فنون

محمد حافظي نَحْو شعْرِيَّة مَعْدِنِيَّة

بقلم: بنيونس عميروش

تقوم إنْجازات محمد حافظي على تَراتُبِيَّة تَوْليفِيَّة لعناصر الشَّكل واللون والخط، ضمن مُراوَحَة تَدْريجية ومَرِنَة بين التصوير La peinture والنَّحت الذي صار يطبع أعماله الأخيرة أكثر فأكثر، بل بطريقة صَريحة،لكونها تنتمي إلى مُصَنَّف النَّحت النّاتئ (أو البارز) Le relief، بحيث تندرج أشكاله في مُسَطَّحات بعُمق مُتَغيِّر، بينما تُشكِّل مرحلَة وُسْطى بين التصوير والنحت المُحَدَّب La ronde-bosse، وتُمثل تشْكيلا يُقْرَأ كما تُقْرَأ اللوحة. وهنا، نحن بصدد النُّتوء المُنْخَفِض (أو الخفيف نسبيا)، إذ يتقدَّم الشَّكل (المادّي) خارج السَّطْح بالارتفاع الذي يرسم ظلال الحَواشيوالتَّحْويطات، في الحال الذي يتخذ فيه الشكل صِفَة الحَجْم Volume بناءً على البُعد الثالث الكامِن في درجَة السُّمك.


في عملية تَتَبُّع النَّهْج التأليفي، بالرجوع إلى أعمال سابقة، نُشير إلى أن مُعالَجَته البصرية التي تَضَع المُفردات التَّشْكيلية على قَدم المُساواة،إنما أتت بِحَسب منطلق تسلسُلي واضح المعالم، بداية بِالتركيز على عنصر اللون الذي يدفع بالشكل إلى الواجهة، فيما تَنْطَبِع المَظْهَرِيَّة الكروماتيكية وتدرُّجاتِها الضَّوئِيَّة بدينامية ملحوظَة، بقدر هائل من النَّقاء، من الألوان الخالصة المُدَوْزَنَة، إلى الرماديات Les gris colorés ذات الكُمْدَة المَحْسوبَة، بعيدا عن كل بهرجَة مجّانيَّة وعن كل ارتجال، لتتحدَّد الأشكال وتتناغم التَّراكيب الحَيَّة ضمن التناغم المَرئيبين المُستقيمات والمُنْحَنَيات والتَّقاطُعات والفراغات المُتفرِّقَة بدقة مُتَناهِيَّة.
في هذه المجموعة الجديدة، يضعنا حافظي في مقام الوَسَط، بين المُنْجَز السّابق وما يُضْفي عليه من تنويعات مَشْهَدِيَّة تجريديَّة جذّابَة، بينما يُقِرُّ باكْتِمال المَيْل التّام نحو الصَّلابَة والمادَّة المُخْتارَة والكُتْلَة المُسَطَّحة عموما، وفق هندسِيَّة باذِخة، تقوم على تقنيات التَّقْطيع والتّفْصيل والمَزْج والدَّمج والتَّوليف والتَّثبيت،بينما تتنوع المواد من الفولاذ غير القابِل للصدأ، بما فيه الصَّفائِح المعدنية، الصفائح المعدنية المَخْرومَة، الأنابيب المُستطيلة، الإينوكس المُسَطَّح، القُضْبان المُستديرة، الكابْلات، إلى الألمنيوم والبرونز والنُّحاس الأبيض والأسلاك المعدنِيَّة والمُشَبَّكات. ولذلك، تتَّخِذ الأعمال صِبْغَة مَعْدنية، بين الكُمْدَة واللَّمَعان، بين الرَّمادي الفِضّي وأصفر النُّحاس وأحمر البرونز. غير أن ذلك لا يمنع من انبثاق اللَّوْن الخالص في أوج ألقِه؛ أحمر، أصفر، أخضر، أزرق، أبيض، أسود، عبر مساحات، وداخل توافقات وتَضادّات صارخة.
في مُقابِل التشكيل الهندسي، تتخَلَّل الصَّفائح الصَّلْبَة تقطيعات مَنقوصَة تُحَدِّد فراغات لتَرْسيمات عُضْوِيَّة تتناغم مع التسطير الخطّي للأشكال، بحيث يتخذ الشكل الحاضِن مظهرا مزدوجا بين الخارج (إحاطَة الشكل) والداخل (إحاطَة الفراغ)، بينما يتنامى العُمق وفق تَرْتيبات وتَراكُبات (Superposition) الطَّبَقات المادّية، ضمن لعب توليفي يقوم على معيار تركيبي موزون بصريا، طبقا لإجْراءات التَّحْريك السَّلِس للعناصر،على مستوى السَّطح (النَّسَق البصري للتكوين العام) وعلى صعيد البُروز (النَّسَق التّراكُبي للوحدات)،مع الأخذ بالحُسْبان ما تُحدِثُهالتَّراكُبات من ظِلال الفَجَوات والتَّرْفيعات التي تُحدِّد درجات السُّمك والبُروز.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن إغفال تَوْشِيّات الزُّخْرُف التي تُعَضِّد البُعد التعبيري في الأعمال، من خلال الأشكل المطبوعة بالنُّتوء، والمفردات الشَّكْلية المُنَمْنَمة، والعلامات والرُّموز، من خلال التِّكرار المُنْتَظم عبر أحْزِمَة، وعبر الأسلاك المُتَمَوِّجَة، والتَّشْبيكات ذات العُيون الواسِعَة، أو التَّشْبيكات المُكَثَّفة المُتقدِّمَة بمساحات صغيرة، ومنها الموصولَة بقُماش الخيش، أو تلك الشاسِعَة التي تتوارى إلى الخَلْفِيَّة لتَحْتَضن العناصر وتدفع بها إلى الواجِهَة.
هكذا، يتأكد لدينا أننا بعيدون عن مفهوم “الكولاج”، في الوقت الذي نتَفَحَّص فيه كيفيات التَّجْميع لإنْشاءات مَعْمولة بالمادة الصَّلْدَة، ما يستدعي استحضار أنما طال تَّثْبيت، كالتي اعتمدها محمد حافظي بحِنْكة المهندس الفنان، في الحين الذي يعتمد فيه مسامير معدنية برؤوس سميكة (فولاذية ونُحاسيَّة)، تتمَثّل بدورها كعناصر دائِرِيَّةبارزة، تُنْعِش الفراغات وتَسْتكْمِل التَّوازنات، فيما تُضفي على العمل سِمَة التَّماسُك والإحْكام. بينما تتمَثَّلالكابلات والأسلاك كآلية للوَصْل والرَّبْط والحَزْم، كما تظهر وتختفي ضمن إيقاع الخِياطَة، في الوقت الذي تتشكل فيه لدعم التكوين وتَحْريكه. ولعل هذا الحس الفني المدعوم بالتحكم التقني، يأتي من خَلْفِيَّة تَجْريبية؛ خَلْفِيَّة مخْبرِيَّة في التعامل مع المادة المعدنية والمُصَنَّعَة، علاوة على خبرة الفنان في التصميم الغرافيكيوهندسة الديكور الداخلي.
في هذه السلسلة النحتية، نحن أمام تجربة نحتية تروم تحقيق مقاربة تطبيقية حول علاقة المادة بالفراغ، ضمن تسْوِيَة كُتلِيَّة على السطح الذي يطمح إلى توليف تَعْمير أفقي، دون التَّرَدُّد في تَرْفيع المادَّة لتَشْغَر حَيِّزها الفضائي على المساحة، ولوبدرجة ضئيلة وفق طبيعة النحت ذي البروز الخَفيض، ومن ثم، العمل على تحويل المساحة من التَّسْطيح إلى التَّجْسيم. وعن طريق اختيار المادة المعدنية بالأساس، وتقنيّات تطويعها، مع العمل على إشعال طبيعتها المادية، وما يليها من كيفيات التَّثْبيت والتلوين والبروز ضمن تَشْكيلِيَّة حَجْمِيَّة، شِعْرِيَّة وأنيقة، تَمَكَّن الفنان محمد حافظي من تحقيق هذه المعادَلة البصريَّة كمهندس ميكانيكا بارع في تقديم جمالية معدنية قائمة على ما يشبه تجميع قطع غيار مُلَمَّعَة ومَشْغولَة من جديد، ليُقَدِّم لنا نموذجا مختلفا في حقل النحت عندنا، بعَيْن رياضِيَّة قاطعة وبديعة.
الرباط، ماي/ أيار 2024
يذكر أن رواق باب الكبير التابع لوزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة- بقصبة الاوداية بالرباط يحتضن، معرضا فنيا جديدا للفنان التشكيلي محمد حافظي ما بين 1 و15 أكتوبر 2024 تحت عنوان “مقاطع بارزة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى