مجدي بكري | القاهرة
في الندوة التي عقدتها مكتبة مصر العامة بالجيزة، قبل أيام، لمناقشة أحدث كتب المفكر المصري عيسى بيومي المقيم في هامبورج بألمانيا، أكد مؤلف كتاب “زعماء وآراء” أن ذاكرة البشر هي تاريخهم الحافظ لأحداث ماضيهم وسير من يحرك تلك الأحداث من أفذاذهم سواء كانوا علماء أو فلاسفة أو مفكرين أو مبدعين أو قادة أو زعماء.
لكن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث والسير بعشوائية فاقدة للهدف، غير واضحة المسار، وإنما هو قصة ذات فصول تتبع سياقًا قد لا يبدو منطقيًا أحيانًا لمن يتصفحه.
وفي هذه الندوة الحاشدة، التي قدمها الكاتب الصحفي مصطفى عبدالله، ذكر بيومي أن التاريخ يفيد البشرية إذا أعانها على الارتقاء والازدهار والاهتداء للمسار الصحيح، وهذا يتحقق إذا اقتفينا الصدق في رواية الحدث وتخيرنا السمو في المثل الأعلى. فليس كل ما تسطره صفحات التاريخ صحيحًا، وليس كل أفذاذ البشر أمثلة صالحة للاقتداء.
وهذا هو ما اتفق معه فيه الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ بآداب القاهرة والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة الذي أشاد بتعامل عيسى بيومي مع أحداث التاريخ وهو يكتب ست سير غيرية لستة من زعماء العالم في القرن العشرين. وأضاف بيومي أنه لكون دور الأفذاذ من زعماء الأمم تأثير فادح على أممهم يمتد أثره أحيانًا للمجتمع البشري بمجمله، فتتحتم دراسة سيرهم بتروٍ وإمعان قبل أن تُتخذهم مُثلًا عليا للاقتداء أو نماذج متدنية من الطبيعة البشرية للعظة والاتقاء.
وأوضح أن القرن الذي نعيشه يضطرب بصراعات وتحولات لا تبدو في مجملها هادفة لسمو الوجود الإنساني، على الرغم من التقدم العلمي والتفوق التكنولوجي مقارنة بالقرن السابق.
وتساءل: هل ضلت البشرية في اقتفائها صدق الحدث وتخيرت من أفذاذها نماذج متدنية للاقتداء، أم أنها افتقرت للحس الذي يميز الطيب من الخبيث؟
وأوضح السفير رضا الطايفي رئيس تحرير مجلة “الدبلوماسي وعضو مجلس إدارة مكتبات مصر العامة ومدير صندوقها فقال إن عيسى بيومي تخير ستة من وعماء القرن العشرين ليستعرض سيرهم ويحاول اقتفاء القيم الإنسانية في أفعالهم، وما يعنيه ذلك في الميزان الذي يتخذ من السمو بالإنسانية غاية، فيحدد من يجب أن يُقتدي به كمثل أعلى ومن يُتخذ عظة نتجنب تكرارها ونتقي أثرها، ومن ثم نحدد هل انحرفت البشرية عن المسار القويم بعدم اكتراثها بتجارب ماضيها، ولم يعد لذاكرتها نفع في تنبيه الوعي وشحذ إرادة الفعل.
أما الدكتور شريف الجيار عميد كلية الألسن بجامعة بني سويف فأكد قدرة عيسى بيومي على كتابة هذه السير الغيرية لزعماء أثروا تأثيرًا عميقًا في نفوس البشر.
وذكر المؤلف أنه اختار نماذج بعينها لزعماء برزت أدوارهم على المسرح العالمي في القرن العشرين، ثلاثة منهم يجب الاقتداء بهم، والثلاثة الآخرون يتحتم تجنبهم.
لكن البشرية تمضي في القرن الحادي والعشرين تتجنب الأولين ويصعب عليها الاهتداء بهديهم، وفي الوقت نفسه تنجرف في طريق الآخرين.
هؤلاء الزعماء الستة تشكل شعوبهم ما يقرب من نصف سكان الأرض من البشر بتعداد تسعينيات القرن العشرين، والأهم من ذلك يتفرد كل منهم بشخصيته وخصاله وما سعى إليه من غاية واتخذه من وسائل لتحقيقها. أعطى هذا للبشرية فرصة لتقارن وتختار القدوة المناسبة لتهتدي بها في خطوها نحو القرن الحالي، فهل استوعبت تجاربها التي كلفتها غاليًا وأحسنت الاختيار؟
الزعماء المختارون لهذه الدراسة يمثلون مدى الوعي الإنساني من قمته إلى حضيضه حسبما استبصرت جدوى الحياة ودور الإنسان فيها؛ هل هو المشاركة والانتماء أم الانعزال وحب الذات. من غاندي والسادات ومانديلا إلى ماو وستالين وكاسترو تتضاد الرؤى وتتنافر الوسائل، ومن قبل ذلك تباينت الغايات واختلفت إرادة الفعل.
يدعونا عيسى بيومي إلى أن نتأمل في هدوء سيرة كل من: غاندي والسادات ومانديلا، فربما نقتدي بمسلكهم الإنساني الرفيع، بينما نستخلص العبر ونعي الدروس من سير حُكَاٍم ثلاثة غيرهم خالفوا النمط الأخلاقي الرشيد وهم: ماو، وستالين، وكاسترو.
فلا شك أن الفكر القائم على قيمة الإنسان وحريته أبقى وأحق من الفكر القائم على احتقار الفرد وإذابة جدواه في محيطه الطبقي، وأن انتصار فكرة الديمقراطية على فكرة الشيوعية يعد نقطة مضيئة في تاريخ البشرية، وهو امتداد لانتصار الإنسانية على أي فكر شمولي سابق تحت مسمى النازية أو الفاشستية، كما أنه يمهد الطريق نحو أفق أرحب للإبداع والابتكار ومضمار جديد للتقدم والازدهار.
ولا تزال الزعامة المحور الرئيس لإدارة المجتمعات البشرية، ولا يزال زعماء الأمم يؤدون دورًا حاسمًا في تقدمها وازدهارها أو تخلفها وانتكاسها. والمؤسف أن يقاس التقدم والازدهار بحجم الإنتاج والاستهلاك وقوة الجيوش ومتانة الاقتصاد، ولا يقاس بالالتزام الأخلاقي والتمسك بالقيم الإنسانية، مع اشتداد حاجة البشر للأخلاق والقيم لأمان حاضرهم وضمان مستقبلهم.
لهذا كله يكتسب المثل الأعلى والقدوة التي نحذو حذوها، وكذلك الانتباه لمن يجب تجنبهم والحذر من اقتفاء سبيلهم، أهمية قصوى، لأن المثل الأعلى هو نبراس نقتدي به في سلوكنا وأفعالنا، لذا وجبت الدقة في اختياره ووضوح معاييره ومقاصده.
ومرة أخرى يتساءل عيسى بيومي: “هل يفقدنا حال الحاضر الرجاء في المستقبل؟” وبسرعة يجيب: “لا أظن!”، فربما يبرز من هو مثل: غاندي، أو السادات، أو مانديلا ليصحح المسار، لأن الذاكرة الإنسانية لا تزال حافظة تاريخها، وإرادة الفعل في أبنائها قادرة على الاختيار الصحيح حين ينتبه وعيها.
وقد صدر لعيسى بيومي على مدى ثلاثة عقود أربعة عشر كتابًا ما بين الرواية والقصة القصيرة والدراسات الفكرية والأدبية وسيرته الذاتية، ومنها كتابان صدرا باللغة الإنجليزية.