مقال

فحِرت بين المرأتين

بقلم: خالد رمضان
في حياة كل منا لحظات فارقة، تفرق بين طريقين كلاهما وعر، فإما أن تهتدي إلى طريقك المنشود، وإما أن تضل ضلالا بعيدا قد يودي بك إلى سحيق هاوية ما لها من قرار.
وقد حكى لي أحد أصدقائي محنة عصيبة واتته وعلى غير اهتداء أو سابقة ميعاد، فجثمت على صدره، وأثقلت نفسه بهموم أقضت مضجعه، وأطارت النوم من مقل عينيه، حتى صارت حياته أشبه بدائرة مفرغة لا يدري أين طرفاها. وحين عرض عليّ همه، وما ألمّ به، ألم بي ما ألمّ به، فحرتُ حيرته، وذقت ويلته.
وربما تلك المرة الأولى من حياتي التي أقف فيها مكتوف الأيدي لا أستطيع حراكا، تنهش الأفكار رأسي وكأنها الوحوش الضارية، وأصبح هذا العقل الذي كان دائما ما يصول ويجول بين عرصات الحياة متأملا ومفكرا كالأسير بين القضبان يرى الدنيا حوله ولكنه ثابت رابض في مكانه لا يقدم رجلا، ولا يؤخر أخرى.
عندها أمسكت بقلمي لأنثر تلك المشاعر المتضاربة على تلك الصفحات الناصعة فأبى قلمي أن يكون شريكا لي في الإفضاء برأي ثاقب، أو التعريض بحل قاطع ناجع لهذه الرواية البائسة التي أتعبت صاحبها، وأعيت كل من واساه.. حتى قلمي تنصل مني، وما فعل ذلك هجرا أو صدودا، لكنه علم وأيقن أنه بين خيارين كلاهما مر لصاحبه.
يروي صديقي فيقول:
ألست إنسانا مزجت روحه بدمائه؟! ألم يخلقنا الله تعالى روحا وجسدا، عقلا وقلبا، قلبا وقالبا نُحِب ونُحَب؟! لقد غاصت قدماي فلا أستطيع حراكا ولا انطلاقا؛ فما ظننت يوما أن أكون بطلا لتلك القصة، أو حتى فردا من أفرادها. يكمل صديقي قصته، ويسرد ما حاك في صدره، وما أضمره من خبيئته، فيقول: أنا زوج لزوجة مخلصة محبة عاشقة مضحية، وأنا لها كذلك.
قد رزقني الله تعالى منها الذرية التي قرت بها عيني، وانبلجت لها نفسي، فعشت معها أعواما طوالا سعيدا هانئا، لم أجد ما يعكر صفوي، أو يرهق فكري. فقط العمل المتواصل الذي يلقي بك تحت عجلات الزمن حتى لا تدع فيك نفسا منفوسة.
في تلك الٱونة كنت لا ٱبه بأي فتنة تعرض لي، فليس لدي وقت للتفكير فيها، ولم تكن نفسي تتوق إليها، أو تصبو إلى تلك الصبابة الزاهية التي أراها من تلك الحسناء الشهلاء، أو هذه المرأة الغراء الهيفاء.. وفي غفلة من الزمن، وعلى غير أهبةٍ أو استعدادٍ وإذا بي تطرق أبواب قلبي امرأة، وكأنها هبطت عليّ من السماء. من أين أتت؟! كيف اخترقت جدران قلبي الصُّلبة؟! لقد شغلتني عيناها، وأسهدني محياها. فإذا بها تخترق قلبي الحصين – ورغم أنفي – وتأسر ودون قصد عقلي ولُبي. يا ويلتاه ! ما هذا الذي واتاني ؟ وبغير إذن رماني؟
حينئذ أحسست أن ساعات الزمن قد توقفت، بل أصبحتُ أنا كشبكة الجوال التي باتت خارج نطاق الخدمة. بالفعل أشعر أن خللا فسيولوجيا، أو سيكولوجيا قد أصابني. طال ليلي حتى عُدت لأيام المراهقة، نعم مراهقة لكنها مراهقة متأخرة، وبدأت أتسائل، وأسأل نفسي:
من هذه؟ ماذا يحدث لي؟! أهي حبيبة ثانية؟ أم صديقة حانية؟ أنا لا أعلم. كل ما أوقنه أنها هنا. هنا بالداخل. لا أعلم في أي الأماكن تجلس، أو على أي الأوتار تعزف؟ لكنها هنا داخلي، قد أوجدت لها مكانا يصعب إخراجها منه.
وقتها انتابني القلق، وساورتني الحيرة، ففقدت صوابي، ولم أعد ذلك الرجل ذا العقل الراجح الذي يستعين به هذا أو ذاك. ساءت حالي، ولم أعد أقوى على شئ. أنا لست أنا، أصبحت لا فكر، ولا رأي، ولا مشورة، أسير هائما على وجهي، أحدّث نفسي، وتحدثني، يا ويلتاه! ماذا أصنع؟! كيف الخروج من ذالك العمق السحيق الذي لازلت أتمادى سقوطا فيه، حين لا أسمع إلا صوتا خفيا دفينا يخرج من أعماقي يقول لي وبلهجة حادة: ماذا فعلتَ يا مسكين؟! طالما لم تقوَ على خوض الصعاب فلِمَ اقتحمتها؟ طالما لم ترتدِ ثوب الشجاعة فلمَ ادعيتها؟! ها أنذا أعتصر ألما ووجدا وشوقا؛ فلقد علقت بين امرأتين، ولا أعلم لأين؟
ويكمل الرجل فيقول: هل أتقدم، فأمد يدي إلى الثانية؛ لأمنحها صفحة جديدة من حياتي؛ تخط بفيض مشاعرها أسطرا سعيدة متألقة تبهج نفسي المكدودة عبر تلك الأعوام السحيقة؟ أم أعود منكس الرأس كاسف البال مادا يد الصفح والغفران للأولى؛ علّها تغفر زلتي، أو تقبل أوبتي؟ وا حر قلباه. كأني بقول نزار :
لو أني أعرف أن البحر عميق جدا ما أبحرت.
لو أني أعرف أن الحب خطير جدا ما أحببت.
لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت.
يكمل صديقي فيقول: لقد تشتت وجداني، وعصفت بي ظنوني وأوهامي. ما ضرني أن أهيم بتلك الحياة الجديدة، وأن أقُبل على هذه المرأة المظلومة التي ركلتها الحياة ركلات قاسية؛ فأكون أنا يد العون التي امتدت إليها وسط الزحام لتنجو بها من صفعات الزمن، وتنتزعها من تلك المخالب البشرية لهؤلاء المستذئبين الذين يرونها هي ومثيلاتها أنهن لقمة سائغة للجميع، وفرائس تنتظرها الضواري؟ وما عليّ أن أكون أنا السند والأهل لمن فقد السند أو الأهل وسط دياجير الحياة؟ ثم كيف أرى نفسي وقد تخليت عن روح تعلقت بي، وقلب هفا زاحفا إليّ، ومسكينة وهبتني قلبها فأحبته وسكنته؟ لا لا يا قلبُ، عد لرشدك. ثم يسكت هذا الضمير برهة؛ لينطق الٱخر فيقول: وما ذنب الأولى لتكسر قلبها الذي منحتك إياه وقت حرمك الٱخرون؟ ماذا اقترفت يداها حتى تخذلها أمام أبنائها، وأهلها، وصديقاتها، وجيرانها، وعدواتها اللائي يتربصن بها من سلفتها، أو زوجة لأخيها لا تحبها؟ هل هانت عليك؟ هل تخيلتها ذبيحة أمام عينيك؟ هل تقوى على هجرها، أو نسيانها؟ ٱهٍ ثم ٱه . وها أنذا أقف أمام صديقي كالطفل المذنب أمام أمه لا أنطق ببنت شفة. ماذا أقول له؟
يوما ما قد أحسست أن عقلي قد تجاوز حدود الزمن، وتخطى ٱفاق الفكر؛ فكنت المستشار والمؤتمن لرفاقي وزملائي، لكنني الٱن أشعر أنني لا أعلم شيئا، ولا أرى الصواب من الخطأ؛ فقد وقع صديقي بين خيارين كلاهما مُر.. فلو استمر في طريقه لاحترق بنار الندم، وشدة التأنيب والألم. ولو تأخر لخذل ولصغرت نفسه في عينيه مهما طال به الزمن. هل من عاقلٍ فيشير عليّ؟ هل من حكيم فيرنو إليّ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى