معرفة أقدار الناس أسهل الطرق لصيد القلوب

د. عادل المراغي | القاهرة

من أسرع الطرق وأسهلها إلى غزو القلوب وصيدها أن نعرف أقدار الناس ، فننزلهم منازلهم ، ولذا كان توجيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبادة بن الصامت أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه ) رواه أحمد والطبراني .
ومن مفاتيح قلوب الخلق أن نعطي الكبير قدرة ، وصاحب السلطان قدره ، وذا الوجاهة قدره ، وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم قلب أبي سفيان لما أعطاه قدره ولم يكن أبو سفيان بن حرب رجلاً عاديًّا من رجال قريش ، لكنه كان من الرجال المعدودين الذين يُشار إليهم بالقوة والزعامة وحسن القيادة ، ولقد اصطاد النبي قلبه لما أنزله منزلته وساوى بين بيته وبين البيت الحرام في الأمن ، روي عن الْعَبَّاسُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، قَالَ: نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، ) رواه مسلم .
كما فتح النبي صلى الله عليه وسلم قلب عدي بن حاتم سيد قبيلة طيئ بحفاوة الاستقبال
لماقدم عليه في وفد من قومه وكان نصرانيا فمضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله إلى بيته وتناول وسادة من أدم حشوها ليف فطرحها وقال له اجلس عليها فقال بل أنت فاجلس عليها يا رسول الله فجلس رسول الله في الأرض وأجلسه على الوسادة ثم لم يزل يكلمه ويعرض عليه ما في دينه النصرانية مما أحدثوه فيه من الشرك ويعرض عليه الإسلام ويخبره أنه دين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار وأنه لا يبقى عربي إلا دخل في طوعا أو كرها فقبل عدي الإسلام وأسلم وحسن إسلامه وتبعه قومه فأسلموا وحسن إسلامهم . ( ابن عبد البر : الدرر في اختصار المغازي 256).
ولما وقعت سفانه أخته في الأسر وكانت فصيحة ، فقالت :” يا محمد إن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب فقد هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علي منّ الله عليك ، فإن أبي كان سيد قومي ، يفك العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ويحمل الكَلَّ (الضعيف) ، ويعين على نوائب الدهر ، وما آتاه أحد بحاجة فرده خائباً ، أنا بنت حاتم الطائي ” فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلبها إكراما لأبيها قائلاً : ” قد فعلت ، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك “
وقد أنزل النبي صلى الله عليه جرير بن عبد الله البجلي منزلته وأعطاه قدره رغم أنه شاب ولكنه كان سيد قومه فدخل عليه جرير والمسجد غاص مكتظ بالصحابة ، فلما لم يجد مكانا يجلس فيه ألقى إليه النبى صلى الله عليه وسلم رداءه ليجلس عليه ، فأخذه جرير فضمه وقبله ، ثم رده على النبى وقال : أكرمك الله يا رسول الله كما أكرمتنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا أتاكم كريم قوم فاكرموه ” رواه الطبراني .
ومن سوء الأدب أن نعامل الناس جميعاً سواء ، فالعالم له قدره ، والكبير له قدره . قال تعالى : (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) .
وأشياء الناس إما (حسية) وهي الأموال وإما (معنوية) وهي الجاه والألقاب ، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة الناس بألقابهم فمن لم يكن له لقب كناه كما كني السيدة عائشة رضي الله بأم عبد الله وهو عبد الله بن الزبير ابن أختها ، ولما أرسل كتبه إلى الملوك والأمراء لم يسحب الألقاب منهم رغم كفرهم تطييبا لخواطرهم وتأليفا لقلوبهم فخاطب ملك بقوله : ” من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ” ، وخاطب كسرى بقوله: ” من محمد رسول الله إلى كسري عظيم الفرس ” ، كما خاطب عظيم مصر بقوله ” من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط “.. وهكذا .
ومما يدل على معاملة الناس تختلف حسب الأقدار ، أن عائشة رضي الله عنها ( مرّ بها سائل فأعطته كِسرة، ومرّ بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك ، فقالت : ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم) ” رواه أبو داود .
ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل وإنما يكرم الكريم الكريم .
ومن الصور المضيئة في تاريخنا الإسلامي أن خالد بن الوليد لما دخل الحيرة زار هند بنت النعمان في الدير، وعرض عليها الإسلام ، فاعتذرت بكبر سنه عن تغيير دينها، فأمر لها بمعونة وكسوة، فقالت: “ما لي إلى شيء من هذا حاجة، لي عبدان يزرعان مزرعة لي أتقوت منها، ودعت له “. ولما خرج جاءها النصارى فسألوها عما صنع بها، فقالت : ” صان لي ذمتي وأكرم وجهي ، إنما يُكرم الكريمَ الكريمُ ” .

ومعنى إنزال الناس منازلهم، أن نعطي كل واحد قدره بما يلائم حاله من سن أو دين أو علم أو شرف ، وقد عد العلماء هذا الحديث من الأمثال والحكم . ومما أدب به المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- أمته من إيفاء الناس حقوقهم ، من تعظيم العلماء والأولياء ، وإكرام ذي الشيبة وإجلال الكبير، وما أشبهه.
وفي نفس الوقت أمرنا بعدم احتقار من هو أقل مكانة أو قدرًا، فقال صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: ” ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حقَّ كبيرنا” .
وعبارة “ليس منّا” تشير إلى أنّها كبيرة ، من مقاييس الكبائر أن يتبرّأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نسبة ،ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في تقدير كبير السن وذلك عندما أسلم أبو قحافة والد الصديق رضي الله عنه يوم فتح مكان، وكان شيخاً كبيراً ، أتى أبو بكر رضي الله به يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ” هلاّ تركتَ الشَّيْخَ في بيته حتى آتيه؟ ” فقال : ” يمشي هو إليك يا رسول الله أحق أن تمشي إليه”! فأجلسه بين يدي رسول الله، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: “أسلم تسلم”، فأسلم، وهنأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بإسلام أبيه .
وإذا أردنا أن نبني جسورا للتواصل بين الناس وأن نزرع ورود الحب فلابد من تقدير الناس وإنزالهم منازلهم ، ولا تجرد أحداً من لقب أفنى فيه عمره ولا يغرنك قول الحمقي الناس جميعاً سواء .
و‏من كان الناس عنده سواء
فليس لعلته دواء …
والله تعالى فاضل بين الناس في الزرق والجاه ، فمنهم الغني ، ومنهم الصعلوك ، ومنهم الملك ومنهم المملوك ، وليس من الأدب أن نعامل الملك كما نعامل الخادم ، وليس معني هذا احتقار الخادم أو التنقيص من قدره .
وحتى نغزو قلوب الناس لابد من مراعاة مقادير الناس ومراتبهم ومناصبهم ، وتفضيل بعضهم على بعض في المجالس وفي القيام وغير ذلك من الحقوق ، وأن نعامل كل أحد بما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى