هذا اللون لم يعد لي.. قصة قصيرة

بقلم: حيدر الحجاج – العراق
لم تكن الجملة نابعة من فمٍ تحرّكه الشفاه، بل من فراغ داخلي، من نقطةٍ ما في أعماق صدره حيث كانت الألوان تُخلق وتموت دون أن ينتبه. للحظة، ساد الصمت… ليس الصمت الذي يسبق العاصفة، ولا الذي يعقبها. كان صمتاً كثيفاً، ثقيلاً، كأن العالم قرر أن يختنق ويتوقف عن التنفّس. توقفت الأصوات. توقفت عقارب الساعة. حتى الأفكار نفسها، تلك التي اعتاد أن تحوم حول رأسه كذباب ملحاح، تلاشت.
كان يقف هناك، أو يجلس، أو ربما لا شيء من ذلك. المكان ذاته فقد معناه. لم يعد يعرف إن كان في غرفته أو في شارعٍ بعيد. الجدران حوله بدت بلا ملامح، وكأنها تراجعت لتتركه وحيداً مع ذلك الصمت. كان يعرف شيئاً واحداً فقط هذا اللون لم يعد لي.
استفاق فجأة ليجد نفسه في محطة قطار مهجورة. لا يتذكر كيف وصل إلى هناك. لا يتذكر حتى آخر مرة استقل فيها قطاراً. الهواء كان مشبعاً برائحة الصدأ والغبار، والسكك الحديدية تمتد أمامه بلا نهاية، تتلوى كأفعى عجوز فقدت طريق العودة.
على المقعد الخشبي بجانبه جلس رجل مسنّ، يحمل بين يديه صندوقاً صغيراً. دون أن ينظر إليه، قال الرجل بصوتٍ أجش:
كلنا ننتظر قطاراً لن يأتي.
لم يرد، لم يشعر أن هناك حاجة للرد. ربما لأن الكلمات نفسها بدت ثقيلة، بلا طائل، كما لو أن الحديث لم يعد وسيلة للتواصل، بل مجرد محاولة فاشلة لملء الفراغ.
تسلل صدى تلك الجملة إلى أعماقه، يرددها كأنها نشيد قديم:
كلنا ننتظر قطاراً لن يأتي.
خرج من المحطة، أو ربما لم يخرج. فجأة، كان في شارع ضيق، تتراص فيه أبنية بلا نوافذ. كل شيء بدا مألوفاً وغريباً في آن. مرّ بجانبه رجل يبيع ساعات. عشرات الساعات معلقة في الهواء، تدور عقاربها بلا نظام. بعضها يتوقف فجأة، وبعضها الآخر يدور بسرعة جنونية كمن يهرب من شيء ما. توقف عند البائع وسأله:
أي ساعة هي الآن؟
ابتسم البائع ابتسامة خالية من الدفء، وقال:
أي وقت تفضّل أن يكون؟
لم يعرف كيف يجيب. الوقت لم يعد له معنى، تماماً كالألوان. أكمل سيره دون أن يشتري شيئاً.
في زاوية الشارع، رأى فتاة ترتدي معطفاً رمادياً وتحمل قفصاً فارغاً. نظرت إليه للحظة، ثم حولت بصرها بعيداً كما لو أنه شبح مرّ بها دون أثر. أراد أن يسألها عن القفص، عن الطائر الذي ربما كان فيه، لكن الكلمات علقت في حلقه.
هل كانت هناك طيور حقاً، أم أن القفص كان فارغاً منذ البداية؟
مشهدها لم يفارقه، كما لو أن تلك النظرة الرمادية كانت مرآة، تعكس شيئاً فقده دون أن يعرف متى أو كيف.استمر في السير حتى وجد نفسه أمام حائط رمادي باهت، مكتوب عليه بخطٍ متعجل: لقد وصلت متأخراً.
قرأ العبارة مرات عدة. متأخراً عن ماذا؟ لم يكن هناك موعد ينتظره، ولا وجهة يقصدها. لكنه شعر بثقلٍ غامض، كأنه بالفعل قد تأخر عن شيء ما، شيء لم يكن يعرف حتى أنه كان موجوداً.
أحياناً، تكون الهزيمة في سباق لم نعلم أننا نخوضه.تكرر المشهد مراراً. أماكن تتغير، وجوه تظهر وتختفي، لكنه لم يستطع الهروب من فكرة واحدة:
هذا اللون لم يعد لي.
ربما كان اللون رمزية لشيء أكثر عمقاً—شعور، حلم، أو حتى هوية تلاشت مع الوقت. كان يبحث عنه في وجوه الغرباء، في محطات القطار المهجورة، في الساعات المتوقفة، وفي القفص الفارغ، لكنه لم يجده.
وفي لحظة انكسار صامتة، أدرك الحقيقة.
العالم لا يدين لنا بأية إجابات. نحن من نخدع أنفسنا بالأسئلة.
عاد الصمت. لكن هذه المرة، لم يكن صمتاً خانقاً. كان صمتاً مختلفاً، كأنه قبول بحقيقة العبث الذي ينسج حياتنا. لم يعد يبحث عن المعنى، لأن المعنى ربما لم يكن موجوداً من البداية.
همس لنفسه، وكأنها المرة الأولى التي يسمع فيها صوته بوضوح:
هذا اللون لم يعد لي… وربما لم يكن لي أبداً.
ثم ابتسم ابتسامة خفيفة، لا سخرية فيها ولا حزن، فقط إدراك بسيط بأن كل شيء يمضي… ونحن نمضي معه.