خلاصة تاريخ العرب
د. محمد سعيد حسب النبي| أكاديمي مصري
من الأمور الغريبة التي وردت في بعض كتب التاريخ أن العرب لم يأتوا بشيء مُلفت، وقد نأوا عن التمدن المرفوعة أعلامه زمن الرومانيين الوارثين عن الروم، بل انحرفت بعض الكتابات لتشير إلى أن العرب كانوا سبباً في إطفاء نور العلم، حتى خيم الجهل وعمّ التوحش بقاع الأرض. ولعل كل ما جاء سابقاً لا يعدو كونه أراجيف مبتدعة وادعاءات مجحفة، ودليل ذلك ما قاله المؤرخون العارفون بحقائق التاريخ من أن العرب في فتوحاتهم ألْفَوا من الأمم من كانت غرقى في بحار الجهالة والظلم، وبعضها كان يعيش في الأكواخ والكهوف أو يهيم في الغابات، وما أن دخل العرب حتى بثّفيهاالعدل والعلم والفضائل وفنون الزراعة والتجارة والعمارة وسائر الصنائع والحرف، فعرفت الأمم التمدن والسياسة والمدنية.
وقد كتب السلف من رجال الأمة العربية كتباً كثيرة في المسائل الاعتقادية والعملية، كما أسهبوا الكلام في الحوادث التاريخية، وما لأهلها من العوائد والأخلاق، ولم يقتد بهم من الخلف في ذلكوسكتوا عليها، مع أنهم جديرون بنشر فضائل العرب؛ فأسند الأمر إلى غير أهله، فضاعت بعض فضائل العرب، وأخذوا يركبون متن العمياء، ويخبطون خبط العشواء، فكم من حكمة تحولت عن حقيقتها، وكم من آية ترجمت على غير مقصودها، فشاعت الأباطيل وانتقلت جيلاً بعد جيل.
إلا أن بعض المؤرخين من علماء الغرب المنصفين تصدى لتبديد هذه الأباطيل، ومنهم العالم الفرنسي “سيديو” في كتابه “خلاصة تاريخ العرب” والذي جمع في عشرين سنة تاريخاً مشرقاً وثّق فيه فضائل العرب ومآثرهم، وقد أدحض ببراهينه ما ادعاه المبغضونعن العرب، مما أسهم في تحول ما رسخ في بعض الأذهان من أباطيل تمس العرب، بل صار هناك تقدير كبير لعلمائهم وكتبهم، وقد أظهر فضلهم لدى الغرب. كما زاد كتاب “سيديو” من رغبة الكثيرين في حيازة الكتب العربية في سائر الفنون والمعارف، وصار فضولهمصريحاً في استطلاع مبانيهم وزينتهم وزخارفهم وآلاتهم وملابسهم، وسارعوا إلى زيارة متاحفهم وآثارهم وخزائن كتبهم واستطلاع حرفهم وصناعتهم.
وقد ضم كتاب “خلاصة تاريخ العرب” للعالم الفرنسي “سيديو” تاريخ العرب من قبل البعثة المحمدية إلى القرن التاسع عشر، متضمناً رفعة العرب وتمدنهم، ومنجزاتهم العلمية والفلسفية والفقهية، ومعارفهم الأدبية، واختراعاتهم غير الاعتيادية في جميع المجالات.
وبالجملة، فإن هذا الكتاب قد جمع زُبَد التواريخ المتفرقة في خزائن الأقطار الدانية والقاصية بعبارة سهلة سالمة من الزخرف والحشو الذي مُلئت به تلك التواريخ. فصار الكتاب بذلك برهاناً على رقي الأمة العربية، وتوثيقاً لنهضتها وعلو همتها وهامتها.