غياب شمس.. مقطوعة سردية للأديب عبد الرزاق عوده الغالبي
تحليل نقدي ذرائعي باستراتيجية الصقل وإعادة البناء
بقلم: الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي
أولا – نص المقطوعة: غياب شمس
– “صباح الخير!
هدوء يغلف الأشياء صابونًا برائحة الورد ….!” قالها بحر قزوين، وأنا أنظر من شباك الحافلة الصغير لما أبدعت أيدي الخالق بعجينة الطبيعة العذراء لتخبز منها حواء آخر رغيف خبز وتستكمل الأربعين في حزن هابيل، وحنق على أول باستيل وقارّة تهدم العالم إيمانًا بغدرقابيل، ويلتحم جزئيء مخازن ثروتي، جمال لم يمسّه بشر، وباتت الصور تتسابق من قمر مبعثر فوق ناصية عمري ….تحرث الجمال في ساحات نواظري, من خلف سجن زجاجي قلّل من جنوني كثيرًا, فتبعثر عقلي فوق فراش أيوب وأنا أفكر في موت البحر الميت وبياض وجه المتوسط وحمرة أخيه الأحمر ..بحار وجسور…هكذا هي الحياة تستعرض أمام ناظري بشكل سريع, جنان وارفة، تلال من كل شيء،مزهر أيسرها وأيمنها، وهل يُنسى القمر بين أربعين هابيل وحزن البحار…بسرعة الحافلة تتجه أفكاري من شجرة الياسمين نحو عبق التأريخ …
ذهبت بعيدًا في ساحات الجمال العذري, وباهرات سنابل الحقول وهي تتمايل لتوقظ ترانيم نسائم شمالية معطرة بأريج العنبر وآهات الحقول المبعثرة على فراش الزمن الوفيرة، هي فرصة أغنى من زمن هبوط سكين المقصلة على رقبة ماري أنطوانيت، ربما, بموتها, الخير والخبز والعشق الاسطوري العذري لخيوط الشمس الذهبية حين تطرز ساعات النهارالأولى وتغازل أوراق الأزهار والزرع وأغصان الأشجار وسعف النخيل التي تسرق الظلمة ودفء الشمس, لتتباهى بها خيوط الفضة المنبعثة من قمرٍ مشمئزٍ حين وضع غاغارين قدمه الأولى فوقه،جلدة المرتعش من أول رفسة آدمية،فصارشاهدًا على تلك اللوحة السرمدية في ساحة تضيق بخمس أصابع،قضمة شكولا في عيد ميلاد،حين يتوارى الكل تحت قوائم السنابل الخضراء المرطبة برحيق الندى الذي يلامس الوجوه ويندي أوراق الفرح في الوجوه الوردية, المغمسة صفحاتها بالنشوة والغنج والدلال في أرجاء حقلي ….
استطعت خداع الزمن وخلقت حواء بلا تفاحة، تتسابق الألوان في أطيافها المنتشرة بين خطوط الأشجار المتناحرة والأشكال والأطوال والحجوم، وقهرت أقليدس بأبعاده الثلاثية وبلغت البعد الرابع، فصارت أشجاري تتراقص على ترنيمة الخلود, وتندمج مع خيوط الشمس وحروف المعرفة وأصوات موجات النسيم العليل وزقزقة العصافير وأنين الناي الحزين وهو يرسل نغماته مستنطقًا آهات التأريخ وخداع الجغرافية المغمسة بالأشواق والحنين من بعيد, حيث المراعي الغافية تحت أثير قلبي المسحوق تحت أقدام سباق عقارب ساعات الزمن التي استفحلت فصارت قرونًا ….غنج الحب السرمدي الكامن بين جفني حبيبتي الناعسين ورأسها الجميل الذي يتوسّد ذراع الدنيا وأصابع التأريخ تخصّل شعرها …..!
-“…. وصلنا ….!” تقيّأها صوت السائق, فجرّني من نعاسي إلى حبل مشنقة الذكريات ….وعدت وأنا أتلفت حولي كأني أرى وجوه المسافرين لأول مرة, كمن استيقظ من نوم عميق فزعًا على صوت صريخ هيروشيما ….
لم تصدق…أليس كذلك…؟ هي أمك تلوح بيدها من فوق زقورة أور
ثانيا – الدراسة الذرائعية
مقدمة إغنائية
سأعرض فيها لجنس المقطوعة السردية التي ابتكرها أستاذي المنظر الذرائعي عبد الرزاق عوده الغالبي, وهو كاتب هذا النص البديع, وضمنه في المجلد الثاني من الموسوعة الذرائعية (الذرائعية وسيادة الأجناس), مصنفًا هذا الجنس السردي ضمن الأجناس السردية البينية, وهو يقع بين الخاطرة والقص القصير.
يقول المنظّر الغالبي:
1- الاسم: ارتأيت أن يكون اسم هذا الجنس المقطوعة أو المقطوعة السردية, لكونه مقطوعة متماسكة سرديًّا من حيث تعشيق المفردات بشكل جمالي يبرز صورًا متلاحقة .
2- أُخذ هذا الجنس كفرع مستقل من القص القصير, باختلاف بنائي, حيث أنّه يجمع بين الخاطرة والقص القصير المكثف .
3- يختفي في هذا الجنس البناء الفني, ويكون اختفاؤه متعمَّدًا, حيث يذوب بشكل مُعشَّق بين جمل النص.
4- يمتاز هذا النص بتوالد متتالٍ للصور الجمالية والمعاني والأفكار بمجرى منسّق مدروس.
5- يمتاز هذا الجنس بارتفاع نسبي للبناء الجمالي, حيث يصل إلى نسبة %90
وأكثر بانزياح نحو الخيال والرمز.
6- يعتمد هذا الجنس على التعبير المفرداتي (الكلامي) والمقصد التجرّد أكثر من التعبيرعن طريق (الشخصيات), بل تفهم الشخصنة من خلال صراع شفيف يظهره الجريان المنتظم الداخلي في ذهن الكاتب Stream of consciousness. أو المسلك الحواري الظاهري(Dialogue)….
7- يعتمد هذا الجنس على مطلع مقالي ينضوي تحت نظرية الفن للفن ( الأدب للأدب), أي تقوم المفردات بواجب الصراع المفترض فوق ديباجة النص بشكل مخبوء وظاهر شفيف, وتُحسب كأنها صراع درامي بين شخصيات, هذه الشخصيات غير موجودة في الحقيقة وإنما تتجلّى بتلميحات سردية ( فانتازيا) وغرائبية.
8- يميل بشكل عميق, وليس إخباري, نحو الخاطرة, وبنهاية قص, يستطيع الكاتب أن يخلق لوحة أو مقطوعة موسيقية بالكلمات, وينهيها بضربة فرشاة, أو بضربة نغم معزوف أو مرسوم بالكلمات، فهذا النوع هو خير مثال يبرز روعة الادب كأحد الفنون، يظهر تجنيسه بشكل واضح في خارطته الجنسية في الصورة المرفقة:
التحليل الذرائعي
• بصريًّا :
النص مرتب بترتيب النص النثري, عنوان, فقرات بأسطر أفقية, علامات ترقيم ( فواصل, نقطتا الاستئناف, ونقط الاستمرار, نقطة التوقف, نقطتا القول, علامة التعجب, علامة الاستفهام, الخط الصغير السابق لجملة القول, المعقوفتان المتضمنتان جملة القول, …..) الخ
قد يلتبس هذا النص النثري مع الخاطرة أو النص المفتوح بسبب النزعة الوجدانية الطاغية على النص والتي يعوّل عليها الكاتب لتحميل عنصر التشويق والجذب كما هو الحال بالنص المفتوح, إلى جانب الجماليات البلاغية التي تأخذنا باتجاه الفن وعلم الجمال الذي تتميّز به الخاطرة, ولكن التشابك السردي الطفيف يخرج النص من التوغّل في جنس الخاطرة أو النص النص المفتوح, ويحوّله باتجاه القص القصير المكثّف, فهذا الجنس الهجين هو التقاط لحظي لموقف واقعي قصير, يشعل صراعًا من المشاعر والأحاسيس في ذات وذهن الكاتب, وهو صراع أو تشابك سردي خفي, يقوم الكاتب بوصفه والتعبير عنه بأسلوب أدبي إنشائي, قوامه تدفق المفردات الإيحائية الرمزية والصور الجمالية المتلاحقة والمتداخلة كحلقات, بهذا الأسلوب, يدخل الكاتب نصّه في المدرسة الرمزية أو الرومانسية تحت نظرية الفن للفن, لذا اختار المنظر الذرائعي تجنيس هذا النوع النثري السردي تحت مسمّى ( المقطوعة السردية)
• على مستوى ديناميكية النص نجد أن:
البناء الفني:
ضحل جدًّا, مغمور ومحشور بين ازدحام الصور الجمالية والمفردات الرمزية, أفعال قليلة ومعدودة يوردها الكاتب في الفقرة الواحدة, بحيث تبدو لنا في مخطط النص ( الكروكي) بناء بأعمدة قليلة, بالكاد تقيم أود النص, وتبدو أعمدة هزيلة وباهتة وسط ألوان الأردية الجمالية البهية وقوّتها التي يكتسي بها هذا البناء الفني البسيط, أفعال متتابعة متصلة متلاحقة تشدّ القارئ وتشركه في عملية الإنتاج الأدبي, ليس الإنتاج السردي الحدثي, وإنما الإنتاج الجمالي عن طريق الصور الجمالية التي يرسمها الكاتب بالكلمات, والإنتاج التنبؤي الذي تشير إليه الإيحائية المفرداتية, ولنا أن نتتبع بعض هذه الأفعال ولواحقها لنؤكّد ما ذهبنا إليه:
( هدوء يغلف الأشياء صابونًا برائحة الورد): فعل مضارع بسيط واحد فقط (يغلّف), والباقي صورة بصرية قابلة للرؤية والسمع والشم, والتأويل ( هدوء – صابونًا – برائحة الورد) …
(…. لتخبز منها حواء آخر رغيف خبز وتستكمل الأربعين في حزن هابيل…)
( باتت الصور تتسابق من قمر مبعثر فوق ناصية عمري…. تحرث الجمال في ساحات نواظري من خلف سجن زجاجي….)
(استطعت خداع الزمن وخلقتُ حواء بلا تفاحة …. تتسابق الألوان … قهرت إقليدس … بلغت البعد الرابع… أشجاري تتراقص على ترنيمة الخلود…….) وهكذا إلى نهاية النص.
1- العنوان:
غياب شمس…!
عنوان زمكاني, فالغياب على معنيين :
– بعد مؤقت عن مكان أو عدم الوجود حيث يكون الحضور ممكنًا أو واجبًا.
مثال :” لُوحظ غيابُك في الاجتماع”
– استتار عن العين.
مثال: ” غياب الشمس وراء الأفق”
وعلى كلا المعنيين, هناك ظرف زماني ينتفي فيه الحضور المادي في مكان معيّن.
شمس : لها معان عديدة
– كوكب تدور حوله الأرض وسائر المجموعة الشمسية ” شروق الشمس ”
– مكان مشمس ” جلس في الشمس”
– حرارة الشمس ” وقى نفسه من الشمس”
لماذا جعل الكاتب العنوان بصيغة النكرة, فلم يعرّف الغياب, ولم يعرّف الشمس؟
جاء (غياب) بصغة النكرة لأنه بعد أو استتار مؤقت, حال وظرف زماني ومكاني يزول بالحضور أو الشروق.
أما تنكير (شمس), فهو تأكيد من الكاتب على أنه لا يقصد الشمس بماديتها وذاتيتها, وإنما يقصد كل ما ومن ماثلها بخصائصها (الإشراق- الدفء – الطاقة -….), وهنا لا بد أن تتعدّد الشموس في رؤية الكاتب ومعتقده, وهو يتحدّث هناعن شمس عابرة أشرقت لفترة في حياته ثمّ غابت.
هذا العنوان الإيحائي يأخذ النص باتجاه القص المكثف أكثر من الخاطرة أو النص المفتوح, كونه ليس كاشفًا لمتن النص, كما سيظهر معنا.
2- الاستهلال والزمكانية والشخصيات والحبكة:
استهلال بجملة القول:
-” صباح الخير ! هدوء يغلف الأشياء صابونًا برائحة الورد …..!” قالها بحر قزوين, وأنا أنظر من شباك الحافلة الصغيرة ….
قدّم فيه الكاتب مخبوء الزمكانية والشخصيات على حدّ سواء, فالزمان صباحًا ( صباح الخير), والمكان حافلة تمرّ بجانب بحر قزوين, والشخصيات: اعتبارية ( بحر قزوين) وفنية ( القاص).
ثم تتشخصن أشياء الطبيعة كما يريدها القاص, فيموت البحر, ويتبعثر القمر, وتتسابق الخيالات, وتقيم صراعها الدرامي بعد أن تتشكل بهيئة شخصيات عجائبية تغزو عقل وشعور وخيال القاص, وتتقاتل فيما بينها بحبكة مخبوءة, فها هو العقل يتبعثر فوق فراش أيوب في أوج مرضه, وهاهو البحر الميت يموت بينما الأبيض والأحمر يتنعمان كلّ بلونه, هي حبكة اعتبارية مخبوءة تتخذ مسار الحبكة الفنية, من حيث الأفعال الحدثية, لكن بشياكة التعبير والعمق الأسلوبي الأدبي,وهي بالمجمل, ترصد حدَّي كلّ العلوم والتكنولوجية, التي نهضت بها أمم, واندثرت بها حضارات, وهذا جلي بالنهايات, بعض تلك الشخصيات الرمزية انتهت ذبحًا تحت المقصلة, في استحضار لحادثة إعدام ماري أنطوانيت والمقصلة الشهيرة, حينها ارتأى القاص أنه:”ربما, بموتها, الخير والخبز والعشق الأسطوري العذري لخيوط الشمس الذهبية حين تطرز ساعات النهارالأولى”
بينما اشمأز القمر من أول رفسة لقدم غاغارين, أول إنسان وصل بالعلم إلى القمر, ومن بعده بدأت حرب النجوم المدمرة, وما هيروشيما وما شاكلها عنا ببعيد, بينما, على الجانب المشرق,بقيت حواءه التي خلقها بعد أن وصل إلى البعد الرابع, شمسًا تغازل أوراق الأزهار وأغصان الشجر وسعف النخيل.
3- الموضوع:
ليس هناك حدث مسرود فعليّا سوى حال رجل يركب حافلة, ومن خلال زجاجها يرى جمال خلق الله في كونه, فتتداعى أفكاره ومعطياته الثقافية والحضارية لتعقد مقارنة حدّية بين الشر الطارئ, والخير الأصل, بين نقاء الطبيعة البكر, والخراب الذي ساقه الإنسان إليها من بعد أن تلوّثت يده بأول جريمة قتل, حين قتل قابيل أخاه هابيل فكنا جميعًا من نسل قاتل, أراد القاص أن يعيد بناء التاريخ الإنساني, من قبل نزول آدم وحواء من الجنة إلى الأرض, فخلق بخياله حواء بلا تفاحة, أي حواء بلا إغراء, بلا فتن, وكانت شمسه التي أشرق بها يومه, وأعادت ترتيب بعثرة وعبثية الكون افتعلها الإنسان عبر تاريخه الطويل مذ شاء القدر أن يخرج آدم وحواء من الجنة إلى الأرض ليتكاثروا فيها ويعمروها, فانتهكوها وعاثوا فيها خرابًا ودمارًا….
4- النهاية :
ينتهي الصراع المخبوء قبل أن يبلغ نهايته على وقع الحدث السردي الظاهر, فتأتي الخاتمة خاتمتين:
– مفتوحة كقص مكثف: ” وصلنا…!” تقيأها صوت السائق فجرّني من نعاسي إلى مشنقة الذكريات…. وعدتُ وأنا أتلفت حولي كأني أرى وجوه المسافرين لأول مرة كمن استيقظ من نوم عميق فزعًا على صوت صريخ هيروشيما…
– أيضًا مفتوحة كخاطرة: لم تصدّق… أليس كذلك…؟ هي أمك تلوح بيدها من فوق زقورة أور …..
لتكون حواء التي خلقها هي شمس غابت عن واقعه, لكنه يعرف كيف يستحضرها في ذهنه كلما أثاره جمال الكون.
البناء الجمالي :
هذا الجنس السردي البيني هو حصة البناء الجمالي, لذلك تتم دراسته وفق استراتيجية الصقل وإعادة البناء, وهي استراتيجية ذرائعية تُعنى بالأسلوب والوصف والصور الجمالية:
الأسلوب :
أدبي إنشائي عميق جدًّا منزاح نحو الخيال والرومانسية بميل كبير يخترق ال 90 %, بعامل تشويق يبدأ كبيرًا, ويحافظ على نفس الوتيرة, ويتصاعد قرب النهاية لينتهي أكبر مما بدأ.
أسلوب يعتمد التجريد الفني وليس اللغوي, مفيدًا من دخول السرد في مضمار الفن, واعتبار الأدب شكلًا فنيًّا, فالقاص عزف ورسم وصاغ ملحمة بالكلمات, فقط بالكلمات, بعد أن سطّح الحبكة, باعتبارها أفعال مسرودة ومكرورة بالتناص, وعوّض عنها بالمفردة التي حمّلها مهمة الإيحاء بالحدث, ربطه بين المفردات بتلك الحمولة جعل المتلقي يتولى مهمة فهم الأحداث من خلال الترابط والتوالد المفرداتي الذي يحيل إلى فهم المتن النصي, حسب نظرية الفن للفن, الذي يتحوّل فيه الصراع من صراع فني حدثي إلى صراع جمالي, وأبقى الكاتب خيطًا خفيفًا للبناء الفني, يشعر به المتلقي كوخزات خفيفة في النهاية, وجرّد أيضًا الشخصيات, معتبرًا الأسلوب هو الذي يمثّل الأدب, أي أن المفردات هي التي تحكي, وليس الشخصيات, وهذا تجريد فني وليس لغوي, لأن الأدب ما عاد سردًا إخباريًّا بشخصيات كما هو معروف, بل أصبح شكلًا من أشكال الفنون كالرسم والموسيقا, فبدأ التطور ينعكس فيه بشكل طبيعي.
استخدم الكاتب مفردات رمزية تعدّ مفاتيح لمغاليق النص, منها مثلًا :
أربعين هابيل-غدر قابيل – حواء – باستيل- فراش أيوب- حزن البحار- القمر – الشمس- ماري أنطوانيت- الخبز- المقصلة- التفاحة- البعد الرابع- غاغارين- حروف المعرفة- زقورة أور
الوصف والصور:
نحن فعلًا أمام لوحات فنية تجريدية ( Abstract( تقمص فيها الكاتب حرفية وبراعة الفنان التشكيلي, وقام برسم لوحات مبهرة غابت منها المعالم التفصيلية المرئية, ولم يظهر فيها إلا التشكيلات اللونية, في هذا الجنس البيني الصور الجمالية هي تشكيلات لفظية يرشقها الكاتب بريشة رسام لتتحول إلى تشكيلات لونية تتصارع على بياض اللوحة, حتى لكأن صوت الرشقات يُسمع, كما أن رائحة الألوان تُشم.
لنقف على بعض هذه الصور:
– خلقت حواء بلا تفاحة, تتسابق الألوان في أطيافها المنتشرة بين خطوط الأشجار المتناحرة والأشكال والأطوال والحجوم.
– فصارت أشجاري تتراقص على ترنيمة الخلود وتندمج مع خيوط الشمس وحروف المعرفة واصوات موجات النسيم العليل وزقزقة العصافير وأنين الناي الحزين وهو يرسل نغماته مستنطقا آهات التأريخ وخداع الجغرافية المغمسة بالأشواق والحنين.
– هدوء يغلف الأشياء صابونًا برائحة الورد ….!
– ذهبت بعيدًا في ساحات الجمال العذري وباهرات سنابل الحقول وهي تتمايل لتوقظ ترانيم نسائم شمالية معطرة بأريج العنبر وآهات الحقول المبعثرة على فراش الزمن الوفيرة.
وعلى المستوى السيكولوجي:
هذا الجنس البيني, مولود بالأصل من رحم الوجدان الإنساني, قد يعيها معظم الناس, لكن لا أحد يستطيع التعبير عنها, وإخراجها إلى حيز الوجود الحسي غير الكاتب الحصيف, الثري بعلومه النفسية والإدراكية وثروته اللغوية والفنية وإرهاصاته الشعورية, ومدركاته الثقافية والحضارية والعقائدية, فهو جنس قائم على تداعي تيار الوعي Stream of consciousnessالمثار بعتبة واقعية (كتقنية سردية), أي أنه جنس يعتمد على مدى حساسية الكاتب أمام العتبات الواقعية, ومدى قدرته على الارتكاس اتجاهها, وتحويل مسارها في داخل نفسه لإنتاج صراع داخلي نفسي, يحشد له الكثير من ملكة الخيال والثقافة المعرفية والآراء الفكرية, ثم يضفي عليها مهاراته من الجماليات فنية, عبر قدرته على تقمص ثقافة وأحوال الفنان التشكيلي أو الموسيقي, لتكون المخرجات عمل فني إيحائي يتفوق على الإبداع السردي الحدثي الواقعي, يتجاوز المتلقي الكسول, ليهنأ به قرّاء النخبة.
وهذا النص, يأخذ صاحبة نحو عالمية الأدب, أو نحو الأدب الكوني, بهمّه الإنساني الشمولي, واستحضار الجمال والخير, ومحاربة الشر والقبح, فهو يخرج بصاحبه من ضيق الهم الذاتي نحو رحابة وشمولية الهم الإنساني.
بالنهاية :
كلمة شكر وامتنان واجبة تقال في حضرة قامة أستاذي المنظر الذرائعي والأديب المبتكر عبد الرزاق الغالبي, قد لا تفيه حقه, لكن الأديب رأس ماله الكلمة, وأصل خلقه العرفان والأمنيات الطيبة, والنقص في الإنسان أصل, لأن الكمال لله وحده, وشكرًا بحجم الكون لهذا العمل الفني المبهر الذي يجعلنا نجد السير لنرتقي إلى رتبة النخبة.