ثقافة المفرقعات

جميل السلحوت | فلسطين

         بغضّ النّظر عن الاجتهادات المتفاوتة ما بين تأييد المقاومة السّلميّة للاحتلال أو المقاومة المسلّحة، إلا أنّ فوضى السّلاح تشكل عبئا وخطرا على المواطن الفلسطينيّ نفسه، وتضعف من هيبة السّلطة الوطنيّة أمام هذا المواطن، بل إنّ تعدّد “السّلطات” التي تفرض هيمنتها على الشّارع تحت تهديد السّلاح، أوقعتنا ولا تزال توقعنا في “مطّبات” سياسيّة، تبعدنا عن الاستقلال والتّحرّر الوطنيّ، وتضعنا أمام العالم وكأنّنا غير قادرين على حكم أنفسنا.

        ومواطننا الذي هو الضّحيّة الأولى لهذا الانفلات النّاتج عن “فوضى السّلاح” هو نفسه يحبّ المظاهر المسلّحة و”الطّخطخة” إذا ما ابتعدت عنه وعن مكان سكناه، وحبّ اقتناء السّلاح النّاري واطلاق الرّصاص كامتداد لثقافة الهبل، ليس حكرا على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة فقط، بل هو موجود عند الشّعوب العربيّة الأخرى، ومن السّهل جدّا مشاهدة أشخاص في العواصم والمدن العربيّة، يتمنطقون بالمسدّسات أو البنادق بمختلف أنواعها كمظهر من مظاهر “الوجاهة” حسب المفاهيم العشائريّة والقبليّة، ومن السّهل جدّا على أيّ مشاهد في مختلف أرجاء المعمورة أن يشاهد على الفضائيّات العربيّة بعض الأغاني الشّعبيّة التّراثيّة، ومقدّموها يتوشّحون بالمسدّسات أو يرفعون البنادق، وهم يرقصون ويدبكون ويغنّون، وهذه المظاهر لا تشاهد في الأراضي الفلسطينيّة بشكل علنيّ نظرا لوجود الاحتلال، الذي يطلق جنوده النّار على كلّ حامل للسّلاح. وحبّ اقتناء السّلاح واطلاق الرّصاص في “الهواء” هو ظاهرة تكاد تكون تخصّصا يعربيّا في مختلف المناسبات مهما كانت صغيرة أو كبيرة، وإذا ما تعذّر وجود السّلاح النّاري القاتل كما هو الحال في بعض المناطق الفلسطينيّة، فإنّ المفرقعات هي البديل الجاهز والمتوفّر في الأسواق وفي متناول أيدي الجميع. ومع ما تشكّله من ازعاج قاتل للمواطنين، فإنّها تستعمل بكثرة ليل نهار في مناسبات كثيرة مثل حفلات الأعراس، النّجاح في الجامعة وحتى النّجاح في الثّانويّة العامّة “التّوجيهي”، وعند ولادة طفل ذكر عند بعض الأسر التي تأخّرت في الانجاب، أو أنّ مواليدهم من الإناث فقط وولد لهم ابن ذكر، وعند الختان، وعند النّجاح في الانتخابات كانتخابات المجالس الطلابية في المعاهد والجامعات، أو انتخابات المجالس المحلّيّة، وانتخابات المجالس النّيابيّة، وعند عودة الغائبين من سفر بمن فيهم عودة حجّاج بيت الله الحرام الذين لا تزيد غيبتهم عن أسبوعين، أو عند زيارة قائد سياسيّ أو حزبيّ لمنطقة من المناطق، أو صباحيّة العرس “لانتصارات” العريس على العروس وعذريتها! وهذه جميعها مناسبات مفرحة حسب ثقافتنا الشّعبيّة، أمّا إطلاق النّار بين الأخوة المتخاصمين – والذين قد يتخاصمون على أمور تافهة – أو استعمال السّلاح للسّطو فهذه قضية يطول الحديث فيها. في الدّول الغربيّة يطلقون المفرقعات والألعاب النّارية في أعياد الميلاد، وفي رأس السّنة الميلاديّة، وفي الولايات المتّحدة الأمريكيّة شاهدتهم يطلقونها في احتفالاتهم بعيد استقلال أمريكا الموافق 4 تمّوز- يوليو- كلّ عام.

      ولكنّ القاسم المشترك بين جميع هذه المناسبات في بلداننا العربيّة هو وقوع ضحايا بين قتيل وجريح من مختلف الأعمار، ومن الجنسين ذكورا وإناثا، فحوادث كثيرة قتل فيها العريس أو العروس أو الخريج أو المختون أو أحد الحضور، فينقلب الفرح إلى مأتم، ونودّع الضّحيّة بالزّغاريد والأهازيج واطلاق النّار أيضا! وترسيخا لثقافة الهبل فإنّنا نعتبر مصرع الضّحيّة قضاء وقدرا، ونشرب القهوة “السّادة” عن روحه و”نبوس” لحية وليّ أمره، الذي يبدي تسامحا كبيرا نتغنّى به في الصّحافة! لتتكرّر فعلتنا مرّات ومرّات، وليقع ضحايا جدد أيضا، أمّا ما تتسبّب به ثقافة هبل “الطخطخة” من رعب وإزعاج للنّساء والأطفال والشّيوخ والمرضى والطلّاب والدّارسين فحدّث ولا حرج؟

        وحتّى سلاح “المقاومة” واطلاق الرّصاص في الهواء، فهل هو من أجل الاستعراضات أمام ووسط المواطنين المسالمين أم لأسباب أخرى؟

          وهناك ثقافة مكبّرات الصّوت في الأعراس والمناسبات، ومنها قراءة القرآن في بيوت العزاء، وكلّها تستمر حتى ساعات الصّباح دون أخذ حرمات الناس وبيوتهم بعين الاعتبار.

         يبقى أن نقول أن النّتائج السّلبيّة المترتّبة على ثقافة “الطّخطخة” كثيرة وخطيرة، وعلى الحكومات ومنها السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة أن تضع حدّا حاسما لها؛ لتحمي حياة مواطنينا، ولنظهر كشعب متحضّر يستحقّ الحرّيّة والاستقلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى