الرواية بوصفها حاملة ثقافية للتغيير
فراس حج محمد| فلسطين
تلعب شخصية المثقف دوراً محورياً في الرواية؛ كونها جنساً أدبياً وسائليا ورسائلياً، بمعنى أن الرواية استُخدمت من أجل التوعية على القضايا المصيرية منذ نشأتها وحتى اليوم، سواء أكانت في الشرق أم في الغرب، لكنّ الرواية العربية اتصلت أكثر بقضايا النهضة والتطوير منذ مطلع القرن العشرين، وشاعت شيوعاً كبيراً، ومع الوقت أخذت تحلّ محل الشعر في دورها التثقيفي التوعوي، فأدى ذلك إلى انطفاء وهج الشاعر، وسطوع نجم الروائي الحامل لهذا الهمّ.
فالرواية ليست حكاية وقصة فقط، وإن كانت الحكاية ضرورية فيها، إلا أنها مع هذه الحكاية تحمل أفكارا سياسية في الدرجة الأولى، على اعتبار أن كل فكرة مهما كان وصفها فهي في النهاية ذات مآل سياسي، فالأفكار الاجتماعية والثقافية كلها ذات أبعاد سياسية، ولا بد من أن يكون لها هذا البعد، على اعتبار أنها قضايا ذات اتصال بالإنسان في مجتمعه، وتتحدث بصورة أو بأخرى عن إدارة شؤون نفسه، أو إدارة شؤون الذات مع الغير، أو الغير مع الغير، وهذه الإدارة في المفهوم الواسع لها معنى سياسي ومعنى ثقافي مجدول بها على نحو يصعب الفصل بينهما، فالمجتمع حتى يتخذ هذه الصفة، لا بد من أن توجد فيه ثقافة ما، وشكل ما لعلاقة تحكم أفراده، لُحْمة هذه العلاقة الإدارية تتخذ طابعا سياسيا، إلا إنها ذات أداة ثقافية أيضاً. فالثقافة والسياسة- إذاً- في اتصال دائم، فلا ثقافة بلا روح سياسية، ولا سياسة بلا غلاف ثقافي، فالمسألة جدلية بين الأمرين، وبهذا الوعي المعمّق تشكّل الرواية حاملاً للوعي العام المترجم سياسيا وثقافيا، يتجسد في التعبير عن المواقف، بالفعل الثقافي، أو بالقول الأدبي، أو بالرسم، أو بطريقة العيش، وحتى ما يستخدم من أدوات، وما يشيع من أفكار كلها مشبعة بالروح الثقافي.
إنه لمن البديهي أن أقول: إن السياسة والثقافة ارتبطتا معا منذ النشأة الأولى لقصائد المديح التي أنشأها الشاعر- بوصفه مثقفا- فتلك القصائد جاءت من أجل هدف سياسي، وهو مغازلة السلطة السياسية، وكذلك الهجاء التي قدمه الشعراء كان ذا وجه سياسي أيضا، كان منطلقه “العصبية القبلية” عند عرب الجاهلية، ثم تطور ليأخذ شكل الهجاء السياسي عند مناوئي بني أمية من الخوارج على سبيل المثال، وصولا إلى المتنبي، وهذه مجرّد أمثلة لا غير، ومن يستعرض التاريخ الأدبي لقصائد المدح والهجاء سيرى البعد السياسي حاضراً، ولم يسلم منها أيضا شعراء المديح النبوي، هؤلاء الذين رأوا رأيهم في واقعهم السياسي، فاتجهوا نحو المديح النبوي للتعريض بالواقع المعيش بطريقة شعرية ثقافية.
ليس الشعر وحده ما كانت له هذه المهمة السياسية، فأخبار التاريخ وحكايات القصاصين والأساطير والحكايات الشعبية، وكتاب كليلة ودمنة- مثلاً- ذو الطابع القصصي المنظم على هيئة مخصوصة، هذا التراث القصصي في واقع الأمر كان قصصا سياسيا.
هذا التوصيف ينطبق انطباقا كبيرا على قصص ألف ليلة وليلة التي ترسم ثنائية الديكتاتور والمثقف، أو السلطة والمثقف، لأنها استطاعت أن تجابه الحاكم المتسلط بالثقافة، أو بأحد فروعها أو أشكالها (غلاف ثقافي) ألا وهو القصّ/ الرواية؛ فشهرزاد لم تكن مجرد امرأة تتقن القص/ الحكي، إنما كانت امرأة تتقن اللعب على وتر الثقافة ذات البعد السياسي، ولذلك لا يصحّ أن نفهم ألف ليلة وليلة على أساس أنها فقط قصص متوالية للتسلية والترفيه أوقات الفراغ فقط. فقد شكلت هذه القصص منفذا ومهربا ومنجاةً للمثقف/ المرأة من مصيرها المحتوم وهو القتل، وهذا له معنى سياسي كبير، وثقافي أعمق، خصوصا عندما يصل القص إلى مرحلته الأخيرة، فتكون النتيجة “التغيير”، هذا التغيير الذي يطلبه المثقف ويلحّ عليه، ولا يكون لحياته من معنى دون هذه النتيجة.
لقد شكّلت “رواية” ألف ليلة وليلة نوعا من المقاومة، وأسفرت عن وجه من وجوه الصراع البشري ضد السلطة المتحكمة، هذا الصراع لزمه ألف ليلة وليلة، أي ما يقارب من الثلاث سنوات، ولم يتخذ شكل الصراع العنيف الدموي، إنما كان هادئا سلساً، لا شك في أنه مصحوب بالخوف والترقب من كلا الطرفين، المثقف/ شهرزاد، والسلطة/ شهريار إلا أنه ظل يتفاقم بنوع من الهدوء الذي اتخذ من الليل ظرفا مناسبا له، برمزيته العالية التي تشير إلى عملية التغيير نفسها التي تتم بهدوء دون أن يلاحظها أحد، عدا أن سببها الظاهري محكوم بالعلاقة بين طرفي القص؛ القاصّ/ شهرزاد الزوجة، والمقصوص عليه/ شهريار الزوج.
تحمل هذه الثنائية أيضا رمزية أخرى تومئ إلى ضرورة التعايش، فالطرفان المحكومان بعلاقةٍ، الأصلُ فيها أنها ودية، وهي الزواج، إلا أنهما أيضا محكومان بعلاقة أخرى تقوم على إقصاء السلطة للطرف الآخر بعد الاستمتاع به، وهذه كذلك رمزية ثالثة، طباقية المعنى (حسب مصطلح إدوارد سعيد)، لأنها متعددة ومركبة ومعقدة في الآن ذاته.
تشير هذه المسألة إلى أن “الرواية” أو القص يختلف عن الشعر، ففي المجتمعات المستقرة عادة ما تحتاج التحولات إلى وقت طويل، وغير عنيفة، وإن كانت محتدمة فكريا، هذا الاحتدام يلزمه نوع من الأدب مغاير عن الشعر، ربما هذا يفسر بشكل أو بآخر شيوع المسرحية عند اليونان، فقد تشكّل في بلادهم مجتمع مستقر، وكانت فيه الفلسفة على أشدها، فلا بد من هذا النوع من الأدب، فتراجع لديهم- أو هكذا أتصور- الشعر الغنائي الذاتي، واتجه المؤلفون إلى المسرحيات والشعر التمثيلي، وكان لهذه المسرحيات تجسيد على خشبات المسارح، وكان لها مشاهدون يتفاعلون معها إيجابا وسلباً.
تومئ التجربة الإنسانية إلى أن الشعر أبو الاستجابة اللحظية القائمة على العاطفة الخارجية، أما الرواية فهي الشكل الأدبي الأكثر عمقا في التفكير والتأمل وبناء الأفكار وتغييرها، ويلزمها امتداد تاريخي على مستوى البنية النصية المتواصلة، وهذه ليست متوفرة للقصيدة الشعرية، فهي لحظية النشأة والهدف، ولا يمتد الزمن فيها على مستوى البنية نفسها، ولهذا تحولت المهمة الثقافية التي كانت تتغيا سياسيا التحشييد العاطفي في المجتمعات القبلية القائم على الشعر إلى الرواية القائمة على المناقشة والعرض وتعدد الأصوات، لتقابل المجتمع الذي تحول من مجتمع أحادي القبيلة والعرق إلى مجتمع متنوع ومتعدد، وهذا التنوع والتعدد يلزمه نص أدبي يتساوق وينسجم معه، فكانت الرواية، أو ما يقرب من الرواية من أشكال أدبية.
بناء على هذه الفرضية، أعيد التفكير بالقرآن الكريم وظروف نزوله التاريخية والاجتماعية الثقافية. يعد القرآن عملا فكريا اجتماعيا فاصلا بين مرحلتين في حياة العرب، مرحلة قائمة على الحرب والتشظي والنزاع القبليين، والأحادية في النظرة؛ على الرغم عن تعدد الآلهة لديهم، وبين مرحلة ستكون متعددة الأفكار والأعراق على الرغم من الوحدانية الدينية، فلا يصلح الشعر أن يظل شكلا أدبيا سيّدا؛ لأنه ابن مرحلة يعمل القرآن الكريم على إماتتها، فجاء شكلا أدبياً بين الشعر وبين الرواية، لأنه يريد أن ينقل العرب من طور الثقافة القبلية المتمحورة حول الذات والعاطفة الفردية إلى طور الاستقرار المجتمعي القائم على العقلانية والتفكير والتأمل والحس الجماعي، لذلك امتلأت آيات القرآن الكريم بالحث على العلم والتبصر والتفكر والتفكير كنوع من الاشتغال الذهني على البنية للفرد العربي أو المسلم، كما امتلأت السُّوَر بالقصص التي هي مقدّمة أدبية ذات شكل روائي، كما اشتملت الآيات على الأخبار، كنوع من الاشتغال الجمعي، وكل هذه الأنساق الثقافية استخدمت من أجل إعادة تشكيل الأمة بنص مؤثر وقويّ، فكان القرآن الكريم الذي تضمنت آياته كثيرا من العناصر الشعرية، لكنها أدخلتها في سياق روائي- نثري، ولم يكن من بد إلا اتخاذ هذه التقنية التعبيرية، لأن المهمة ليست سهلة، فنقل المجتمعات من حال إلى حال يلزمه الصبر وطول النفس وتغيير الأداة، وأقصد هنا أداة التعبير التي هي أداة التغيير كذلك.
أحاول أن أضرب مثلاً معاصرا قريباً آخر بشيوع الرواية في الأدب الفلسطيني بعد اتفاقيات السلام/ أوسلو (1993)، لأن المرحلة أصبحت مرحلة بناء سياسي (رفضنا ذلك أو أيدناه هو هكذا)، هذا البناء يلزمه النقاش والمراجعة، والتحول من مجتمع مقاتل ومتحفز للقتال إلى مجتمع يبني دولته ومؤسساته، وكأنه انتقل من الطور المجتمعي القائم على التهييج العاطفي للفدائي في المعارك والحث على القتال إلى طور الهدأة والتأمل من أجل هذا البناء السياسي.
ونجحت الرواية باعتقادي في طرح جميع الأسئلة المتعلقة بهذه المرحلة، فتراجع الشعر، وتحوّل العديد من الشعراء إلى كتابة الرواية، لأن طبيعته لا تتيح له مثل هذه المناقشة، ليعود الشعر مجددا ليتصدر المشهد في ظل الحرب الأخيرة الناشبة في قطاع غزة، فمعركة طوفان الأقصى أعادت الروح الثورية التي تحتاج إلى التزود العاطفي المستمر واليومي، فولدت مئاتُ القصائد وعشرات الدواوين الشعرية والأعمال الغنائية ذات الإيقاع السريع التي تبغي في جزء منها إلى التغني بالمقاومة وأعمالها، وتحفّز الآخرين لأن ينضموا إلى ركبها، فالمعمعة تحتاج إلى مثل هذا الاهتياج العاطفي والإيقاعي، فتراجعت الرواية لصالح الشعر، وإن كان تراجعاً محكوما بهذه اللحظة الطارئة التي لن تستمر إلى ما لا نهاية بطبيعة الحال لتعود الرواية إلى طرح أسئلتها حول ما خلفته الحرب من نتائج، لأن تلك الأسئلة لن يكون بمقدور الشعر طرحها والإجابة عليها بهدوء وعقلانية لأن مهمته ليست هذه.