أدب

هدم أصاب نفسي

محمد الدرقاوي | المغرب
خرجت نجاة من الثانوية متـاخرة عن المعتاد بعد أن حبستها مقتصدة الثانوية بحديث..
وحيث انحصة هذا المساء هي فترة لراحة نجاةفقد جلست الى جانب المقتصدة لتسمع حديثها..
الشابة كوثر المقتصدة تشكو طليقها الذي أوقف عنها مستحقات ابنها والتي تم الحكم بها من قبل المحكمة وقد كان زوج نجاة هو القاضي الذي اصدر الحكم..
وعدت نجاة المقتصدة خيرا وانصرفت ..
كوثر في العقد الثالث من عمرها، فقدت أبويها إثر زلزال أتى على المنطقة القروية التي كانت مسقط رأسها وأربع سنوات من أول عمرها.. تربيتها في ملجأ تحت تهديد الضغط والخوفولد فيها الخجل و بعضا من خنوع ، فرت من الملجأ وعمرها لا يتجاوز العاشرة بعد أن بدأ التحرش بها ومحاولة إخضاعها الى رغبات بعض المتحكمات والمتحكمين في الملجأ، تلقفتها أسرة من زوجين، تبنتها وسهرت على تربيتها وتعليمها الى أن حصلت على إجازة في الاقتصاد..ِالتحقت بإحدى مدارس تكوين المقتصدين ثماشتغلت مقتصدة في مؤسسة بها داخلية .تزوجت كوثر دون رغبة منها بأحد أقرباء الأسرة التي ربتها ..
من سوء حظ كوثر أن الزوج كان غريب الأطوار مضطربا سلوكيا لايثق بنفسه ولا بغيره، منذ بداية زواجهما وكوثر تعاني، تعزم على الطلاق ثم تتراجع خجلا من الأسرة التي ربتها وأحسنت اليها في وقت كادت كوثر أن تتيه في الازقة بلا معيل و لاسند..
كانت كوثر أنثى جميلة بلون قمحي ،وديعة تأسر بنظرات ناعسة ، لا يمكن أن يراها رجل ولا تلوي له عنقا بإلتفات ؛قد مياس وأنوثة صارخة رغم الخجل الذي كان يغطي على جمالها بمسحة من ثقل ..
سبب طلاق كوثر هو جمالها وشدةخجلها وسمعة الملجأ الذي قضت فيه فترة من عمرها ، فما أن يتطلع اليها رجل حتى تصير كبرقوقة قمحية تعلوها حمرة زاهية لكن الشك الذي كان يستحوذ على زوجها هوما أصابه بهوس ان كل من ينظر الى زوجته فهو يعرفها وله علاقة بها من أيام الملجأ، حتى عن ابنه كان يتساءل في غباء:
ـ لماذا يشبه سعيد أمه ولا يشبهني ، أخذ مني أنفي المعقوف وخطل أذنيَّ لكن هذا غير كاف ..
تعبت كوثر من عراك يومي وخصوماتلا تتوقف مع زوج يلازمها كظلها بمتابعة أنى تحركت، يداهمهافي مكتب عملها شكا في كل رجل يعمل بالمؤسسة ،الى أن طرده المديربعد أن سجل ضده شكوى لدى الشرطة، فرفعت كوثر دعوى طلاق للشقاق حكم على إثرها القاضي بما يحق للطفل من تعويض..
بعد جلسة طويلة في المحكمة عاد القاضي زوج نجاة متأخرا الى بيته للغذاء ،استغرب أن زوجته لم تعد بعد حصتها الصباحية .. اوشكت الساعة على الثالثة فشرع القلق ينقر صدره على زوجته، هاتفها لكن هاتفها لايرد، هاتف الإدارة فأخبرته المقتصدة اننجاة قد تأخرت معها بعض الدقائق ثم انصرفت..
حين خرجت نجاة من الثانوية وجدت الطريق مقطوعة جراء حادثة سير بين حافلة للنقل العمومي وسيارة أحد المتحرشين بتلميذات الثانوية،وكانت الضحية إحدىتلميذاتها..بادرت نجاة باستدعاء الشرطة والاسعاف ومن قلقها على تلميذتها صاحبتها في سيارة الإسعاف الى المستشفى بعد أن تأخر أهل التلميذة بحضور ..
بصراحة فنجاة قد تفاعلت مع الحادثة بكل إحساس فيها ، أنساها نفسها وبيتها وزوجها، ففقدانها للخلفة من مرض في زوجها منذ صباه ظل جرحا عميقا نازفا في حياة نجاة تداريه بصبر وتحمل ،لكن أمام منصب الزوج وسمعته والحب الذي يبديه لها جعل نجاة تنغمس في مهنتها بكفاءة واقتدار،وتدفن رغبتها في الخلفة في أعمال الخير بلا كلل خصوصا إذا تعلق الأمر بالطفولة وحاجياتها..
ركضت نجاةعبر كل أجنحة المستشفى أولا كأستاذة مرافقة للتلميذة وثانيا كزوجة قاضٍ مشهور قد يجعل الطاقم الطبي يهتم ويبادر بإنقاد التلميذة في غياب أهلها..
وكمن يستعيد نفسه التي قد فقدها إثر صدمة عنيفة تذكرت نجاة بعد دخول التلميذة غرفة الإنعاش أنها يلزم ان تخبر زوجها عن سبب غيابها، لكن ما أن وضعت يدها في حقيبتها اليدوية حتى وجدت انها تعرضت لسرقة كل ما في حقيبتها في زحمة الحادثة وهي لا تدري..
كان المستشفى بعيدا عن بيتها ولا أحدا تعرفه يمكن أن تستلف منه مالا لركوب سيارة أجرة ..
رجعت الى إدارة المستشفى وطلبت هاتفا بعد أن شرحت وضعها ..
بعد محاولتين يرد الزوج ويطلب منها انتظاره بإدارة المستشفى ..
وهي تنتظر الزوج تسمع طبيبة تغادر غرفة الإنعاش وهي تردد:
“مسكينة الله يكون في عون والديها “
تشهق نجاة شهقة قوية وتهوي على الأرض في غيبوبة، فيتم نقلها الى الإنعاش لاسعافها ..
حين أقبل زوج نجاة لم يجدها، وقبل أن يسأل الإدارة ظل يذرع الممر بين الإدارة والبوابة في قلق متزايد وغضب يغلي، تنبه الى أن أما تسأل عن بنت أتوا بها إثر حادثة قريبا من ثانويتها فأخبرتها إدارية ان ابنتها قد تم اسعافها لكن قضاء الله كان أكبر فتوفيت من لحظات،وأن السيدة التي كانت في رفقتها قد هوت من طولها في غيبوبة بعد أن سمعت بموتها ..
أدرك القاضي ان المعنية هي زوجته وقد طمأنه طبيب عليها فبعد الاسعافات قد استعادت نفسها لكن من الأحسن ألا يعجل بخروجها ،فسقوطها قد سبب لها رجة خفيفة في مخها قد يكون مصحوبا بنزيف داخلي، وتحتاج الى متابعة وان تظل تحت رقابة الطاقم الطبي ..
عادت نجاةبعد يومين الى بيتها لكن كانت تصيبها غيبوبة بين حين وآخر ما أن تصحو منها حتى تأخذها سورة من البكاء، يضيق تنفسها وتشعر باختناق يكاد يأتي على روحها، حركات لا ارادية تقوم بها أحيانا وكانها ترى طيوفا فتكلمهاعن الرحمة بتلميذتها..
لم تتوقف كوثر يوما عن زيارة نجاة، تأتي اليها طيلة رخصتها المرضية والتي كانت طويلة.. كم أنبت كوثر نفسها !! ..
ـ أنا السبب في ما وقع لنجاة ، وأنا من أخرتها عن الخروج في موعدها..
من طيبة كوثر كانت تهوي على يد القاضي تقبلهاملتمسة منه العفو و الغفران ،بل من شدة إحساسها بذنب لم تقترفه أتت بالسعدية مساعدتها الى بيت فتيحة لتقوم بما يلزم البيت من نظافة وطبخ عساها تخفف عن الزوج معاناة زوجته..
كانت السعدية بالنسبة لكوثركأخت صغيرة تعرفت عليها كوثر مذ كانت السعدية طفلة صغيرة في الملجأ ولما تزوجت كوثر أتت بالسعدية الى بيتها خوفا عليها مما تعرفه من شذوذ في الملجأ..فكل فتاة جميلة تظهرهناك الا كانت ضحية مؤامراتوتحرش الى أن تفقد مقاومتها..
صارت نجاة تستعيد بعض توازنها لكنها كانت تفقد القدرة على التركيز للعودة الى عملها ،عجزها عن إرضاء رغبات زوجها كما تعودت، فكوثر رغم حصول نجاة على تقاعد نسبي وتوقفها عن العمل بإلحاح من أبويها أصرتألا تسحب السعدية من بيت صديقتها كما صارت تسهر بنفسها على طهو كل ما يستلذه زوج نجاة، ولا تتقنه السعدية، فغايتها استمرار لحمة البيت والحفاظ على تماسكه والحب الذي يسود بين نجاة وزوجها ..
صارت كوثر كفرد من أهل بيت نجاة حتى أنها كثيرا ما قضت لديها الليل خلال أيام العطل ، تغمرها السعادة، تسعد بتماثل نجاة للشفاء وهي تتحرك وتهتم بزينتها، وان في تثاقل طبيعي.راحة نفسية تغمر نجاة حتى بعد أن توقفت عما تتناوله من مهدئات وهي تنسلخ من أزمتها شيئا فشيئا ..
كثرة زيارات كوثر الى بيت صديقتها والمبيت عندها أثارتها إشارات شغلت انتباهها.. تقارب مثير بين القاضي والسعديةمضغ كوثر بقلق وخوف على نفسية نجاة ..
حاولت أن تبعد كل سوء ظن عن خاطرها لكن ما رأته وسمعته في إحدى الليالي رسخ يقينها أن السخيلة قد نبت لها قرنان للنطح.
هل تبادر كوثر بسحب السعدية من بيت صديقتها؟ .. كيف؟
ونجاة لا زالت في دور النقاهة، فقد تنتكس ومرة أخرى تكون كوثر السبب؟ ..
هل تخبرنجاة وتدعوها للانتباه؟قد تضيف لها صدمة أخرى أمام ما أصابها بعد موت تلميذتها،أم تنبه السعدية مباشرة وتحذرها من سلوك قد يجرها لحتفها؟ فالرجل ذو سلطة وقد ينسل من زلته انسلال الشعرة من العجين،ونجاة وديعة تبادر لكل خير لكنها ليست سهلة خصوصا اذا تعلق الامر بعشها وكرامتها ..
انزعاج وضيق ما يلازم كوثر .. يغلفان وجودها بقتامة فتصاب بنوع من الحيرة قاتل..
ـ انقلبت موازيني، خاب اعتقادي في السعدية الطفلة الوديعة التي ربيتها، وكذلك في القاضي الذي يفصل بين قضايا الناس وكم له قد قبلت يدا تقديرا واحتراما،حتى في صديقتي الذكية التي لم تنتبه لسلوكات من يعايشها في البيت ..
السعدية مراهقة و قاصر لا تتجاوز السادسة عشرة من عمرها فكيف أغرت القاضي وأسقطته في رغبات طائشة؟ لكن ،من اسقط من؟..
خيوط الدهشة والارتباك تتشابك في عقل كوثر وأمام عيونها.. السعدية جميلة ، خفيفة الظل، بسماتها تثير الكبير والصغير لكن ليست بالجمال الذي قد يخر له إنسان عاقل متعلم واع وله مسؤولية ، فتغريه مراهقة ثم يذوب تحت وهجها..
نجاة رغم مرضها لازالت أكثر اثارة من السعدية، أمرأة تملا الأحضان، أنوثة واعتدال قد،تزداد فتنة كلما اهتمت بزينتها ..
بدأت كوثرتغيب عن بيت السعدية، تباعد بين أيام زياراتها متعمدة أن تترك فرصة أمام نجاة علها تكتشف بنفسها ما يجري داخل بيتها ..
غابت كوثرقرابة شهر وعنها لم تسأل نجاة وليس هذا من عادتها
تطرق كوثر باب نجاة فتكون نجاة هي من يفتح الباب ، باستغراب تسألها كوثر:
ـ تفتحين الباب بنفسك !!..فاين السعدية ؟..
وكأنها فجرت قادوسا للصرف الصحي تنطلقنجاة :
ـ هل تضحكين مني امعلى نفسك ؟ ذاك وجهك أم قفاك ؟
البنت الدرويشة تنقلب ماردا ،عجبي !!..حرضت البنت على العودة اليك وغبت نهائيا ثم أتيت لتسخري مني..
على الأقل أخبريني بدل التصرف كلص اتى للسرقة بليل ..
أدركت كوثر ما حدث ،تمثلته بسرعة،وما كانت تخشاه قد وقع،دخلت قلب الدار والتمست من صديقتها الهدوء والسكينة، ثم صارت كوثر تحدث نجاة عن شكوكها السابقة:
ـ في إحدى الليالي قد رأيت زوجك يتسلل الى غرفة السعدية
و الى مسامعي كان يصل كل ما يمارسانه وقد خفت أن أخبرك بالحقيقة، فقد توهمت أن الامرلايتعدى نزوة عابرة ..
كان وجه نجاة يتغير بين صفرة وزرقة ، والدمع في عينيها قد تجمد ، أخذها تفكير وكأنها تستعيد ماضيا أو صورا بعيدة .. هي حتما قد استوعبت الحدث لكن في صمت ولاكلمات وإن شرع في أعماقها يغلي بعد أن ربطت بينسلوكات لاحظتها وتوهمتها عفوية وبين غياب الخادمة وتأخر الزوج المتكرر ليلا مما لم يكن من عادته .. طلبت من كوثر أن تلتزم الصمت الى أن تنهي ما تبادر الى عقلها اللحظة وما تنوي تنفيذه ..
ـ ليست هي المرة الأولى الذي يسقط فيها القناع عن زوجي مع خادمات مراهقات، فله سابقة تنازلت عن زلتها بعد توسل من قبله، لهذا فماعادت تدخل خادمة لبيتي لكن هيهات لنفس ساقطة أن تترفع عن الزبالة، تصبرت على عقمه، تجاوزت أكثر من ناقصة تكرهها زوجة في رجل ، لكن اليوم سيعرف الوجه الحقيقي لزوجته ..
استدعت نجاة ابن عمتها وهو شاب يعملضابطا في سلك الشرطة وطلبت منه أن يكلف أحدا باقتفاء أثر زوجها بحذر والا يتصرف الا بعد إذنها ..
أغرى القاضي السعدية الطفلة القاصر بشقة اشتراها خارج المدار الحضاري بعيدا عن رقابة الأعين ، سجل الشقة باسم السعدية وفيها صار العاشقان يلتقيان في انتظار أن تبلغ السعدية سن الرشد ثم يعقد عليها ..
في إحدى زياراته ما أن دخل بيت العشيقة حتى اقتحمت الشرطة البيت وأخرجت القاضي الذي حاول ان يُعرِّف بنفسه لكن دون جدوى فقد أبلغوه انهم أتوا بناء على شكاية من زوجته ..
كانت آخر كلمة تفوهت بها نجاة في المحكمة وقد توسلوها أن تتنازل عن الدعوى حتى تسقط المتابعة عن زوجها :
ـ مرضي ليس من حادثة عابرة ،مرضي من هدم أصاب نفسي مذ أقنعت نفسي بالصبر بعد أن عرفت عقم زوجي ويأسه من العلاج ، تحملت وفي مشاريع الخير انغمست، وعن كل ما يسعد زوجي بذلت الجهد والنفس ، لكن أن يكون الجزاء خيانة ينسجها قلب بيتي مع طفلة قاصر لا تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، وممن؟ من زميل لكم عيشني وهم الحب والثقة وغير قليل من كبر واعتداد بالأصول و هو يضرب القيم بأنانية ..
أصر على الطلاق وعلى متابعته، ولن أتنازل عن ذرة حق من حقوقي أو ألين بعفو قد ينتظره مني ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى