وسائل التباعد الاجتماعي
خالد رمضان| كاتب مصري – صلالة – عُمان
الاجتماعية والعزلة صفتان متضادتان لا تجتمعان، وقديما قالوا: لا يجتمع الضدان، وإذا غصنا في أغوار النفس البشرية فسنجد أن الإنسان مخلوق اجتماعي يميل إلى الألفة والتٱلف، ولا يهوى العزلة، أو التقوقع بين جدرانه الأربعة محدّثا نفسه، أو مخاطبا إياها، بل يركن إلى بني جنسه متفاعلا مؤثرا نافعا متعاونا باذلا ما يملك، وما لا يملك حتى يحقق التواصل الاجتماعي في أسمى معانيه.
ذلك التفاعل قد يكون إيجابا أو سلبا، ولا عجب في ذلك، فقد قال تعالى : ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ”
هؤلاء البشر كخلية النحل التي لكل فرد فيها دور لا يمكن إغفاله، فكأن هؤلاء الملايين من الناس يعزفون سيمفونية موسيقية متناغمة الأجراس في تناسق وانسجام يطرب له الكون بأسره .
ذلك المجتمع لا يستغني فيه شخص عن ٱخر، يخدم بعضهم بعضا، فتمتد الأيدي لخدمة الٱخرين، ويأتي الٱخرون فيبسطون أيديهم لخدمتك أنت، وهكذا دواليك.
والأسرة الصغيرة هي في ذاتها مجتمع كبير، فما هذا المجتمع إلا مجموعة من الأسر الصغيرة، فإذا تفككت الأسرة تفكك المجتمع عن بكرة أبيه.
ومن قبل كانت الأسرة كحزمة الحطب التي لم يقوَ أحد على تكسيرها، فكان الأب الذي يجلس بين أبنائه ناصحا مرشدا موجها ومصوّبا، يضفي على أبنائه البهجة والسعادة، حينما يبتسم فكأن الدنيا كلها تبتسم، تجلس معه تتأمل قسمات وجهه، ولمعان عينيه، وشعراته البيضاء التي داعبت عوارضه، تنهل من علمه وخبرته التي عاشها بحلوها ومرها، بخيرها وشرها.
أو تمازح أمك في فيوض من مشاعر الحب والحنان التي لطالما غمرتنا ونحن صغار.
أو مشاكساتك التي لا تنتهي مع أخيك الذي أخذ لعبتك، أو أختك التي سطت على ألوانك المائية.
ذلك النسيج المحكم لم يستطع الزمن أن ينال منه رغم قسوته القاسية، وصفعاته التي لم يسلم منها أحد
حتى هبطت علينا من السماء كالصاعقة الفاتكة الخارقة التي عزلت الأب عن أبنائه، والأخ عن أخيه فتراهم سكارى وما هم بسكارى.
يحمل كل واحد منهم بين أصابعه هاتفا نقالا تخترقه عيناه، فلا تسمع له ركزا، فأصبح الحاضر الغائب، حاضر بجسده، غائب بفكره وعقله وقلبه.
تراه تارة يبتسم حتى شدقيه، وتارة عبوسا قمطريرا.
فكأنه في عالم غير عالمنا، يعتريه الصمت، ويعلوه التجهم والشرود.
فضاعت ٱداب الحديث، واختفى فن الحوار، فلم يعد يصغي للمتكلم، أو حتى ينظر إليه عندما يتحدث.
فهذه الزوجة مع زوجها والجوال في يديها، وكأن زوجها لم يعد له وجود حقيقي في واقعها.
يضع أحدهم رأسه على الوسادة وهاتفه لم يفارقه، يمسي شاخصا ببصره في شاشة جواله حتى ينام وهو بين يديه، وأول عمل يعمله عند يقظته هو النظر في جواله، وما تصيده من رسائل جديدة.
بل رأيت بأم عيني هاتين وأنا جالس في إحدى النوادي الرياضية وعلى حافتي حمام السباحة زوجا وزوجته يجلسان في المقابل، تقلب الزوجة في جوالها، وكذلك الزوج يجلس معها ويقلب أيضا في جواله، وقد مضى وقت طويل ولم ينبس أحدهم ببنت شفة، بل لم ينظر إليها ولم تنظر إليه.
أين التواصل الذي يتحدث عنه الٱخرون؟
إنها حقا وسائل للتباعد الاجتماعي..تلك الٱلة الإليكترونية الصغيرة ذات الأضرار الجسيمة.
حينما ولد النبي- صلى الله عليه وسلم – أرسلته أمه ليرضع في بني سعد، وذلك ليتعلم الفصحى منذ نعومة أظافره.
ناهيك عن أضرار ذلك الجوال على الجهاز العصبي، والرؤية البصرية، والإشعاعات الضارة.
إضافة إلى تلك المواقع الهدامة التي تبث الفكر الزائف، والاتجاهات الضالة.
لا ينبغي أن نترك أنفسنا لكل ما نسمعه أو نشاهده، أو حتى نغفل عن أبنائنا وما يحيط بهم من مخاطر قد لا تحمد عقباها.
من المحتم علينا أن ننحي هذه الآلات جانبا لنقرب بيننا المسافات، ولتعود إلينا روح المحبة والوئام التي تاهت بين صراعات التكنولوجيا الحديثة.
وفي الأخير نذكر بأننا أمة وسط كما وصفنا ربنا سبحانه وتعالى فقال :” وكذلك جعلناكم أمة وسطا“. فالوسطية والاعتدال في كل الأمور حتى نحقق ما نريد، فدائما الأمر بين الإفراط والتفريط؛ كي تستقر أحوالنا، وتستقيم أمورنا فلا تزل قدم بعد ثبوتها