسيرات الرؤية الشمولية لقضايا المرأة، في منحي التحرر من سطوة الذكورة، وتعرية تشوهات الرجل العربي وفصاميته مع المرأة، ومن قيود المجتمع والانطلاق نحو آفاق أرحب وأوسع. وثمة من قاربن بين الرؤيتين بفتح آفاق وعوالم أخرى مستمدة من الواقع الاجتماعي، فخضن تجارب الكتابة عن الثورات والإرهاب والاستبداد السياسي، وتأثير ذلك على المرأة وعلى مصير الأوطان.
وفي سياق الدفاع عن الذات أمام سطوة المجتمع وهيمنة الرجل، وبلغة سردية متماسكة تأتي رواية الكاتبة الفلسطينية صباح بشير “رحلة إلى ذات امرأة” الصادر عن دار شامل للنشر في نابلس عام 2023. لنسافر معها في أغوار رحلتها الواقعية الاجتماعية للبحث عن ذاتها وسط عالم مليء بالتراكمات الراسخة التي يجب تغييرها وتجاوزها نحو رؤى مجتمعية تدفع نحو تطور المجتمع.
الكاتبة صباح بشير ابنة القدس، حاصلة على ماجستير في الدراسات الثقافية، ومختصة في قضايا المرأة حيث عملت في عدة مؤسسات انسانية وحقوقية واجتماعية، ومحاضرة أكاديمية في كلية بيت بيرل، تكتب المقالات الأدبية والثقافية في الصحافة العربية والمحلية، وتشارك في النشاطات والندوات الأدبية، وعضو فاعل في نادي حيفا الثقافي، وتقيم في حيفا. نشرت كتاباً مشتركاً مع الكاتب جميل السّلحوت بعنوان “رسائل من القدس واليها”، وهذه الرواية هي تجربتها الأولى في مجال الكتابة الروائية.
عتبة العنوان:
يأخذنا عنوان الرواية إلى فضاء من التساؤلات عن الدلالات التي تسعى الكاتبة إلى ترسيخها في ذهن القارئ منذ الوهلة الأولى، “رحلة إلى ذات امرأة”، فكيف تكون الرحلة إلى ذات امرأة؟ وما معنى الرحلة؟ وماذا تقصد بتلك الرحلة؟ ولماذا في ذات امرأة؟ ومن تكون تلك المرأة؟ وهل هي لسبر أغوار تلك الذات أم ثمة دلالات أخرى؟
هذه الأسئلة يثيرها العنوان، وحين التعمق في السرد يتفكك العنوان لصالح جمالية الرواية، وتعبيرها عن دلالات العنوان المتوافق مع السياق السردي.إن الرحلة تعني الشعور بالسعادة والانبساط الذي يشعر به المرء حينما يقوم برحلة سياحية إلى بلدان يجهلها، أو رحلة بين أحضان الطبيعة يستمتع بجمالها، ولكن رحلتنا مع هذه الرواية ليست بهذا المعنى، بل هي رحلة حياة لاستكشاف وسبر أغوار تجربة اجتماعية في أعماق الذات الإنسانية التي تمتلكها تلك المرأة التي تروي الرواية حكايتها، فيمنحنا العنوان القدرة والإرادة الذاتية المدفوعة بالفضول على الدخول في أعماق المتن السردي لتلك المرأة لاكتشاف ذاتها من خلال تجربتها الإنسانية الاجتماعية.
وذات المرأة تؤكد أننا أمام تجربة ذاتية واقعية، تنحو منحى السيرة الذاتية في قالب روائي، وتستمد عوالمها من مخزون الذات باستخدام ضمير الأنا المتكلم الذي يوحي بذاتية الأحداث وارتباطها بالأنا الساردة، بمعنى أن الساردة تكتب ذاتها لتشارك الآخرين في رؤيتهم لتجربتها، تلك التجربة التي تكون هي ذاتها ضحيتها، نتيجة هيمنة عادات وتقاليد بالية على مجتمع يعلي من قيمة الذكورة في مقابل انحطاط قيمة الأنثى، وهنا تكون رحلة الذات نحو انتقاد الواقع الاجتماعي والكشف عن اللازمة التي تستمد منها الكاتبة عنوان سردها أن المرأة هي ضحية الرجل والمجتمع معاً.
بناء الرواية ودلالات الزمان والمكان:
يستند بناء الرواية على عملية التذكر أو الاسترجاع الذاتي، تقول: “بدأت أرجع بالزمن إلى الوراء وأستذكر الماضي .. عاد بي سنوات إلى ذلك الماضي، لأنبش خباياه وما يجول في ثناياه”. وتستخدم ضمير الأنا المتكلم الذي يشعر القارئ بصدق الأحداث لأنه صوت الشخصية المندمجة في ذات الساردة الذي يتقاطع أحياناً مع حوار الساردة مع الشخصيات، ولكن تبقى الساردة مهيمنة على السرد، والناطقة بلسان كل شخصياتها، فهي العليم بكل شيء، وهي صاحبة التجربة القادرة على التعبير عنها. ويتضمن البناء السردي تقنيات فنية وأسلوبية وظفتها الكاتبة في بناء روايتها، فجاءت متوافقة مع السرد ومعمقة للتجربة، حيث استخدمت المراسلات عبر الوسائل الالكترونية، وتوظيف الأمثال الشعبية، والأغاني الوطنية والتراثية، والنصوص الدينية، والحكايات المعبرة عن قسوة المجتمع، مثل حكاية “الجارة أم عارف وابنتها أسماء”، وحكاية (آنا) الفرنسية ذات الأصول العربية التي تخرج من قصتها بحكمة أن “الحياة مع الشريك المناسب أكثر اشراقاً وسعادةً”، مما ينعكس على ماضي حياتها في عدم اختيار الشريك المناسب. وكذلك نماذج التجارب الحكائية التي التقتها لإعداد تقرير عن تعدد الزوجات، ورغم أن هذه التجارب أسلوب تقريري، وسرد لا فائدة منه في العمل الأدبي، ولا يضيف لجمالية الرواية، إلا أن الكاتبة جاءت بهذه الحكايات لكي تؤكد مصداقية الأحداث وواقعيتها، وتعمق رؤيتها الانتقادية للمجتمع، وكان يمكن الاستغناء عنها دون أن تؤثر على مجرى الأحداث ومضمون السرد.
تبدأ الرواية من حيث ينتهي السرد، بعد أن تصل الساردة إلى ختام تجربتها واستقرارها في الوطن، نجدها في آخر سطر من الرواية تكتب “بدأت العمل على ترتيب أموري وأوضاعي، وها أنا أجلس على شرفتي الجميلة وأدون الذكريات”، كأن النهاية هي بداية السرد، حيث نجدها في بداية الرواية تصف ما تراه من عجيج الحياة أثناء جلوسها على الشرفة في البناية التي سكنتها حديثاً بعد عودتها من فرنسا، وهو ما يعرف بالرواية المدورة، وهو أسلوب من أساليب الرواية الحديثة.
تكشف الذكريات عن الجزء المخفي من حياة الشخصية، الذي لا يمكن معرفته إلا من خلال ذكريات تلك الشخصية، فهي نوع من السيرة الذاتية التي لا تقول كل الحقيقة، بل تسلط الضوء على جانب من شخصيتها يجمع بين الواقع والخيال حينما يتم صياغتها كرواية في محاولة للتفريغ النفسي، أو نوعاً من تأنيب الضمير في حالة عدم رضاها عن أفعالها، أو تكون محاولة من الشخصية لتجاوز الواقع والهروب منه نحو الماضي. في هذه الرواية وذكريات الساردة هي محاولة للتفريغ النفسي بالحديث عن تجربة حياة عاشتها بكل ايجابياتها وسلبياتها، وتسعى لمشاركة القارئ في تفاصيلها، دون أن تمنحه الفرصة ليعبر عن رأيه في ذكرياتها وتجربتها ورؤيتها للواقع، وادانتها للرجل والمجتمع معاً، فهي صاحبة الحق في التعبير وتوجيه القارئ للإيمان بتلك الرؤية التي لم نشعر أن ثمة ادانة للشخصية الساردة، بل هي ضحية لكل من الأسرة، والمجتمع، والرجل، فجميعهم مدانون وسبب معاناتها وأزمتها الاجتماعية والإنسانية.
تتوزع الرواية على سبع عشرة فصلاً، في 273 صفحة. تحمل ذكرياتها ورؤاها وأفكارها والقضايا الاجتماعية التي طرحتها في سبيل كشف ما هو راسخ في المجتمع من عادات وتقاليد وأعراف سائدة منذ زمن قديم وما زال الأبناء يتوارثونها كأنها من مقدسات المجتمع، فأصبحت تلك الأفكار قيم راسخة دون تطور أو تجديد مع العصر. وكانت تلك القيم التي ناقشتها الساردةفي روايتها ما زالت تطفو على سطح المجتمع، كالعنف الأسري، والتفريق المجتمعي بين الذكر والأنثى، والزواج التقليدي غير المتكافئ، وعقدة الخوف من عنوسة البنت، وقضايا الطلاق وأسبابها وآثارها، العلاقات الأسرية داخل البيت الواحد. وإلى جانب ذلك كانت ثمة قيم ايجابية حافظ المجتمع عليها: كالتكافل المجتمعي في الأزمات، والعلاقات الاجتماعية الحميمية بين المسلمين والمسيحيين. كما أبرزت الكاتبة تأثيرات الوضع السياسي (الانتفاضة الفلسطينية) على حياة الناس وأحلامهم ومصائرهم، ومشاعر الألم التي تنتاب الأم التي فقدت ابنها شهيداً، وكانت (أم إبراهيم) نموذجاً للأم التي فقدت ولدها (خالد) بما يخالف الصورة التقليدية التي يروجها الإعلام، بأن الأم تزغرد لاستشهاد ابنها، فهي تكشف عن الجانب الآخر لمشاعر الأم التي تعيش أياماً في حالة صدمة وحزن شديد على ابنها “فقد عقدت الصدمة لسانها وانهارت تماماً، فتراها تغفو لبرهة وتصحو دون تركيز”. هذه كانت حالة أم إبراهيم. وتصف مشاهد من الانتفاضة وتأثيراتها على أحوال الناس “أزيز الرصاص، والغاز المسيل للدموع ملأ فضاء المدينة والمدن المجاورة، والدخان لون سماءها بالسواد”، كما حطمت الانتفاضة أحلامها في اكمال تعليمها الجامعي بسبب الاغلاق المتكرر للجامعات، واغلاق الطرق.
ونجد الساردة تستغل حدث الانتفاضة لتعبر عن رؤيتها في مسألة الكفاح والمقاومة كرؤية اجتماعية وليست سياسية، تقول: مسألة الكفاح والمقاومة كرؤية اجتماعية وليست سياسية، تقول: “البعض يظن أن الكفاح والمقاومة يكمن فقط في حمل السلاح، كم هو ساذج هذا التفكير، فكثيرون وكثيرات حملوا سلاحاً من نوع آخر، سلاح مقاومة الفقر والاستغلال لكسب لقمة العيش بشرف وأمانة”. تحاول هنا التوازن بين الكفاح الوطني إلى جانب الكفاح الاجتماعي الذي يحفظ للإنسان كرامته من ذل السؤال.
يشكل الزمان والمكان عنصران متلازمان في العمل الروائي، فلا رواية دون مكان أو زمان. يتخذ الزمان أشكالاً متعددة في العمل الروائي تكون مرتبطة بأحداث الرواية، في هذه الرواية لم يكن ثمة زمان محدد لسرد الأحداث، فهي رحلة حياة ممتدة بدأت ملامحها من السنوات الأولى في بيت الأسرة، وصولاً إلى تبلور زمنها في الانتفاضة الفلسطينية سنة 1987، وتأثيرها على بطلة السرد وتشكل حياتها ومعاناتها. فليس ثمة تقيد بالزمن في هذه الرواية، وإنما يخضع لترتيب الأحداث، فنجدها أحياناً تسرع الزمن “هكذا مضت الأيام بحلوها ومرها”. وكذلك “تمر الأيام ثقيلة كالسنين”. وأحياناً تسترجع الزمن “اليوم، وبعد كل تلك السنين”.
وهنا تبرز التقنية الفنية الحديثة التي استخدمتها الكاتبة في سردها وهي تقنية المفارقة الزمنية في السرد، فسرد الأحداث يأتي بعد زمن طويل من وقوعها، فهو سرد قائم على الاسترجاع، فنجدها تقول أثناء تجوالها في القدس: “في طريق العودة سمعنا صوت الأغاني الوطنية الصادرة عن المحلات التجارية التي كانت تبيع الأشرطة الموسيقية آنذاك، لم تكن الأقراص المضغوطة (CD) معروفة بعد”. وفي الماضي غابت التكنولوجيا وكانت ثمة وسائل أخرى للترفيه، فنجدها تعيد ذكرياتها عن العرض السينمائي الذي كان يستقطب الكثير من الناس على اختلاف أعمارهم، “لم تكن الأجهزة الحديثة المتطورة متوفرة آنذاك .. كانت أجهزة التلفاز والراديو ودور السينما تتربع على عرش الترفيه في حينها”. كذلك تقنية استباق الأحداث بمعنى معرفة تفاصيل الحدث أو الموضوع لاحقاً بعد أن تشير إليه أثناء السرد. نقرأ ما عرفته لاحقاً عن دلالات المثل الذي قالته أمها: “البنت الحرة مثل الذهب بالصرة”، تعرف بعد ذلك كما تقول أن هذا الذهب (المهر) ما هو إلا قيد غليظ”، يكبل حرية المرأة. كأنها أرادت القول أن المهر هو الثمن الذي يدفع في تلك المرأة.
يتوزع الفضاء المكاني في سرد الأحداث من المكان الأكبر إلى المكان الأصغر. يتمثل المكان الأكبر في القدس بكل تجلياتها الجمالية والمكانية، ومنها يتفرع حي واد الجوز مكان ميلاد الساردة ونشأتها، ومنه إلى شوارع الحي وساحاته ومدرسته، ثم تنتقل منه إلى بيت الزوجية، وتخرج من القدس إلى باريس لتعيش جماليات المكان في الشوارع والمقاهي وشقتها والحدائق. وتتراوح هذه الأمكنة بين المكان المفتوح والمكان المغلق وفيهما تتشكل حياة الساردة ورحلتها.
ويتجلى وصف المكان عند الساردة بما يؤكد مصداقية ما ترويه من أحداث، فهي ترسم صورة بصرية تجعل إدراك المكان بواسطة اللغة ممكناً، وجاعلة من الوصف أداة لتصوير المكان وبيان جزئياته وأبعاده. نقرأ ما تصف به القدس أثناء تجوالها لشراء لوازم العرس مما يعمق انتمائها وارتباطها بالمكان: “رحت أتأمل المكان وكيف جمع ما فيه بانسجام بديع، من ماضيه العريق إلى حاضره الحزين، شعرت بعبق التاريخ يفوح من كل مكان، اجتاحتني نشوة المعرفة لكل ما هو حقيقي وأصيل يختبئ بين زوايا المدينة، فكل حجر فيها يسرد حكاية الزمان وأصالة الموقع والمقام”.
وحين تصف بيت الزوجية تساهم دلالات اللغة في التعبير عن معاناتها في المكان بعد ما لاقته من زوجها عمر وتسلطه عليها، ومعاملة حماتها لها من ذل واهانة. إن ضعف الإنسان أمام الواقع يجعله يستسلم دون إرادة منه، إذا لم يكن لديه القدرة على التمرد تقول: “إنه الضعف، أجل ذلك الضعف والهشاشة التي تجعلنا نتحمل ونصبر ونتقبل الظلم ونتعود عليه”، وهذا الضعف حول حياتها إلى جحيم، وأمام هذا الواقع المرير فضلت العيش على هامش الحياة في بيت الزوجية، فلم تعد تهتم بشيء سوى تربية طفلتها، وأن تكون قدوة لها.
ولكن نظرتها للمكان تتغير عند وصولها لباريس بعد أن حصلت على حريتها بالطلاق من “عمر”، وقد ألقت عن كاهلها كل الذكريات الكئيبة، وانطلقت نحو الحياة الجديدة في باريس والتي رغم بردها إلا أنها شعرت بالدفء الداخلي الذي فقدته بين أهلها وأبناء جلدتها. باريس عالم يموج بالحركة والحياة فقد دهشت من جمالها وتعدد ثقافاتها فأحبتها، تقول: “شعرت بها مدينة للنور، فهي تحرص على وجود الحياة لساكنيها ومواطنيها، مدينة مبتكرة وجريئة، نابضة بالقلوب الخافقة على أنغام الحب”.
إن الصفات التي أسقطها الساردة على المكان، تؤكد لنا مدى استثمارها لتلك الصفات لتجلية دلالات معينة تغذي نصها الروائي، وتمثل منعطفات مشعة في عالم النص، تكشف من خلالها عن مفهوم حرية الإنسان ودور المكان في بلورة هذه الحرية.
الشخصيات والساردة المهيمنة:
تعد الشخصية من أبرز المكونات الرئيسية التي يقوم عليها العمل السردي والعامل الذي يؤهل الرواية إلى النجاح والتميز والخلود. طفحت هذه الرواية بالعديد من الشخصيات التي كانت مساندة لبطلة السرد (حنان)، وهي: الأم، الأب، غادة/الأخت الصغرى، هبة/الأخت الكبرى، ماري/جارتها وصديقتها، رحاب/زوجة أخيها، سمية/إبنة الجارة أم عدنان، أم إبراهيم/أم الشهيد خالد، عمر/زوج حنان، أم عمر/حماة حنان، شروق/ابنة حنان، أم عارف/جارتها، أسماء/ابنة أم عارف، تغريد/جارتها وابنها عصام، أصدقاء العمل، ماتيلدا/صديقتها في باريس، آنا/عجوز باريس، نادر شعبان/زوج حنان في باريس.
وقد تميزت هذه الرواية بغياب التمايز بين الشخصيات، بمعنى وجود شخصيات رئيسية وثانوية، بل ثمة شخصية محورية تدور حول الشخصيات والأحداث، وهي التي تعبر وفق رؤيتها عنهم، كما تعبر عن ذاتها، لهذا تروحت نظرة الساردة البطلة إلى ذاتها وإلى الآخرين بما يشكل رؤيتها للعالم.
الأنا الساردة والذات:
تتبلور رؤية الذات إلى ذاتها من خلال نظرة الآخرين إليها، أو من خلال نظرتها هي إلى نفسها، حيث أن ادراك الذات لنفسها ومدى رضاها عنها، ونظرة الآخرين لها تعد من الدوافع الأساسية لأفعالها. حيث تبدأ بتقديم الثقافة التي تربت عليها من الموسيقى الأجنبية والعربية إلى الإذاعة البريطانية BBC حيث كانت تستمع وتتابع برامجها الثقافية والتفاعلية التي تناقش قضايا المنطقة والعالم، فأثرت على مستوى ثقافتها، إلا أن المكتبة بسطوة كتبها كانت متعتها الأهم، والطريق الذي سلكته لاكتساب المعرفة، لذا كانت تقتصد من مصروفها لشراء الكتب الثقافية والادبية وبعض المجلات.
وقد بالغت الذات الساردة “حنان” في وصف نفسها لكي تثبت حضورها ووجودها أمام الآخرين الذين يحاولون التقليل من قيمتها، فقدمت صفاتها الجسدية أمام الحاسدين لها وخاصة أختها غادة تقول: “كنت يافعة حسناء، بملامح ناعمة متسقة، وشعر ناعم مسترسل طويل، صاحبة نفس نقية وروح صافية، عفوية مرحة صاحبة نكتة محببة، ولطالما شد هدوئي من ناحية وقوامي الأهيف الممشوق، ووجهي المستدير الممتلئ نضارة من ناحية أخرى انتباه سيدات الحي”.
بعد انتهاء المرحلة الثانوية كان لديها الرغبة في استكمال دراستها الجامعية، ولكن أحداث الانتفاضة وفعاليتها منعتها من التسجيل، فجلست في البيت تواجه حالات أختها “غادة” المريضة بالغرور والحسد، ومواجهة الفتنة التي تزرعها بينها وبين والدتها. ودون سابق معرفة جاءها العريس “عمر” مع أهله خاطباً على الطريقة التقليدية التي ترفضها “كيف لي أن أتزوج من رجل لا أعرفه، ولا تربطني به أية عاطفة”، وترك لها والدها حرية إبداء رأيها في العريس بعد أن تجلس معه، من النظرة الأولى شعرت بالنفور تجاهه فلم تعجبها ملامحه، ولكنها خضعت لضغوطات أمها وتزوجته، وتصف نفسها ليلة العرس بما يتناقض مع شخصية “عمر” الذي لبس بدلة تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، “فتجهزت حتى غدوت مسرة للعيون ومبعث اعجاب لكل من يراني، كأني إحدى حوريات الجنة، شابة في العشرين ممشوقة القوام كالبدر بفستانها الأبيض، وشعرها المنسدل خلف طرحة بيضاء، تدلت على وجهها فلم تزده إلا جمالاً وبهاء”. فقد خطفت الأبصار وكان الكل معجب بها.
تعبر الساردة عن ذاتها بكل ثقة من سلوكها وتصرفاتها، حتى أشعرت القارئ أن روايتها قائمة على طرف يخطئ والطرف الأخر وهو المرأة لا تخطئ. لقد خلقت الكاتبة من شخصية “حنان” بما يمثل الملاك أمام الشيطان، تحمل كل أنواع الفضيلة والأخلاق والجمال. فأين البعد الإنساني في هذه الشخصية، فالإنسان سواء امرأة أو رجل يخطئ ويصيب، والمرأة ليست كاملة في كل أبعادها الإنسانية، فلم نلمس خطأ واحداً ارتكبته حنان في حق “عمر” زوجها أو في حق أية شخصية من شخصيات روايتها، بل قدمت “عمر” بصورة تنفر القارئ منه، وكان “نادر” زوجها الثاني الذي أحبته مخادعاً وكاذباً. مما يضعف العمل الأدبي ويجعله ذو نظرة أحادية الجانب أو الرؤية الواحدة في ظل غياب الشخصيات الأخرى وهيمنة الساردة على السرد.
الأنا الساردة والآخرون:
تنفتح ذاكرة الساردة حنان على مخزون هائل من الذكريات عن الشخوص الذين مروا في حياتها وكان ثمة ارتباط مباشر معهم، فنجد: الأب، الأم، غادة، ماري، عمر، ونادر. وتعتبر العائلة هي سندها وبها تشعر أنها تقف على أرض صلبة وسماء تظللها، وكان (الأب) بالنسبة لها السند الحقيقي في الحياة، والمناصر لها في كل المواقف، فهذا الأب في رأيها “كان يغدق علينا حباً وحناناً، يشعرنا بتفردنا وتميزنا، كان عاقلاً متواضعاً محبوباً، حسن السمعة”. وكان يجمعهم وهم صغاراً ويقرأ عليهم القصص، مما حببها في القراءة والثقافة لاحقاً. وبعد أن ضاقت الحياة المعيشية عليها في بيت زوجها وقف إلى جانبهما وساندهما بالمال. كما وقف إلى جانبهاً مدافعاً عنها أمام اعتراض والدتها على طلاقها، فلم يقبل ما حدث لها من ضرب واهانة، وعاتبها أنها أخفت عنه كل ما كان يحدث معها “كان عليك نبذ تلك الحياة التي تستباح فيها كرامتك، ورفض الضعف والاهانة، فذلك خير من استسلام لا يزيد صاحبة إلا مهانة”. ورفع قضية طلاقها في المحكمة.
أما (الأم) رغم حبها لها وشعورها بحنيتها وعطفها، إلا أنها كانت على النقيض من أفكارها الموروثة، وتنتقد أمها في تفكيرها التقليدي الذي ورثته عن أمها قبل خمسين سنة رغم أنها “لم تكن جاهلة لكنها كانت صنيعة مجتمع لا يرحم، تردد الأمثال الشعبية ليل نهار، وتريدنا أن نعيشها كقوانين ملزمة لا نحيد عنها”، فأصبحت تلك الأفكار قيم راسخة دون تطور أو تجديد، لهذا تصف أمها بأن “كل شيء تطور من حولنا إلا تفكير أمي”، فهي مثل كل الأمهات يتوارثن القيم عن الجدات جيلاً بعد جيل”: عدم لعب الفتاة مع الصبيان في ساحة الحارة، عدم أكل الفتاة خارج البيت فهذا عيب في العرف الاجتماعي، والفتاة يجب أن تزوج في سن صغيرة فقد حدد المجتمع سن الزواج وإذا تخطته الفتاة تصبح عانس، والطلاق عار يلاحق سمعة المرأة، وعلى المرأة أن تقبل بنصيبها ولا تتمرد على زوجها. وكذلك التعليمات التي بثتها لابنتها قبل أن تجلس مع عريسها “لا ترفعي صوتك، كلما كان صوتك رقيقاً هادئاً كنت أقرب وأجمل، ابتسمي لأية طرفة تسردها أم العريس مهما كانت سخيفة، اجلسي باعتدال وارفعي رأسك، انظري إلى الأرض باستحياء، وإن سئلت عن أي شيء فيجب أن تكون إجابتك مختصرة ومثالية، عامة لا خاصة”.
كما كانت ترفض أمثالها الشعبية التي ترددها باستمرار والمعبرة عن سلوك الفتاة في المجتمع، فكلام الناس وسمعة العائلة أهم لديها من سعادة ابنتها، فعندما عبرت لها “حنان” عن عدم رغبتها في الزواج من عمر، رفضت موقفها واعتبرتها متمردة، وأن فسخ الخطوبة يعد فضيحة أمام الناس، “ألا ترين في ذلك تقليلاً لقدرنا وقيمتنا، آه يا ويلنا، سيلوكون سيرتك وسيرتنا بالحق والباطل”. وبعد الزواج والمعاناة التي عاشتها في بيت الزوجية من زوجها وأمه، لم تجد “حنان” من أمها دفاعاً عنها أو سنداً لها، إنما تدعوها إلى الاستسلام والصبر على ما هي عليه، وأن لا تفكر بالطلاق فهو عار يلاحق سمعة المرأة، بل عليها اصلاح الأمر مع زوجها، فهذا قدرك ونصيبك، وعليها أن تعيش في ظل الحيطة وانجاب الطفل لزوجها.
وكانت الأم في كل الوقائع التي تأتي فيها “حنان” باكية وشاكية من حياتها ومعاناتها، كانت توصيها بأن لا تقول لوالدها، حتى لا تشغل ذهنه بأمور ليست ذات أهمية كبيرة.
إن ما تطرحه الأم هو جزء من الواقع الاجتماعي في البيئات المحافظة التي تعلي من قيمة الذكورية وترسيخ سيطرة الرجل، كأنها تعيد سيرة ذاتها التي ورثتها من أمها، وتحاول أن تزرعها في بناتها دون أن تدرك متغيرات العصر، بل تبقى أداتها الأمثال الشعبية التي تعلمتها من أمها سلاحاً تقاوم به حالات تمرد ابنتها على الواقع وعاداته وتقاليده. كما تزرع فيها الخوف من الناس، فالسمعة وكلام الناس هي ثيمة العلاقات الاجتماعية والمكانة الاجتماعية، والكل مرهون بهذه الثيمة، التي ترسخت كعرف اجتماعي دون سند مكتوب بينهم. وتجد الكل متساوق مع هذه الأفكار، فهذه (رحاب) زوجة أخيها رغم تفهمها لموقفها إلا أنها ملتزمة بالقواعد الاجتماعية.
ورغم شعورها بالانسجام داخل الأسرة، إلا أن ثمة من كان ينغص عليها هذا الانسجام وهي أختها (غادة) التي تصغرها بعام، وتصفها بأنها تعاني من عقدة عدم الجمال، فهي بدينة وملامح وجهها صارمة غير متناسقة، إلا أنها ذكية ومتفوقة في دراستها، ولكنها فاشلة في علاقاتها الاجتماعية لعدوانيتها وغرورها وحبها للسيطرة، وعنيفة في حديثها وتصرفاتها، وهذا السلوك انعكس على علاقتها مع أختها “حنان”، فأصبحت العلاقة بينهما قائمة على الحسد والغيرة فخلقت أزمة حب بينهما، وترسم صورة سلبية للعلاقة بين أختين في بيت واحد. في المقابل نجد علاقتها مع صديقتها (ماري) أقوى من علاقتها مع أختها، وماري فتاة مسيحية تقيم بجوارهم ومنذ طفولتهن يلعبن مع بعضهن، وتصف من خلالها العلاقات الحميمية بين المسلمين والمسيحيين في الحي الواحد. وماري فتاة “تحمل فكراً واعياً، وعقلاً مستنيراً وقلباً من الحرير الأبيض”، كانت حنان تستشيرها في كل تفاصيل حياتها، فهي كانت لها بمثابة الحديث بصوت عالي لكي تخرج كل مكبوتاتها. تتزوج ماري من شاب تعرفت عليه، وتنتقل معه للعيش في فرنسا. وعندما تقرر حنان الانتقال للعيش في فرنسا تساندها ماري وزوجها في تسهيل كل الاجراءات، واستقبالها في بيتهم حتى تمكنت من ايجاد بيت مستقل.
كان حلم “حنان” أن تتزوج الشخص الذي يختاره قلبها، ولكنها لم تحقق حلمها، وكان (عمر) هو العريس الذي تقدم إليها، وتزوجته وفق الطريقة التقليدية في المجتمع العربي، وتشكلت مشاعرها السلبية تجاه “عمر” منذ فترة الخطوبة، إلا أنها لم تملك الشجاعة الكافية لمواجهة الأهل بما تحمله نفسها من مشاعر وأحاسيس تجاه “عمر”، فاستسلمت للواقع على مضض. وبعد انتقالها إلى بيت الزوجية تكتشف شخصية “عمر” الحقيقية، فهي شخصية ذكورية جاهلة بكل المشاعر الإنسانية والعاطفية، يستلذ بالحديث عن الناس، ولا يفهم من العلاقة الزوجية إلا الحق الشرعي “فجأة، تحول ذلك الرجل الجامد إلى بربري همجي عنيف، لا يتفهم ولا يراعي حياتي، يتقرب مني بخشونة وأنفاس لهاثه تلفحني، راح يمزق قميص النوم ويتصرف بوحشية بالغة”.
تحملت كل تصرفاته السيئة على مدار سنوات من أجل ابنتها (شروق) التي لم تنجب غيرها، وهذا كان سبباً في حدة العلاقة السلبية مع زوجها بتحريض أمه أنها لا تنجب الصبيان. وبعد أن ترك عمر عمله وساءت أحوالهم المعيشية، وطلبت منه أن تكمل تعليمها كي تعمل وتساعده، إلا أنه رفض طلبها، لأن تعليم المرأة خروج عن سيطرة الرجل، ولكن حين عرضت عليه العمل مدرسة في روضة أطفال وافق، لأنها سوف تتحمل مسؤولية مصروف البيت. ورغم كل ما حاولت أن تفعله لإبقاء العلاقة حسنة بينهم، إلا أن عقدة النقص لديه كانت تدفعه إلى فرض سيطرته وتدمير كل محاولاتها.
تقبلت حنان الزواج كمصيبة واقعة، وقررت العيش لابنتها (شروق) التي أعادت لها نبض الحياة، ولكنها أصبحت تخاف عليها من مستقبل الأيام أن يصبح مصيرها كوالدتها، لهذا حاولت أن ترسخ فيها القوة لمواجهة الحياة والأزمات. وكبرت “شروق” وسافرت للدراسة في ولاية ميتشغان الامريكية، ثم تزوجت دون أدنى رعاية أو مسؤولية من والدها الذي تخلى عنها منذ طلاق أمها.
وتصف ملامح عمر حين رأته أول مرة بأنه “شاب أسمر اللون طويل القامة، بجبهة عريضة وعيون واسعة مستديرة، ملامح صارمة، شعره أجعد يتخلله بعض الشعيرات البيضاء في وسط الرأس، أنفه عريض، شفتاه رقيقتان، أذناه صغيرتان تلتصقان برأسه بشكل ملحوظ، وفي صوته خشونة واضحة”. فلم يكن هذا فارس أحلامها، ولكنها أجبرت عليه برضاها. وبعد أن تزوجته تجد فيه شخصية غريبة الأطوار، حاد المزاج، يدخن بشراهة، سريع الاستفزاز والغضب، متناقض مع ذاته إذ يظهر أمام الناس بصورة الملاك، تلك الصورة التي تختلف اختلافاً جوهرياً عن حقيقته، ومستسلم وضعيف أمام شخصية أمه المتسلطة التي جعلت منه شخصية مهزوزة ومسلوبة الإرادة بما تمليه عليه من أفكار وتصرفات، وتصف هذه الحماة (أم عمر) بأنها “امرأة مخادعة، متسلطة خبيثة، قاسية القلب متحجرة المشاعر، لا تحفظ وعداً ولا عهداً، ولا تذكر صنيعاً طيباً لأحد”. في هذه الأجواء تربى “عمر” ونشأ على الاصغاء لصوت أمه، فتملكت منه قسوة القلب وانعدام العاطفة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
قدمت الساردة صورة في غاية القتامة والسوداوية والسلبية لشخصية “عمر”، جعلت القارئ ينفر منها، ويتضامن مع حنان في كل مواقفها تجاه تسلط الرجل والمجتمع الذكوري. وهنا قمة الابداع أنها استطاعت التأثير على وعي القارئ واصطفافه إلى جانبها. فالمرأة/ حنان مثل كل امرأة تسعى للبحث عمن ترتبط به إلى التوافق الروحي والنفسي، وليس الاهتمام بالمكانة الاجتماعية بقدر اهتمامها بالقواسم المشتركة التي يمكن أن تجمعها مع زوجها المستقبلي.
ليس ثمة صراع بين الرجل والمرأة، بل ثمة تجسيد لعلاقة الملكية، من صاحب القرار، الرجل أم المرأة؟، في المجتمعات المتطورة القرار يكون مشتركاً وقائماً على التوافق وتبادل الأفكار، أما في المجتمع الشرقي الرجل هو صاحب القرار والمرأة تابعة له، وليس من حقها أن تقرر بعيداً عنه على قاعدة “المرأة ناقصة عقل ودين” لذلك عليها أن تخضع وتستسلم لمشيئة الرجل.
وحين فقدت حنان هذه القواسم المشتركة، رغم محاولاتها العديدة للتغيير من سلوكيات “عمر”، إلا أن ثمة قوة كانت تواجهها أكبر من أمنياتها وأحلامها وهي سيطرة الحماة على ابنها الذي لا يخرج عن طوعها ومستسلم لإرادتها، فلم يقبل التغيير. وهنا أصبحت الحياة بينهما مستحيلة التواصل خاصة بعد أن اعتدى عليها بالضرب الشديد، فغدت أيامها ساكنة عقيمة تكسوها الوحشة والخواء، وشعور بأثر القيم الراسخة على نفسيتها وحياتها، تقول: “فقد دمرتني مفاهيم والدتي المترسخة عن الزواج في مجتمعنا، وهذه هي النتيجة الحتمية لمفاهيم الرجولة الخاطئة المجحفة بحق الأنثى والأنوثة”.
قررت حنان الانفصال والطلاق من “”عمر” ومواجهة الأسرة والمجتمع. وعاشت في بيت مستقل، وأنهت تعليمها الجامعي وعملت في مؤسسة اجتماعية كمرشدة نفسية. ولكنها لم تسلم من زوجها “عمر” الذي شوه سمعتها ونغص حياتها، وأثر على عملها، واصطفاف أختها “غادة” إلى جانب “عمر” وعائلته، فما كان منها إلا أن قررت الابتعاد بالسفر إلى فرنسا، وتساعدها ماري في اجراءات السفر.
وبعد وصولها باريس واستقرارها في شقة مستقلة، تبحث عن عمل حتى تجده في إحدى المؤسسات الصحفية، والتي من خلالها تتعرف على (نادر شعبان) رجل الأعمال الذي التقته أثناء تغطيتها لمؤتمر رجال الأعمال العرب بفرنسا، وتنشأ بينهما علاقة تنتهي بالزواج، بعد أن وجدت فيه “إنسان ذكي مجتهد في عمله، رجل مثقف مؤدب حلو القول واللسان، يملك ناصية الحديث ويأسر أذن المستمع”. وعاشت أياماً سعيدة، لم تدم طويلاً. لقد خدعها بالكلام المعسول، وهي المحرومة نفسياً، فالحرمان العاطفي يدفع الإنسان إلى الانجرار وراء عواطفه أكثر من التفكير بعقله. فقد رسم نادر لها حياة مبنية على الكذب والخداع، بعد أن أوهمها أنه رجل أعمال ناجح ويمتلك عدة شركات ومؤسسات، وقد عملت صحفية مسؤولة في موقع صحيفته الالكتروني، لتكتشف أنه مقامر وكسب أمواله من القمار، ثم خسرها في القمار، ومطارد لرجال عصابة تقتله في النهاية ويسدل الستار على حياة عاشتها بالكذب والخداع، ولكنها جميلة فما زال حب نادر في قلبها، وتصاب بصدمة شديدة، تدخل على أثرها إلى المستشفى بمساعدة ماري، وقد انتابها شعور بالموت والوحدة والغربة، وتحاول أن تراجع نفسها لما أصابها للوصول إلى قرار، وكان القرار العودة إلى الوطن حصن الأمان بالنسبة لها.
الأنا الساردة ورؤية العالم:
إن العمل الأدبي، هو رؤيا فردية للعالم، وقد تختلف هذه الرؤيا الفردية، مع رؤيا المجموعة الاجتماعية أو تتفق معها، وتبقى والرواية بهذا المعنى هي رؤيا كاتبها للعالم، والمبدع عادة ما يصدر عن رؤيا متماسكة للعالم تنعكس بصورة مباشرة في نتاجه الأدبي.
في هذه الرواية منذ صورة الغلاف نلاحظ ما تنشده الكاتبة من روايتها، فالقفص يعبر عن السجن/ القيد، والباب المفتوح يعبر عن الحرية، والمرأة بالملابس المتحررة دلالة على الانطلاق نحو الفضاء الواسع أمامها. فنحن أمام الذات المقموعة والمسكونة بالبحث عن هويتها وسط عالم يحاول أن يلغي تلك الهوية لصالح رؤى تتناقض مع تطورات المجتمع، وعلى اعتبار أن الذات كينونة حوارية في النص الروائي فهي تستدعي الآخر القائم معها في نفس المكان لكي تثبت ذاتها في مقابله من خلال التمايز والخروج عن السائد بأفكار ورؤى مبتكرة.
أن الرؤية التي انطلقت منها الساردة الكاتبة هي انتقاد القيم والأعراف السائدة في المجتمع التي تضطهد المرأة وتحد من قيمتها الاجتماعية، ولا تنتقد المجتمع لمجرد الانتقاد، وإنما لإصلاح الخلل القائم على القيم الاجتماعية البالية لكي تتوازن مع تطورات العصر، فكانت تقدم أفكارها ورؤاها في العديد من المواقف لصالح المرأة. لهذا تلبست الساردة حنان شخصية الكاتبة التي اعتنت بها دون الشخصيات الأخرى لأنها تمثل وجهة نظرها في الحياة، ومعبرة عن أفكارها ورؤاها التي تسعى إلى بثها في المجتمع.
ورغم التجربة الأولية للكاتبة في مجال الرواية، إلا أن هذه التجربة تكشف عن امتلاك الكاتبة الموهبة السردية والثقافة المجتمعية التي صاغت من خلالها رواية واقعية رصدت الأفكار والرؤى الراسخة في المجتمع، وتمكنت من توصيل رؤيتها للقارئ بكل يسر وسهولة بجاذبيتها اللغوية وعنصري التشويق وحب الاستطلاع، وجعلته على اطلاع كامل بكل عادات وتقاليد المجتمع تجاه المرأة في محاولة لكسب صوته من أجل التغيير، كما تمتلك القدرة اللغوية في تشكيل جماليات السرد، وفي صياغة الحبكات والرؤى المتعددة والمتباينة في المواقف والشخصيات، مثل كل عمل أدبي إبداعي، يحتضن التناقضات في ذات كل امرأة. يقول جان بول سارتر في سيرته الذاتية (الكلمات): “لقد حان الوقت لكي أقول الحقيقة، أخيراً، لكن لا يمكن أن أقولها إلا في عمل تخييلي”.