حلم الثورة

تركي عامر| فلسطين

 

لَقَدْ دارَتُ الأرْضُ سِتًّا

وَسِتِّينَ دَوْرَةْ،

وَما زِلْتُ أسْكُنُ حُلْمًا

أسَمِّيهِ ثَوْرَةْ:

أرَى المَوْتَ شَيْخًا فَقِيهًا

تَبارَكَ ذِكْرُهُ يُفْتِي،

بِأنَّ الحَياةَ لَأجْمَلُ أنْثَى

وَلَيْسَتْ بِعَوْرَةْ.

 

(٢)

قَبْلَ سِتّينَ عامًا وسِتّينَ شَهْرًا،

أتَيْتُ كَحَبَّةِ قَمْحٍ إلى هٰذهِ المَطْحَنَةْ.

فَرِحُوا بِقُدُومي كَثيرًا، كَما قيلَ لي

لاحِقًا. قُلْتُ: تَبًّا، وماذا بِشَأْني أنا؟

لِمَ لَمْ تَسْألُوني إذا كُنْتُ أُعْنَى

بهٰذا المَجيءِ وهٰذا الهُنا؟

ضَحِكُوا لا لأنّي أتَيْتُ بشَيْءٍ جَديدٍ،

لأنّي طرحْتُ سُؤالًا شَقِيًّا.

نَشَأْتُ كَأيِّ صَبِيٍّ. مُنِيتُ بموتٍ

يُصادرُ أمّي. كبرْتُ قَليلًا.

وَجَدْتُ عَرُوسًا وصِرْتُ أبًا ثُمَّ جَدًّا

سَعِيدًا. وَهٰا أنَذا الآنَ تَكْتُبُني

رُوحِيَ المُدْمِنَةْ:

طَحَنَتْنِي صُرُوفُ الزّمانِ، أكَلْتُ كُفُوفًا

كَأنِّيَ مُرْتَكِبٌ جُنْحَةً بائِنَةْ.

لا عَلَيَّ. سأخرجُ منها بدونِ غُبارٍ، بماءٍ

يُحِبُّهُ وَجْهي، بِنارٍ تُشاغِلُ قَلْبي،

وليسَ هُناكَ دُخانٌ ولا مَدْخَنَةْ.

 

(٣)

مَنْ أنا لأقُولَ لَكُمْ: إنَّ لِي

سِيرَةً كامِلَةْ؟

قَبْلَ سِتِّينَ عامًا وَأرْبَعَةٍ،

أنْجَبانِي. وَكانْ،

أنْ أضافُوا صَبِيًّا جَدِيدًا،

إلى صُورَةِ العائِلَةْ.

رَبَّيانِي بِأنَّ الزَّمانْ،

رِحْلَةٌ دُونَ أجْرٍ..

إلى جِهَةٍ آجِلَةْ.

بَعْدَ سِتِّينَ عامًا وَأرْبَعَةٍ،

لَمْ يَجِدْنِي المَكانْ.

بِغُبارٍ قَدِيمٍ..

كَتَبْتُ على الطّاوِلَةْ،

سِيرَةً عاجِلَةْ:

مَنْ أنا لأقُولَ لَكُمْ،

أخْطَأَ الوالِدانْ؟

 

(٤)

بِذِكْراكَ يا مَوْلِدي،

سَئِمْتُ احْتِفاليَ. لَنْ أرْتَدي

قَمِيصًا يُصَغِّرُني سَنَةً،

كَمْ سَيَبْعُدُ عَنّي غَدِي؟

لَدَيَّ قَمِيصٌ قَدِيمٌ وَلٰكِنْ

نَظِيفٌ، حِذاءٌ قَدِيمٌ

وَلٰكِنْ مُرِيحٌ. كَثيرًا

أتَيْتَ. كَفاكَ مَجِيئًا،

مَلَلْتُكَ يا مَوْلِدي!

سَئِمْتُ اخْتِيارَ كَلامٍ

أنِيقٍ يَلِيقُ بِسِنِّي،

وَرَشَّةِ عِطْرٍ

تَلِيقُ بِقافِيَةِ المَوْعِدِ.

سَئِمْتُ انْتِظارَ هَدايا

تُذَكِّرُ أنِّي كَبِرْتُ، تَمُدُّ لِسانًا

لِتَسْخَرَ مِنِّي. سَئِمْتُكَ. تَبًّا!

أرانِي بِلا ساعَةٍ في يَدِي،

أغَنِّي بِصْمْتٍ: كَبِرْتُ كَثيرًا،

وَماذا فَعَلْتُ؟ بِلا حُمُّصٍ

خَرَجْتُ مِنَ المَوْلِدِ.

 

(٥)

حَياةُ المَرْءِ يا وَلَدِي تَطِيرُ،

إلى ما كانَ ظَهْرًا لا تُدِيرُ.

وَراءَ الظَّهْرِ عُمْرٌ مَرَّ مُرًّا

بِلا عَيْنٍ، تُلَخِّصُهُ سُطُورُ:

أنا رُوحٌ وَرائِحَتِي بَياضٌ،

وَحافِيَةً على جَمْرٍ تَسِيرُ.

أسِيرًا لا أَسِيرُ إلى مَكانٍ،

وَلا أخْشاكَ يَا (بِئْسَ المَصِيرُ)!

على قَلَمٍ وَقَلْبٍ قُمْتُ أمْشِي،

على ما قِيلَ يَفْنَى لا أغِيرُ.

أنا رِيحٌ وَهٰذَي الأرْضُ بَحْرٌ،

وَحِبْرًا دُونَ راءٍ أسْتَشِيرُ.

على حُبِّي أغارُ. وَأَيُّ قَلْبٍ

بِلا لُغَةٍ حِمارًا قَدْ يَصِيرُ.

إلى قَبْرِي قَرِيبًا سَوْفَ أمْضِي،

وَإِمْضَائِي: على لُغَتِي غَيُورُ.

 

(٦)

كَفاكِ!، عَنِ اللَّفِّ كُفِّي!،

عَنِ الدَّوَرانِ وَلَوْ نِصْفَ مَرَّةْ!

كَفاكِ رَجاءً! فَإِنِّي

تَجاوَزْتُ يا أَرْضُ سِتِّينَ دَوْرَةْ.

وَما زِلْتُ عَبْدًا شَقِيًّا.

أَبِي مِنْ غُبارٍ. وَأُمِّيَ ثَوْرَةْ.

وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَمِيصٌ

يَلِيقُ بِرِيحٍ. وَرُوحِيَ عَوْرَةْ. 

 

(٧)

قَبْلَ سِتِّينَ عَامًا أَتَيْتْ.

لَسْتُ أَعْرِفُ كَيْفَ؟ لِمَاذَا؟

وَلٰكِنْ إلَيَّ اْنَتَهْيْتْ.

أهْيَ سِتُّونَ؟ تَبًّا! كَبُرْتُ سَرِيعًا

كَكُلِّ الحِكاياتِ. عِلْمًا غَرَفْتُ. وَحُلْمًا

عَرْفْتُ. قَرَأْتُ كَثِيرًا. كَتَبْتُ أَقَلَّ. وَمَا

كُنْتُ يَوْمًا نَوَيْتْ،

أَنْ أَكُونَ كَما كُنْتُنِي شَاعِرًا

راحَ يَمْضِي وَراءَ القَصائِدِ حَيًّا وَمَيْتْ.

حافِيًا كُنْتُنِي. وَعلى سَطْرِ جَمْرٍ مَشَيْتْ.

كُنْتُ يَوْمًا تَعَلَّمْتُ أنَّ الحَياةَ شَهِيقٌ

عَمِيقٌ. شَرِقْتُ بِرِيقِي. أَفَقْتُ سَرِيعًا.

عَشِقْتُ الحَياةَ نَهارًا وَلَيْلًا.

شَمَمْتُ هَواءً نَظِيفًا

وَراءَ البِحارِ. وَعاقَرْتُ حِبْرًا

وَحُبًّا. وَخُبْزًا حَلالًا أكَلْتُ وَزَيْتْ.

يا إلٰهِي، كَبُرْتُ سَرِيعًا.

تَزَوَّجْتُ. بَيْتًا صَغِيرًا بَنَيْتْ.

عِشْتُ أكْثَرَ مِمّا أرَدْتُ. كَفانِي،

كَفانِي! فَحَسْبِيَ أنِّي تَرْكْتُ وَرائِي

مِنَ الشِّعْرِ بَيْتًا يُعَمِّرُ بَيْتْ.

 

(٨)

كُلُّ عَامٍ وَأنْتَ بِخَيْرٍ وَحِبْرٍ..

وَحُبٍّ وَحَدْبِ.. حُنُوٍّ… حَنانْ.

كُلُّ عَامٍ وَأنْتَ بِحُلْمٍ صَغِيرٍ

تُراوِحُ بَيْنَ مَقامِ المَكانِ وَبَسْطِ الزَّمانْ.

كُلُّ عَامٍ وَأنْتَ كَما أنْتَ تَقْرَأُ رِيحًا

وَتَكْتُبُ ماءً يُفَسِّرُ نارًا

تُفَلْسِفُ رُوحَ الدُّخانْ.

كُلُّ عَامٍ وَأنْتَ كَما أنْتَ

تُتْقِنُ كارَ الرِّهانِ وَتَخْسَرُ كُلَّ رِهانْ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى