قراءة نقدية في قصة “عرائس العتمة”للقاص كرم الصباغ
بقلم: أ. إيمان السيد فجر | سوريا
أولا – القصة: عرائس العتمة
لقد هدأت حركتهم للتو؛ إذ عادوا إلى بيوتهم؛ ليكمنوا داخلها في انتظار الغارة المقبلة. على من يأتي الدَّور؟! تراهم يسألون أنفسهم في كلّ لحظة تمرّ. أشخص ببصري إلى خيمة السَّماء المعتمة؛ فلا أبصر أيَّ نجمٍ، أو حتَّى خيطًا هزيلًا، يشي بأن ثمَّة هلالًا يُولَد أو محاقّا يموت. لا أبصر في تلك السَّماء التي خانتها منازلُ القمر سواه. مازال هناك يستبد بالفضاء، يفرد أجنحته السوداء على تابوتٍ ضخمٍ يُدعَى القطاع، وهل يُعْيي ذلك الكائن الأسطوريّ الدَّميم نشر جناحيه العملاقين على ثلاثمائة كيلو متر أو ما يزيد؟! هل يعجزه أن يهزَّ شجرة “غزَّة” العارية؛ فتتساقط بين كفيه رطب الأرواح، التي أنضجها الجوع، والعطش، والقصف، والرعب، والدّمار؟! أنَّى للعابه ألا يسيل مادامت تلك الطَّائرات تخترق سماء “غَزَّة” المعتمة، وعلى وقع أزيزٍها النجس المُدجَّجٍ بالشُّؤم والخراب تعوي قنابلها كذئاب مسعورة؛ فتخلف بحرًا من الدماء، يغصُّ بأشلاء الشهداء، و حطام البنايات.
(٢)
للصمت صفيرٌ ينهش أذنيَّ، ولا يقطعه سوى هزيمُ ريحٍ تعربد بين ركام المنازل المُهدَّمة، وتبعثر رائحة البارود، التي خلَّفتها آخرُ غارةٍ. مازالت روائح الشواء التي انبعثت من بين ثنايا الأجساد المحترقة عالقة في الهواء. كان المكان يضج بمن لم يطلهم القصف منذ لحظاتٍ، كانوا يهرولون حفاةً وسط الدُّخان، كانوا ينبشون الأنقاض بأظفارهم، في حين تعرَّت أنصاف أجسادهم العلويَّة، بعد أن مزقوا ملابسهم إلى خرق، صانعين ضمادات شدُّوها على جروح المصابين، الذين لايزال بهم رمقٌ من حياة، بينما اكتظت سيّارات الإسعاف وسيّارات الأهالي و عربات “الكارو” بالأشلاء الممزّقة، وسرعان ما أفرغت حمولاتها في جوف ثلاجاتٍ، باتت تضج بالقتلى، ثم عادت من جديد؛ لتحمل جثثّا أخرى، اختلطت أشلاؤها بعضها ببعضٍ، وأنَّى لمنتشليها التمييز في مثل هذه اللَّيالي الحالكة؟!
(٣)
أقبع في غرفةٍ باردةٍ، هي كلّ ما تبقى من داري التي طالها القصف ليلة امس. لقد رفضت أنْ أنتقل إلى أيّ دارٍ مجاورة. لم يضغطوا عليَّ طويلًا؛ فنحن في “غزَّة” نمقت الفرار، ونعلم أنَّ كلَّ شبرٍ في القطاع إنما هو تابوتٌ، يفغر فاه؛ ليبتلع مزيدًا من القتلى. نحن نفضّل أن نقبر في دورنا مادام الموت ليس منه بدٌّ؛ لعلَّ رُفَاتنا تنبت في يوم ما أشجارًا، وشموسًا، وبنين وبنات، ودورًا تضج بالصخب والحياة.
(٤)
لقد عُدتُ من المستشفى منذ عدَّة ساعات مرغمًا بعد أن رجتنا طواقم التّمريض أن نخلي المكان؛ فتركتكما بين أيدي المسعفين، وقد افترشتما الأرض؛ إذ لم يعد بالمستشفى أيّ سريرٍ شاغرٍ، أو حتَّى موضع قدمٍ إلّا وقد شغلته جثةٌ فارقتها الروح للتو، أو جسدُ جريحٍ، يُحْدِق به المصير ذاته.
(٥)
من نافذتي المفتوحة تلتهم عيناي المقرحتان العتمة، التي كفَّنت الشَّوارع والبنايات. أشعر بالملح يملأ حلقي، أتوجَّه صوب الحوض القابع في زاوية، أدير الصُّنبور؛ فتنداح قطرةٌ وحيدةٌ، ترتطم بباطن الحوض؛ فأعود مترنحًا يقتلني الظَّمأ، أشعر بأنَّ جسدي المنهك يخور من فرط الإعياء، أجاهد؛ كي أصلَ إلى مقعدي الملاصق للنافذة، تبدو المسافات شديدة البعد بيني و بين الأشياء القليلة المتناثرة بلا نظامٍ في غرفتي الباردة. متعبٌ أنا، والدموع تحجَّرت في مقلتيّ، تأبى النُّزول. كنتِ بحواري ليلةَ أمس ينعكس على وجهينا ضوء الشمعة الوحيدة التي تبقت في الدَّار. بينما أسندتِ رأس “فرح” على فخذكِ الأيمن، ورحتِ تداعبين خصلات شعرها بحنانٍ، حتى استسلمتْ إلى نومٍ، خاصم أجفانها منذ عشرة أيامٍ. كنتِ كعادتكِ تحاولين جاهدةً رسم الصَّلابة على قسمات وجهكِ الغارق في براءته رغم تجاوزك الثَّلاثين من العمر. كنت تهربين ببصركِ بعيدًا عني، حتى لا ألحظ الخوف و القلق اللذين أطلَّا من عينيكِ، كلَّما سمعت أصوت القصف والانفجار، التي راحت تقترب رويدًا رويدًا. ودون سابق إنذارٍ، تنامت إلى مسامعنا ضوضاءٌ محمومةٌ، وأصواتُ حركةٍ دائبةٍ لأقدامٍ، تركض في جميع الاتجاهات، وصرخاتٌ، أطلقتها حناجرُ، بُحَّت من فرط الصُّراخ. وفرقعة ُجدرانٍ، سُمِعتْ في الجوار؛ فانتبهتْ “فرح” مذعورةً. كانت العتمة في ذلك الوقت قد غمرت الغرفة تمامًا؛ إذ ذابت الشمعة عن آخرها؛ فراحت يداي تجوسان خلال الظلام، حتَّى وصلتُ إليكما. كنتما ترتجفان؛ فجذبتكما إلى حضني، وانتابتني رغبةٌ في أن أبقى بجواركما، ولكنَّ الاستغاثات بالخارج دفعتني إلى الخروج؛ كي أشارك الشُّبان في نبش الأنقاض؛ بحثًا عن الأحياء، وجثامين الموتى؛ فالتقطت سترتي المعلقة على مسمار مُثبَّت بالجدار بحركةٍ مُدرَّبة من يدي، التي على ما يبدو أنَّ الأيَّام العشرة الفائتة قد علمتها أن ترى جيدًا في الظَّلام، وما إن غادرت الدَّار، حتَّى زلزلتني أصواتُ قصفٍ جاءتْ من خلفي، وحينما التفتُّ إلى الوراء، كانت الدَّار قد انهارت عليكما، فرحتُ أصرخ كالمجنون، ولم أكف عن النَّحيب إلَّا بعد أن انتشلكما الشُّبان من تحت الأنقاض، وبكما رمقٌ من حياةٍ.
(٦)
أخرج من غرفتي، أتنقَّل بصعوبةٍ بين الأنقاض، أصل إلى مدخل الدَّار المُحطَّم، أتطلَّع بعينين دهشتين إلى تكعيبة العنب التي استحالت إلى رمادٍ. أتذكرين ليلة زفافنا؟! لقد أقام لنا الشًبان تحتها كوشة العرس، وبينما كانوا يرقصون “الدّبكة”، و يعزفون “الشَّبَّابة”، ويدقون الطّبول، راحت عناقيد العنب النَّاضجة تلتمع، وتعكس ما قد سقط عليها من أضواءٍ. يقولون: رحم الفلسطينية أرضٌ خصبةٌ، سرعان ما تجود بثمرها. لم تكذبي الخبر، وبعد مضي تسعة أشهرٍ، شقَّت صرخة “فرح” الأولى سكون الدَّار، وعلت على همهمات القابلات؛ وسرعان ما ضجَّت الدَّار بالزغاريد، وقذفت أيدي النِّسوة الملح في أركان الدَّار، ومدخلها، حتَّى لامست الحبيبات البيضاء سقف التّكعيبة الظّليل.
(٧)
تغزوني الهواجس، يضيق صدري، ويجثم فوقه ألف حجرٍ. قلبي مثل أرضي يستوطنه الوجع، أشعر برغبةٍ مُلحّة في البكاء، ولكنَّ الدموع لا تزال عَصِيَّةً تُعاندني، وتأبى الانهمار. فجأةً، تَمثُلان أمام ناظريّ؛ أراكما الآنَ على بلاط المستشفى العاري، “فرح” تنهض في البداية، تخطر في فستانها الورديّ بوجهها المنير، ترقص كفراشةٍ، تدور بخفَّةٍ، وتطلق ضحكاتها الرنَّانة، وتومئ إليكِ برأسها؛ كي تنهضي من مكانك؛ لتشاركيها رقصتها الرَّشيقة. أراكِ تلبين دعوتها؛ فمتي أخَّرتِ لفرح طلبًا؟! أرى وجهكِ الغارق في براءته كالبدر في ليلة التمام، أراكِ كليلة زفافنا في فستانك الأبيض المُكلَّل بالصفاء في إثر فراشتنا تصعدين؛ أرنو ببصري إلى السماء؛ فأراكما أنتِ و “فرح” بصحبة عددٍ لانهائيّ من العرائس، تحلقان في سماء “غزَّة” التي تبدَّدت عتمتها للتو.
ثانيا – القراءة النقدية
راوٍ ذاتوي استطاع تصوير المشاعر الحسيَّة الداخليَّة بمنولوجٍ دراميٍّ كمنطوقٍ داخليٍّ صوَّر صراعاته النفسيَّة، وآلامه الرُّوحيَّة، وتمكَّن من مزجها برؤيته الخارجية عبر مشهدياته الوصفية المؤثرة لما يشهده قطاع غزة منذ السابع من اكتوبر المنصرم مكانًا وزمانًا وأحداثًا داميةً، إن نجت منها العين بسبب الظلام المخيِّم على القطاع، لن تنجوَ منها الأذن وإن تجاوزتها الأذن أملاً في الحياة، شهدها انقطاع الأنفاس لدى زهق الأروح على مر الدقائق.
استطاع القاص تجسيد الصورة القاتمة في غزة والغارات الجوية التي يشنُّها العدو الصهيوني ليلاً ونهارًا بالآلاف على قطاع غزة وحرمان أهل القطاع من أقل حقوقهم الإنسانيِّة كالدَّقيق والماء والغذاء، ورسَمَ لنا الصور المأساويَّة للمستشفيات في القطاع، وشُحِّ الأمكنة فيها التي ضاقت بها الأجساد حتى افترشَ المصابون أرضيَّات المستشفيات المغسولة بالدماء المراقة، والمسكونة بالأرواح المزهقة.
نعم …لقد ارتقت ممارسات العدوِّ الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الغزوايِّ إلى حد التطهير العرقيِّ والإبادة الجماعيَّة.. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنه رغم قسوة المشاهد الدرامية الممزِقة، تمكَّن القاص من توصيل رسالته الإنسانية عبر نصه “عرائس العتمة”بطريقةٍ مشوِّقةٍ رغم المأساوية فيها عن طريق مهارته السردية وقدرته على تقديم ونقل الأحداث بطريقة الراوي العليم الذاتوي تارةً، والميتاسرد سرد تارة أخرى ماضويًا، في إطار زمنيٍّ قصيرٍ ومكانيٍ ضيقٍ كان قريبًا قُبيل القصف الجوي بدقائق معززا قدرتنا- البصرية والسمعية والجسمانية والروحية عبر مشهدياته الوصفية الدقيقة- على رؤية المكان بكل آلة دماره، وتأمّل الأحداث الدامية والمفجعة لنتحوَّل شخصيًا إلى بطل النص المفجوع بفقد زوجته وابنته ونمتزج كليًا بآلامه ومرارة فقده، وقد تمكَّن عبر سرده المدروس من توصيل أفكاره بشكلٍ بسيطٍ ولينٍ بعيدًا عن التعقيدات من خلال تصوير الأحداث بشكلٍ واقعيٍ ومشهود، وبطريقة إبداعيَّةٍ ملهمةٍ… الأمر الذي عزَّز القدرة لدى القارئ؛ ليتفاعل مع الشخصيات فيراها ويسمعها ويعيش خوفها وألمها ويبكي معها أحيانًا..”عرائس العتمة” قصةٌ واقعيَّةٌ ناطقة، عرَّتْ تخاذل المجتمع الدولي إزاء ما يجري في قطاع غزةمن مجازرَ وحشيَّةٍ يندى لها جبين الإنسانية بصمته المخزي حيال انتظار كل فرد وكل بناية وكل شارعٍ وكل حيِّ في غزة لمصيره المحتوم..