أدب

تناهيد

قصة قصيرة

بقلم: شرين خليل | المنصورة – مصر

أقبل الليل وبدأ السكون يعُمُّ المكان .
لا اسمع إلا تناهيد مليئة بالآلام ..
في كل تنهيدة حكاية مختلفة،
تختلف عن بعضها في الأحداث ولكنها تتفق في النهاية ..
النهاية التي ألقت بهم جميعاً في هذا المكان ..
منهم من جاء بناءاً على رغبته ومنهم من جاء رغماً عنه .
وجوه شاحبه وعيون باكية ..
تدفن رؤسها في الوسادة لكي تُخفي مدامِعها ..
فعندما يأتي المساء تأتي معه الذكريات التي تعزف على أوتار القلوب الواهنة ألحانها الحزينة.
انطفأت الأنوار، وأُغلقت الأبواب ماعدا باب واحد لم يُغلق..
باب الغرفة التي تجلس فيها سيدة تجاوزت الخمسين من عمرها أحضرها زوجها السابق وحجز لها غرفة خاصة في هذه الدار الخاصة برعاية المسنات.
منذ عملي في هذا المكان وأنا أحاول أن أعرف قصتها وما الذي جعلها على هذه الحالة؟
كل ليلة تجلس بجوار النافذة تتحدث مع نفسها.
طرقتُ الباب ودخلت ،
طلبتُ منها أن تغلق النافذة فالجو شديد البرودة ..
نظرة إليّ نظرة أرعبتني فأسرعت بالإعتذار إليها ولكنها سرعان ماتبدلت هذه النظرة إلى حزن شديد وقالت : أنا لا أشعر بالبرد فهذه الرياح الباردة لاتُطفئ نيران قلبي فأنا أجلس هكذا حتى يغلبني النعاس ولا أشعر بشئ سوى الندم ..
-أنا هنا لرعايتك وسوف اجلس بجانبك حتى يغلبك النعاس ..
أغلقتُ النافذة وجلستُ بجانبها وجاءت الفرصة لكي أسمعها واجعلها تحكي مابداخلها فهي تحتاج لمن يسمعها.
وبدأت تحكي : نشأت في أسرة تمتاز بالأنانية المُفرطة، أمي لاتعرف معنى العطاء،لا تعرف سوى الأخذ وحب التملك تزوجت أبي وهو متزوج من أخرى ولديه أبناء وكل ذلك بسبب حبها للمال.
أبي أيضاً مثل أمي تزوج أرملة أخيه بموافقة أمي لكي يستولى على الميراث..
لم تنجب أمي سوانا أنا وأختي ولذا تريد كل شئ لنا ..
فرقت بين أبي واخوتي وزرعت بداخلنا الكره لهم.
كبرنا ونشأنا أنا واختي على تعليمات أمي.
تزوجت أختى،
أما أنا فكان لي زميلة في الجامعة يُحبها الجميع لحسن خُلقها، اسمها ليلى..
تمت خطبتها إلى شاب معروف في المدينة بالثراء.
لديه شركة سياحة واسمه عادل …
تساءلت لماذا لا يكون حظي مثلها؟ أنا أجمل منها، واهتم بنفسي جيداً..
فلماذا اختارها؟
اقتربت منها وأظهرت لها حبي الشديد فأنا أؤمن بمبدأ ” مجاورة السعداء تجلب لنا السعادة”.
أصبحت صديقتها المقربة وكانت ثمرة صداقتي لها هي زواجي من عماد الأخ الأصغر لزوجها ويعمل معه في السياحة..
إنسان حنون ولكني أراه ضعيف،لايستطيع اتخاذ أي قرار بدون اللجوء إلى اخيه ..
والد عادل مريض
وعادل من يقوم برعايته وإدارة جميع الأعمال …
عادل هو صاحب الحظ الأوفر الجميع يحبه ويحب زوجته.
أما أنا فلا أحظى بهذا الإهتمام..
مرت الأيام و
أنجبت ولد، أما ليلى فلم تُنجب بعد ..
اعتقدت أنني بعد انجاب الولد الذي تنتظره العائلة سيكون لي مكانة خاصة بين الجميع ولكن لم يحدث ذلك ولم أجد أي إهتمام..
أنجبت طفل آخر ولد أيضاً ولكنه مُصاب بالتوحد
ملأ الغضب قلبي، أكره النظر إليه واخجل من وجوده ولا أريده في حياتي ..
طلبت ليلى مني أن تقوم برعايته رعاية كاملة في بيتها ..
وافقت ولم يعترض زوجي فهو يرى أن ليلى أفضل مني ..
أما أنا فلا أهتم إلا بنفسي.
وجاء اليوم الذي انتظرته كثيراً وهو وفاة والد زوجي، أخيراً سنرث الأموال والأراضي والشركات ..
تم تقسيم الميراث ماعدا الشركات وفاجئني زوجي بأن الشركات هي من حق أخيه ومن أمواله الخاصة ..
لم أصدق كلامه ذهبت إلى والدته وأخبرتني أنه يقول الحقيقة وأن عادل
أنشأ الشركة وجعلها باسم والده لكي يرفع من روحه المعنوية ولم يبخل على عماد وجعله المسؤل عن الفرع الجديد .
لم يكن الميراث كما توقعت لأن والد زوجي باع جزء كبير من الأراضي وأنفق الكثير من الأموال بسبب مرضه.
لن أقف مكتوفة الأيدي، فإذا لم تكن الشركة ملكي فلن تكون ملكاً لأحد.
رفضت السفر مع زوجي للإقامة في الإسكندرية لمتابعة الفرع الجديد وتركته يسافر بمفرده وتفرغت لإشعال الفتنة بين عادل وليلى.
أرسلت إلى ليلى رسائل مجهولة الهوية أخبرها بأن والدة عادل تكرهها لأنها لم تنجب وتحاول إقناع عادل بأن يتزوج من إمرأة أخرى..
بدأت نفسية ليلى تتأثر وتمرض وعادل يذهب بها إلى الأطباء ويحاول إقناعها بأنه لن يتركها حتى لو لم تُنجب أبداً..
وحدث مالم يكن في الحسبان،
أخبرتني أختي بأنها ذهبت إلى الإسكندرية لقضاء إلاجازة ورأت زوجي بجانبه إمرأة في السيارة ..
جن جنوني فكيف يجرؤ على فعل ذلك ..
راقبته وكانت الصدمة أنه تزوج من إمرأة أخرى..
طلبت الإنفصال بهدوء حتى لا الجأ إلى القضاء.
تم الإنفصال بعد محاولات كثيرة لتهدئة الوضع…
لابد أن أُلقن عماد درس لن ينساه أبداً..
وسأنتقم منهم جميعاً…
ذهبت إلى ليلى لأطمئن على ابني وطلبت من عادل أن أعمل سكرتيرة في الشركة فأنا احتاج إلى العمل.
وافق عادل وبدأت العمل معه وأنا أرتدي ثوب الضحية ..
وفي يوم أشعلت النيران في بعض الأوراق وخرجت من الشركة، اشتدت النيران وبدأت تلتهم كل شئ وتصاعدت الأدخنة.
خرج عادل من مكتبه في حالة فزع شديد يحاول إنقاذ مايمكن إنقاذه.
علم الجميع أنني من أشعلت النيران
طلب مني عادل الإبتعاد عنهم والإختفاء من حياتهم وإلا سيتخذ ضدي الإجراءات القانونية..
ابتعدت عنهم وتركت أولادي.
تزوجت من رجل أوهمني انه لا مثيل له وكان أكبر أكذوبة.
يسلب مني الأموال بالقوة وإذا رفضت أتعرض للأذى اللفظي والبدني وكأنه جاء لينتقم مني.
استمرت حياتي معه سنوات من العذاب..
وفي يوم رفضت أن أعطيه المال،
قام بإشعال النيران في غرفة المعيشة.
دخلت المطبخ وأحضرت سكيناً وطعنته طعنة ليست نافذة ولكنها أصابته إصابة بالغة.
ثم خرجت مسرعة لطلب الإستغاثة. تجمع الناس في هذه اللحظة وقاموا بإطفاء النيران، وإنقاذه.
انتهى بي الحال في السجن وتم تخفيف الحكم لأنني كنت في حالة دفاع عن النفس.
أيام وليال مريرة لا أحب أن اتذكرها ..
اليوم يمر وكأنه عام من الذل.
أدركت وقتها أنه لن يفلت أحد من العقاب .
والنار لن تحرق إلا من أشعلها ..
خرجت من السجن منهزمة،وحيدة،
أولادي أنكروا وجودي وتخلى عني الجميع ..
فلقد طمعتُ في كل شئ وخسِرتُ كل شئ .
أحضرني عماد إلى هنا لكي أجد من يرعاني ويهتم بي.
والآن اتركيني فأنا أريد أن أنام نوماً عميقاً ولا استيقظ منه ابداً ..
تركتها وخرجت اسير ببطء في الطرقة ..
انظر إلى الأبواب وأقف بجانب كل باب فلقد غلبهم النعاس واختفى صوت التناهيد.
وفي صباح اليوم التالي سمعت أصوات بكاء ونحيب ذهبت مسرعة لأجد الجميع يبكى بجوار هذه السيدة فلقد توفاها الله فهي تمنت أن لا تستيقظ من نومها.
أيقنتُ وقتها أن هذه الدنيا لا تستحق منا كل هذا الصراع فهذه السيدة أغرقت نفسها في اللاشئ وعاشت في زيف ووهم والنهاية ندم وألم ..
رحلت عن عالمنا وجاءت سيدة أخرى لِتُقيم في نفس الغرفة.
ويأتي المساء ويسود الصمت ويعلو صوت التناهيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى