إشكالية الإعلام الثقافي: وَذَا صِرَاعُ البَلِيَّةِ بَيْنَ المَادِّيَّةِ وَالمِثَالِيَّةِ!

د. آصال أبسال |أكاديمية وإعلامية تونسية –  كوبنهاغن (الدنمارك)

مرة أخرى، ودونما الاحتياج إلى استخدام أي من الراسخ من عبارات الاستهلال أو التمهيد في العالم الصحافي و/أو الإعلامي، يستهلُّ الكاتب الصحافي (الثقافي) سهيل كيوان مقاله الحديث العهد الذي صدر قبل ما يناهز حول من الزمان تحت عين العنوان التهكُّمي اللافت «بين السخرية من العلم والحقن بالمعقمات» /من إصدار «القدس العربي» في يوم 29 نيسان (أبريل) 2020/.. يستهلُّه بعبارة تقابلية ليس لها إلا أن تثير للوهلة الأولى انتباهَ القارئ المهتمِّ بقضايا الفلسفة وعلم النفس قبل أي قارئ آخر، هذه العبارةِ التقابلية التي تسير بالتعبير الحرفي هكذا: «الصراع الفكري بين الثنائيتين المثالية والمادية موجود منذ القِدَم، كان وما زال مستمرًّا، يَرجح تارةً لصالح هذه وتارةً لتلك، ونادرًا ما يتصالحان».. ففي حين أن الاتجاه «المادِّي» (أو اللاروحاني) يطغى في أزمنة الازدهار الاقتصادي والتقدُّم العسكري وما يترتّب عليهما من انتصارات وهمية أو خيالية، كما يرى الكاتب الصحافي (الثقافي)، فإن الاتجاه «المثالي» (أو الروحاني، أو حتى الغيبي) يهيمن في أزمنة الذبول الاقتصادي والتقهقر العسكري وما يسفر عنهما من هزائم حقيقية أو واقعية، على اختلافها وتنوُّعها في الكمِّ والكيف – خاصة وأن هذا الاتجاه الفكري الأخير يقترن بطابعه «النَّفُوذ»، اقترانا مباشرا أو غير مباشر، بشتى أشكال الخوف والتوجُّس النفسيَّيْن من سواد الحاضر واسوداد المستقبل على كل من الصعيد الفردي (كدنوِّ حياة الفرد، أو الإنسان، من نهايتها) والصعيد الجَمْعي (كأزوف حياة المجتمع، أو الدولة، من انهيارها).

وفي هذا الزمان الوبائي «الكوروني» المرعب، على وجه التحديد، لم يجد الناس جلُّهم مناصًا من إعادة النظر في الجانب « المثالي» (أي «الروحاني» و«الغيبي»، بحسب فهم الكاتب الصحافي (الثقافي) المعني) من حيواتهم، وفيما ينطوي هذا الجانب «المثالي» عليه من تسآلٍ ومساءلةٍ وجوديَّيْن في الغامض والمُبْهَم من أيِّ شيءٍ في المتناوَل في هذا الوجود، ممَّا يقتضي العودة إلى التفكير الفلسفي المهجور وسط ذلك التقدُّم العلمي الهائل في تقنياتٍ جدِّ دقيقيةٍ تخصُّ حتى تعديل التركيب الوراثي لمَنْظِم الخلية الحيوانية بالذات، وتخصُّ بالتالي نوعَ الاستبشار المستقبلي بإمكان الخلود البيولوجي للإنسان خاصَّةً، وباحتمال التغلُّب على «معضلة» الموت حتى.. كلُّ هذا ممكنٌ ومحتمَلٌ في مقابل طغيان الجانب «المادِّي» (أي «المالي» و«الاقتصادي»، بحسب فهم الكاتب الصحافي (الثقافي) المعني أيضا)، وما يقترن بهذا الجانب «المادِّي» من تكبُّر واستعلاء شعبويَّيْن مقيتَيْن ليس لهما إلا أن ينفضحا كلَّ الانفضاحِ على الملأ الأعلى والأدنى: وعلى الأخصِّ أمام صفعةٍ مُهْلِكةٍ مميتةٍ من طرف مخلوق «كوروني» لامرئي جعلت حتى رئيس دولة ديمقراطية «عظمى»، أو تكاد أن تكونَ «الأعظمَ» في العالم، كمثل دونالد ترامب (قبل «خسارته» بولاية أخرى في الانتخابات الرئاسية الأخيرة)، جعلته يكشف كلَّ أوراق جهله المطبق في مسائل الداء والدواء المعنيَّين وما إليهما – وإلى حدِّ المهزلة المذهلة أيَّما إذهالٍ حين بات هذا الرئيس المفتون حتى بظلِّه («وَقُرَ وَقَارُهُ العلمي») يُفتي للعلماء والأطباء أنفسهم بفتاوي تناول السائل المعقِّم والمطهِّر عن طريق الفم أو حتى حقنه في الوريد!!..

ومن خلال هذا الانفضاح الصارخ  أشدَّ الصريخ للجهل المطبق من لدن ساسةٍ «كبار» على هذا المستوى «المادِّي» تحديدا، ثمة دعوة ملحاحٌ، إذن، إلى التعامل الضميري مع المسنَّات والمسنِّين المحشورين في «دُور» يرثى لها مخصَّصةٍ لهم ولعجزهم في سنٍّ كهذه، «دُورٍ» لا يتلقَّون فيها أيَّ شيءٍ من العناية والرعاية الإنسانيَّتَيْن والأخلاقيَّتَيْن اللازمتَيْن حتى بحدودهما الدنيا، في أماكن متفرقةٍ من الغرب في كل من أوروبا عموما وأمريكا خصوصا.. إذ كشف الإعلام الغربي بوجهه المكتوب، على الأقلِّ، مرارا كيف أن هؤلاء المسنَّات والمسنِّين المحشورين في «دُورهم» تلك يتعرَّضون لكل أشكال الإهانة والسباب والضرب وحتى التهديد بالقتل، على الرغم من أن إدارات تلك «الدُور» تتلقَّى المالَ المترتِّبَ من خزائن شركات التأمين المعنية (فضلا عن تلقيها المالَ «الإكراميَّ» كذلك من ذوي أولئك المسنَّات والمسنِّين أنفسهم، لعلَّهم يحظَوْن بذلك التعامل الضميري المنشود).. من هنا، تتجلى أهمية الجانب «المثالي» في هكذا تعامل ضميري منشود، فيتجلى من ثمَّ الفارق الكبير بين «روحانية» أو «غيبية» هذا الجانب، من جهةٍ أولى، وبين «اقتصادية» أو «مالية» الجانب «المادِّي» المحض، من جهةٍ أخرى، دونما الإجحافِ، بالطبع، بحقِّ إيجابيةِ بعضٍ من معنيِّ الإدارات والمؤسسات في حالات استثنائيةٍ هنا وهناك.. ومن هذا الفارق الكبير بين الجانب «المثالي» الصرف والجانب «المادِّي» المحض، ينتج إنتاجا لا شكَّ فيه فارقٌ كبيرٌ موازٍ بين «الاكتساب» الفردي المجرَّد على صعيد الإبداع في الأدب والفن وحتى التأمُّل الديني، من ناحيةٍ أولى، وبين «الكَسْبِ» الجَمْعي المجسَّد على صعيد الاحتكار في الطلب والتسليع وحتى التصافق التجاري، من ناحية أخرى.. هذا إن لم يُقَلْ أيُّ شيءٍ عن «التسييس» المجرَّد والمجسَّد لهذا الزمان «الكوروني» بالذات، واستغلاله أيَّما استغلال على كلٍّ من المستوى الفردي والمستوى الجَمْعي بإزاء البشر أينما تواجدوا، بحيث أن الأنظمة الغربية التي تتباهى بـ«ديمقراطيَّتِها» تصبح تباعا أقلَّ «ديمقراطيةً» بكثير (كما يحدث الآن للمهجَّرين واللاجئين، وباعتراف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش نفسه)، وأن الأنظمة الشرقية التي تتمادى بـ«ديكتاتوريَّتِها» و«أوتوقراطيَّتِها» تغدو إتباعا أكثرَ «ديكتاتوريةً» وأكثرَ «أوتوقراطيةً» بكثير، في المقابل (كما يحدث الآن أيضا للفقراء والمعدمين، ولا حاجةَ لاعتراف أيِّ أمينٍ عامٍّ أو خاصٍّ، في هذا الصدد)!!..

كلُّ شيءٍ ممَّا قيل في المقال المذكور أعلاه، في هكذا سياقٍ «تثقيفيٍّ» معتمَدٍ (وحتى قبل أن يضافَ إليه أيُّ شيءٍ، ها هنا، إيضاحا تارةً وتوسُّعا طورا)، كان عليه أن يكون على ما يرام، بالفعل أو بالكاد، لو أن الكاتب الصحافي (الثقافي) المعني لم يستهلَّ مقاله «التثقيفيَّ» هذا بالتوصيف «الفكري» لأي من الاتجاهين المعنيَّيْن بالاسم والمسمَّى، «الاتجاه المادِّي» و«الاتجاه المثالي»، خصوصا وأنهما اتجاهان فلسفيَّان معروفان في تاريخ التفكير الفلسفي على مدى زمان ليس بالقصير، ولا ريب.. قبل كل شيء، الحديث في هذا السياق «التثقيفي» المعتمَد منذ مستهلِّه، إنما يدور حول «ثنائية» وحيدة، ووحيدة فقط (إذا كان الأمر كذلك، في واقع الأمر)، وليس حول «ثنائيَّتَيْن» اثنتَيْن منفصلتَيْن عن بعضهما بعضا: الحديث يدور حول «ثنائية» وحيدة، ووحيدة فقط، ألا وهي: «ثنائية» المادية والمثالية، بوصفِ شَقَّي هذه «الثنائية» اتجاهَيْن يقفان على طرفَي نقيض.. أي مهتمٍّ حقيقي، أو أية مهتمَّةٍ حقيقية، بقضايا الفلسفة وعلم النفس (حتى وإن كانا طالبَي علمٍ في بدايات السنة الدراسية الأولى من المرحلة الجامعية) يعرفان جيدا، بنحو أو بآخرَ، أن المذهب الفلسفي المسمَّى بـ«المذهب المادِّي»، أو بـ«المادِّية» Materialism (بالحاف)، إنما هو مذهبٌ يؤكِّد على أن «المادَّة» (أي الوجود «المادِّي» الفيزيائي المحسوس الذي لا مساسَ له بالمال ولا بالاقتصاد، بالضرورة) لَهِيَ الحقيقة الفعلية في هذا العالم أو هذا الكون: حتى تلك الماهية اللامادِّية اللافيزيائية اللامحسوسة التي تُسمَّى بـ«العقل (البشري)» لا تعدو أن تكون خاصِّيةً مادِّية فيزيائية محسوسة من خصائص تلك الماهية المادِّية الفيزيائية المحسوسة التي تُدعى بـ«الدماغ (البشري)».. على الطرف النقيض الكامل (أو شبه الكامل) من كلِّ هذا، يقف المذهب الفلسفي الآخر المدعو بـ«المذهب المثالي»، أو بـ«المثالية» Idealism (بالحاف)، بمعنى أن «المثال» (أي الوجود «اللامادِّي» اللافيزيائي اللامحسوس الذي لا مساسَ له بالروح ولا بالغيب، بالضرورة) لَهُوَ الحقيقة الفعلية في هذا العالم أو هذا الكون (أو حتى ما وراءهما)، وما إلى هنالك – والفلاسفة الحقيقيون الذين ينتهجون كلا من هذين المذهبَيْن الفلسفيَّيْن، منذ أزمنة السقراطيين (نسبةً إلى سقراط) وما قبلهم حتى، لا يُعَدُّون ولا يُحْصَوْن..

لا بُدَّ، إذن، بادئ ذي بدء، من أن أقدِّر الكاتبَ الصحافيَّ (الثقافي) المعنيَّ كلَّ التقدير على احترامه اللافت للانتباه هنا للمسنَّات وللمسنِّين على وجه التحديد، وعلى دعوته الإنسانيةِ الصَّدُوقِ إلى التعامل الضميري المنشود مع حالهن وحالهم البائسين في هذا الزمان المرعب (وأنا، بدوري، أشدِّد كلَّ التشديد على هكذا دعوة إنسانيةٍ صَدُوقٍ إلى التعامل الضميري المنشود كذلك مع الفقراء والمعدمين بأحوالهم البئيسة، في الداخل، ومع المهجَّرين واللاجئين بأحوالهم الأشد بأساءَ، في الخارج).. ولكن، لا بُدَّ، في المقابل، من أن أنوِّه إلى مسؤولية الكاتب، وإلى مسؤولية الناشر كذلك (أي جريدة «القدس العربي»، في هذه الحال) في نقل الخبر الصحيح والدقيق، سواء كان خبرا ثقافيا أم سياسيا أم غير ذلك، خاصةً وأن هذا المنبر مفتوحٌ على مصراعَيْه لكلِّ مَنْ ينطق أو تنطق الضَّاد، متواجدٍ أو متواجدةٍ، في أيِّ جزءٍ من أجزاءِ هذا العالم: مسؤولية الكاتب ومسؤولية الناشر، إذن، ليس لهما إلا أن تُؤخذا بعين الاعتبار، وإلا فإن كلَّ أشكال المديح والتقريظ الذاتيَّيْن من لدن هذا المنبر بالذات لا تعدو أن تكون نُسَخًا وضيعةً من أشكال التطبيل والتزمير الإعلاميين اللذين يطفحان بالكذب والنفاق من كل الجهات!!..

هناك، من طرفٍ أولَ، عَالِمٌ بحقٍّ يدعو الناسَ إلى التأمل الفلسفي والنفسي في زمن رأسمالي متوحِّشٍ يعلم كيف أنه قد أزاح الإنسانيَّةَ عن موضعها الجميل: هذا العَالِمُ بحقٍّ يستحقُّ الاحترامَ كلّه لأنه عَالِمٌ بالفرق الحاسم بين السياسة علما والسياسة عملا (وليس ثمة فيلسوفٌ حقيقٌ، في التاريخ، لم ينظرْ إلى الأولى نظرةً صبحاءَ حسناءَ، فهو عَالِمٌ حقيقٌ، والحقُّ يُقال).. وهناك، من طرفٍ آخرَ، جاهلٌ بحقٍّ يدعو، أو يظنُّ أنه يدعو، الناسَ إلى التأمل الفلسفي والنفسي (وحتى الديني) كذلك في زمن رأسمالي متوحِّشٍ لا يعلم كيف أنه قد أزاح الإنسانيَّةَ عن موضعها الجميل: هذا الجاهلُ الدعيُّ بحقٍّ لا يستحقُّ الاحترامَ بأيِّ مثقالِ ذرَّةٍ منه لأنه جاهلٌ بالفرق الحاسم بين السياسة علما والسياسة عملا (وليس ثمة جاهلٌ دعيٌّ، في التاريخ، لم ينظرْ إلى الأولى نظرةً ظلماءَ شنعاءَ، فهو جاهلٌ دعيٌّ، بطبيعة الحال)!!.

———–

تعريف بالكاتبة

ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتُها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى