المنهج القرآني العقلي في إقامة التوحيد

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

قد يختلط على كثير من أهل الإيمان قضية (التوحيد) بين التصديق العقلي، والإيمان القلبي، وقد يعزي البعض (التوحيد) إلى أمر مبهم غير متبين كحال كثير من عقائد المبطلين؛ هذي الدعاوى التي يغيب فيها العقل،  ويغلب فيها (العمه)؛ يعطل فيها التبصر والتساؤل والجدل، ويعمل فيها الإذعان والإصغاء للأوصياء والسدنة أن: “أغمضوا أعينكم، وأوقفوا عقولكم .. واصغوا فقط لصوت الضمير من داخلكم” ..

هذا المنطق الذي في حقيقته (لا منطق)، والعقل الذي هو في حقيقته (لا عقل)، حين تعطل عن العلم أدوات العلم وحواسه، ويغيب الفهم عن أهم قضية في الوجود ؛ فأي إيمان يترتب عليها بعد ذلك، وأي هدى نهتدي به؟ !!.. بل أي إله هذا الذي لم نعرفه حتى نسلم له قيادنا فيأمرنا وينهانا دون أن نصغي إليه بعقولنا أولا؛ بل دون أن يسقط هذه الوصاية والقوامة (للسدنة) بيننا وبينه، فيقربنا ويدنينا ويخاطبنا، ويحدثنا هو عن وصفه:  قوته وقدرته، وخلقه وإماتته ، ورحمته وعذابه ، وأسمائه وصفاته .. فأين يكون هذا إلا عند قوله” وإذا سألك عبادي عني فإني قريب” (البقرة). ففي الإسلام لابد من تصديق بالعقل وإيمان بالقلب، ثم عمل بالجوارح.

يقف القرآن على هذه القضية طويلا، فيجعلها مدار حديثه من مفتتحه إلى منتهاه، يناقش فيها العقول بالعلم ، ويقيم عليها الحجة من بين يديها ومن خلفها، ومن داخل فطرتها القويمة السوية، ومن خارج الكون والوحي المنزل.. يدحض فيها حجج المبطلين، ومنطق الجاهلين، ومزاعم الضالين، ومذاهب المنحرفين.. وينسف ما سبق من عقائد الكفر، ومزاعم الشرك، ويقيم الحجة على هيمنة عقيدة التوحيد (لا إله إلا الله)، فلا يدع للعقل السوي عنها مهربا أو مفرا، ولا يجيء العقل في غيرها بمثل أو حجة إلا فندها، ثم جاء بالحق وأحسن تفسيرا.

كذا يعمد إلى أسباب الشرك والكفر التي اجتالت أفكارها ومذاهبها الأمم من قبل نزوله، وما طرأ على عقيدة التوحيد الأصيلة ــ من حيث الفطرة والمنهج ــ فغير أصلها، وشاب معينها، وكدر صفوها،  فانحرف بها عن جادة الصراط، و سبيل المؤمنين السابقين.. ويؤكد أن هذا هو صراط المهتدين المستقيم من قبل، حتى اجتالت الشياطين  أسلافهم فغيرت الملة، وحرفت العقيدة وبدلوا دين الفطرة “ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)” (البقرة).

وهذا المنطق القرآني يستأنس ويستمسك بالبعد التاريخي الذي يقطع بأن الملة كانت من لدن آدم حتى مبعث نوح على ملة واحدة هي ملة التوحيد، على شريعة الحق والهدى فاجتالتهم الشياطين حين طال عليهم الأمد فعمدوا إلى صور الصالحين فعظموها حتى أتى من بعدهم فعبدوها ..

كذا نجد القرآن يفرق بين توحيد(الربوبية) الذي لا تنكره فطرة المعاندين أو الكافرين، والذين هم عليه مقيمون، وبه مقرون رغم شركهم  ودعوتهم مع الله آلهة أخرى ، وبين توحيد(الألوهية).. هذا الذي لا نبالغ أن نقول أن:  أهل الجاهلية كان بعضهم أشدا فهما، وأكثر وعيا لمعناه من بعض المؤمنين به الآن، والمتبعين اليوم لملته ..

ولو لم يعلم أهل الجاهلية مقتضيات كلمة التوحيد التي جاءهم بها الرسول، لكانوا أسرع الناس إلى قولها، حين دعاهم صلى الله عليه وسلم بها إلى عزهم وذكرهم، وأن تدين لهم بقولها (العرب والعجم).. لكنهم لما علموا مقتضات التسليم واستحقاق العبودية، فلم يقروا بها ، بل قالوا “ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7 ) (ص).

هذا المنطق القرآني الذي لا يداهن ولا يحابي، ولا يعرف كما يقولون(أنصاف الحلول)، ولا الألوان المتماهية، ولا العقائد المذبذبة،، إنما جاء بها بيضاء نقية كالشمس في وضح النهار، لا ينكر نورها إلا من بعينيه رمد، وبنفسه سقم .. ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة.. يقرب الضعفاء ويدنيهم إن أقبلوا، ويقلي العظماء ويتبرأ منهم إن أعرضوا واستكبروا..  لا يأبه لمعرض مهما كان خطره، ولا يهمل مؤمنا مهما حقر شأنه “عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)” (عبس).  

هذا المنطق يدلي بحجته قارعة للنفوس والعقول، ومبهتة للحجج من دونها والبراهين، ثم لا يقف عند ذلك موقف المتغلب وفقط، حتى يستدعي من كل عقل خبيئته وخلاصة ذهنه، ويستلهم من كل فكر قريحته، وجهد نفسه، أن يأتوا من عندهم بما يدحضون به حجته إن استطاعوا ,, أويدفعوا ببرهان من عندهم على غيره ..

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)”(الأحقاف)..

“فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)” (المؤمنون).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى