علي جبار عطية مع علي عبد الأمير صالح خارج عزلته.. وجهًا لوجه

حوار خاص| عالم الثقافة
نمشي على استحياء، في منتصف نهارٍ قائظٍ اقتربت الحرارة فيه من نصف درجة الغليان تحت شمسٍ حزيرانيةٍ ملتهبة، والطريقُ طويلٌ بين شارع حيفا وشارع المتنبي لكنَّ المشي مع علي عبد الأمير صالح يجعل الطريق أقصر من رؤيا لطيفة في فجرٍ نديٍّ.

حضرنا معًا ضحى الأحد ٢٠٢٥/٦/٢٩م في قاعة شهرزاد بهيأة السياحة حفل تكريم الأديب ياسين طه حافظ بمناسبة اختيار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) له رمزًا شعريًا في الدورة الحادية عشرة لليوم العربي للشعر ورموز الثقافة العربية لعام ٢٠٢٥م في مبادرة طيبة عودتنا عليها دار المأمون للترجمة والنشر للاحتفاء بالمبدعين العراقيين، وهم أحياء يرزقون! في هذا الحفل قال ياسين طه حافظ كلمته الثمينة: (المجازر تتكرر، لكنَّ السعادات لا تتكرر).
علَّق علي عبد الأمير صالح،مبتهجًا قائلًا:(هذه الكلمة تصلح أن تكون خطابًا لجائزة نوبل) !
كان تجوالي مع علي عبد الأمير صالح غنيمةً، وقد حيَّرني هذا الرجل ، وأنا أتجاذب معه الحديث بشموليته وموسوعيته والأغرب من ذلك أنَّ له في أرضٍ نخلة، وفي كل مكتبةٍ من شارع المتنبي كتاب مختلف !
حدثني أنَّه بدأ حياته الأدبية في السبعينيات في مدينة الكوت كاتب قصة ونشر قصتين للأطفال، وكان وما زال كثير القراءة باللغتين العربية والإنكليزية، مولعًا بكبار الكتاب، وأنَّ تخصصه العلمي في طب الأسنان أغنى تجربته الأدبية، وهو يضع شرط الموهبة للكاتب المؤثر لهذا تجد كتبه متنوعة واختياراته دقيقة وقد زادت على الخمسين كتابًا بين الترجمة والرواية والقصة والمقالة.
من أهم كتبه ترجمته لرواية (طبل من صفيح) للكاتب الألماني غونتر غراس/٢٠٠٠م، ولها حكاية تستحق أن تروى فقد حصل على الرواية مترجمةً إلى اللغة الإنكليزية من أحد المكتبات، وشرع بترجمتها سنة ١٩٩٦م في أحلك الظروف كانت الكهرباء تنقطع فيها ١٦ ساعة يوميًا مع عدم وجود مولدة حتى أنَّ آثار تعرق يده بقيت على الورق الذي دوَّن عليه الترجمة، وحين اكتملت بعد اللتيا والتي حار في اختيار جهة نشرها فاقترح عليه أحد الأصدقاء إرسالها إلى مؤسسة نشر في أبو ظبي فأخذ باقتراحه وبعثها بالبريد، وانتظر شهورًا ولم ييأس، وبعد سنة بعث رسالةً إلى المؤسسة يستفسر عن مصير كتابه اعتذروا عن طبعه وأعادوا إليه الطرد البريدي !
هل يتوقف؟
أبدًا! ولم ييأس، وشجعه على ذلك فوز الكاتب غونتر غراس بجائزة نوبل للآداب سنة ١٩٩٩م، فأخذ الرواية إلى دار الشؤون الثقافية العامة، وقابل المدير العام عادل إبراهيم الذي تحمس لها وأمر بطبعها ومنحه أعلى مكافأة في تاريخ الدارـ كما يقول ـ وكانت نحو (٥٧٠) ألف دينار عراقي، ثمَّ فازت في السنة نفسها بجائزة أدبية قيمتها ربع مليون دينار عراقي .
يقول لي: إنَّ عملي في ترجمة (طبل من صفيح) وقراءاتي الكثيرة أعطتني ثقة لكتابة الرواية ومنها روايتي (خميلة الأجنة)/٢٠٠٨م، ورواية (أرابيسك)/٢٠٠٩م وغيرها بعد أن شعرت أنَّ أدواتي مكتملة. من ترجماته (الجبل السحري) لتوماس مان/ ٢٠١٠م ، و(أشياء كنتُ ساكتة عنها) لآذر نفيسي/٢٠١٤م، و(نساء في الأدب-حوارات مع ٢٠ كاتبة عالمية) / ٢٠٢١م و(العمى) لجوزيه ساراماغو/٢٠١٨م ، و(سيرة حياة فريدا كاهلو)/٢٠١٩ لهايدن هيريرا، و(أمس واليوم وغدًا: مذكرات صوفيا لورين)/٢٠٢٠م، و(طقوس فارسية ــ سووشون) ٢٠٢١/ لسيمين دانشور،وغيرها.
تشعر وأنتَ تقرأ ترجماته أنَّه هو المؤلف لا المترجم، لأنَّه يعي أنَّه يخاطب مستويات متفاوتة من القراء، ثمَّ تسلب الحيرة لبك حين تكتشف أنَّه ومنذ عشرين سنة لا ينام إلا أربع ساعات في اليوم!
يوزع وقته بين طب الأسنان والاهتمام بعائلته والقراءة والتأليف في عزلته التي يراها صاحبة الفضل في كل مؤلفاته وهو يتخذ مدينة الكوت وطنًا وملاذًا وصومعةً.بعض أقواله حكم تلخص أسرار النجاح والتفوق. يرى أنَّ العزلة شرط من شروط الإبداع وهي تمنح الكاتب فرصة للتأمل العميق وتجويد الكتابة. ويرى أنَّ الكاتب لا بدَّ أن يأخذ من الواقع.
ليس في قاموسه الفشل بل يوصي طلابه بالمحاولة ثمَّ المحاولة لإصلاح ما كسر. يقول: على المرء أن يتطور وإلا سقط في التكرار والركود. لايسمح بوجود شيء عاطل ويحاول أن يصلحه ويبعث فيه الحياة. إذا لم تأتِ النتيجة التي يرجوها من العمل لا يتوقف ويحبط بل يسعى إلى عمل آخر.
يقول في حوار له على موقع (الحوار المتمدن) في ٢٠٠٤/٢/١٤م:(أنا أشعر بالمسؤولية اتجاه عملي كطبيب أسنان وكقاص وروائي وكمترجم.. أنا مخلص لمهنتي ولإبداعي الأدبي.. أعالج مرضاي بضمير حي.. وأكتب بعفوية وصدق.. الكتابة بالنسبة لي رسالة ومتعة.. أنا اكتب بحمية وحماسة ومتعة.. وتربطني بالقلم صلة روحية عميقة.. لقد تشبثت بالقلم تشبث لثة الطفل بثدي أمه).
يُسأل عن سر تعلقه بغونتر غراس الكاتب الموسوعي، متعدد المواهب ،الذي يكتب في الرواية والشعر والمسرح والسياسة فضلًا عن كونه رسامًا ونحاتًا ومصمم ديكور مسرح
فيجيب: (إنني أشعر بتقارب روحي مع غونترغراس.. وإذا كانت رواية “طبل من صفيح” احتجاج شاعري ضد دكتاتورية هتلر فإنَّ روايتي “خميلة الأجنة” احتجاج شاعري ضد دكتاتورية صدام حسين. إنَّ صدام حسين أكثر قسوةً وعنفًا من هتلر . فكلاهما شوَّه بلده وأساء إلى شعبه.. وأوديا بحياة الملايين.. لقد شرد هتلر الكتاب الألمان وشرد صدام حسين الكتاب العراقيين.. لقد ترددت مرارًا في ترجمة “طبل من صفيح” لأنَّها رواية ضخمة ومعقدة .. وعلى أي حال قررت في مطلع العام ١٩٩٦م البدء بترجمتها مع علمي أنَّ ذلك عمل شاق وعسير إلا أنَّه ليس مستحيلًا.. لأنَّ الرواية تعتمد مستويات سردية متعددة، وتشمل فيضًا من المعلومات والأحداث التاريخية وقد صيغت هذه كلها بأسلوب رائع جاء منسجمًا ومتوافقًا وذا بعد إيحائي يوسع من أفق التأويل العام للنص.. لقد عانيت كثيرًا من غزارة وكثافة المادة الروائية لـ”طبل من صفيح” لأنَّ هذا العمل الهائل حافل بالانثيالات الشفوية والفنتازيا الغنائية أو الساحرة.. كان اهتمام غراس كشاعر وكروائي ينصب في المقام الأول على الكلمات، وعلى منابع وإمكانات اللغة.. وللعلم، يعد غراس مجددًا للأدب الألماني وهو يقول إنَّ اللغة الألمانية غنية، ورائعة ومطواعة. إلا أنني مع ذلك شعرت بسعادة هائلة خلال ترجمتي للرواية).
بعد أربع ساعات برفقة هذا الرجل المدهش زادت حيرتي فلا أدري هل كان حقًا معي على الأرض أم كان طيفه يحلق فوقي والسؤال الأهم هل هو حكيم في هيأة أديب أم هو أديب في هيأة حكيم ؟




