أم النبي «زهرة قريش»
بقلم: د. محمود رمضان
السلام عليك سيدتي، يا من أنجبت خير خلق الله كلهم، سلام عليك في الأولين والآخرين، سلام عليك إلى يوم الدين.
اختارك الله من فوق سبع سماوات لتكوني زوج عبد الله، جميلة بني زهرة، زهرة قريش وريحانتها، لتتزوجي خير شباب قريش وزينتها، يلتقي الشرفان العظيمان حسبا ونسبا وعزة ومنعة، ويؤكد هذه العراقة والأصالة بالنسب اعتزاز الرسول صلى الله عليه وسلم بنسبه، فقال: «لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما»، ويقول أيضا: «أنا أنفسكم نسباً وصهراً وحسباً»، ويقول الحق تبارك وتعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ»، وفي قراءة من قراءات المصحف الشريف «من أنفٓسكم»، بفتح الفاء، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم خيار من خيار من خيار، صلوات ربي وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله، يا من أجبت الصحابي وهو يسألك: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ بقولك: أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك، يا رحمة الله المهداة إلى العالمين، يا حامل لواء الشفاعة، ساجدا تحت العرش مناجيا ربك: يا رب أمتي.
سيدتنا الطاهرة المطهرة آمنة بنت وهب، أم النبي صلى الله عليه وسلم، هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهيرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، فهي من خيار القوم في الجزيرة العربية، ومن نسل سادتهم، فقد كان أبوها وهب بن عبد مناف سيد بني زهرة شرفا وحسبا، وفيه يقول الشاعر:
يا وهب يا بن الماجد بن زهرة
سُدت كـلابـا كلهـا ابن مـرة
بـحــســبٍ زاكٍ وأمٍّ بـرّة.
وأمها برة بنت عبد العزى من بني عبد الدار بن قصي بن كلاب أحد بطون قريش، التي لها مكانة عظيمة وشامخة بين قبائل العرب.
نشأت سيدتنا آمنة بنت وهب في أسرة عريقة النسب، وكانوا يلقبونها بـ«زهرة قريش»، لجمالها وحسنها ورفعة وسمو أخلاقها، أما زوجها عبد الله بن عبد المطلب، فله قصة لابد أن تروى، فقد نذر أباه نحر أحد بنيه لله عند الكعبة، فلم يكن لديه سوى ابنه الحارث، ودعا الله أن يرزقه بعشرة أبناء، فاستجاب له الله، وجاء عبد الله العاشر بين أبنائه، ويجمع عبد المطلب قومه، ليفي بنذره، بنحر أحد أبنائه عند الكعبة، فضربت القداح بأسماء الأولاد فكان اسم عبد الله هو المطلوب ذبحه، وكان أحب أولاده إليه، ثم أعيد ضرب القداح فظهر اسم عبد الله مرة ثانية، واستمر ضرب القداح إلى أن أعلمهم شخص من خيبر بتقريب عشرة من الإبل قربانا لفداء عبد الله، ثم يضربوا القداح، إلى أن خرجت القداح بنحر الإبل، فنحر عبد المطلب مائة من الإبل ابتهاجا بنجاة ولده عبد الله من الذبح.
كان عبد الله أجمل شباب قريش، وأعظمهم خلقا، أمينا في تجارته كما ينبغي أن تكون الأمانة، سيدا في قومه حسبا ونسبا ورفعة وشرفا، وتسابقت بنات قريش لكي يتزوجنه، لكن عبد المطلب ذهب بابنه عبد الله حتى أتى وهب بن عبد مناف، وهو يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة نساء قومها، ولما تزوجها عبد الله أقام عندها ثلاثة أيام، وكانت تلك العادة عندهم، وحملت آمنة بالنبي محمد، صلى الله عليه وسلم.
بعد زواج عبد الله وآمنة بنت وهب بأيام كانت قافلة التجارة إلى الشام قد انطلقت من مكة إلى الشام، ولحق بها عبد الله تاركاً عروسه، وتمر الأيام وتشعر آمنة ببوادر حملها، وعندما أتمت شهرين من الحمل، جاءها النبأ الصاعق الذي زلزلها، مات عبد الله، بكت بدموع عينيها وروحها وقلبها، انفطر قلبها حزناً على زوجها الذي أحبته بكل كيانها ولم يكمل معها إلا أياماً معدودات، حبيبها مات، وبكى عليه كل من عرفه، وكل آل عبد المطلب وبنو زهرة.
عروس أرملة، تحمل في أحشائها جنينا سيولد يتيماً، وما كان نجاة عبد الله من الذبح يوم ضرب القداح إلا لحكمة يعلمها الله، وهو زواج عبد الله من آمنة لأيام وتحمل منه ثم يغادرها إلى دار البقاء، أن المولود سيكون ذا شأن عظيم.
وتمر أيام الحمل خفيفة، لا تعاني كغيرها من النساء، وترى في منامها رؤية تتكرر، وسمعت كأن أحد يقول لها: «أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم تسميه محمدا».
وجاءها المخاض، وتشعر بالنور ينبثق منها، من دون آلام وضعته، وتصل البشرى لجده عبد المطلب، وتفرح قريش فرحاً عظيماً، ويحمله جده إلى الكعبة فرحا متهللا، وسماه محمدا، وتضم آمنة محمدا إلى قلبها، بحنان دافق، فهو اليتيم، وهو ثمرة زواجها من حبيبها عبد الله، وترضعه سيدتنا حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، فترى الخير والبركة في دارها بطريقة غير مسبوقة ولا معهودة، وبعد أن أتم سن الرضاع، تولته آمنة بالحب والحنان والعناية والرعاية ونهل منها جميع صفات الخير والمحبة والعطف والرحمة.
ولما بلغ الطفل السادسة من عمره، صحبته آمنة إلى أخوال أبيه المقيمين بيثرب، لترى قبر زوجها، وليرى قبر أبيه، وأقامت لدى أخوال أبيه نحو الشهر، وفي طريق عودتها إلى مكة مع رفيقتها «أم أيمن»، يحلق الموت حول آمنة، ويختطفها من بين أحضان طفلها الذي كان في السادسة من عمره، فيغمره الحزن لفقد حبيبته التي كانت أما وأبا في ذات الوقت، وكفله عمه أبو طالب، الذي كان يحبه حبا جما ويؤثره على أبنائه.
رحم الله سيدتنا آمنة بنت وهب، أم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يزور قبرها ويبكي بكاء حارا على فراقها إلى أن غادر الفانية إلى الجنة ونعيمها ورضوان الله تبارك وتعالى