مقال

صرخة في وجه التوحد

د. نجاة الجشعمي| مصر – العراق
كلماتي ليست مجرد وصفٍ، إنها صلاةٌ تُلقيها الروح وهي تنزف، نداءٌ لايُسمع إلا حين ترتجف السماوات وترتعد الأرض. لحظة كهذه لا تُحكى بل تُعيَش، ولا تُكتب إلا بدموعٍ سكنت المدى.

دعوني أُخلّد هذه الصرخة بمشهدٍ، يُعبّر عن الانهيار الكامل الذي بلغته، عن ذاك الرجفان في كل شيء… إلا ذاك التوحّد الصامت الذي يُقيّد حفيدي كأشواك في قلب القطن.
حين انفجر الكون ولم يسمع أحد
سقطت أرضًا، لا بفعل السقوط، بل بفعل طعناتٍ لا تملك السكين،
روحي مكدومة… وقلبي تمزّق ببطءٍ، بلا رحمةٍ، بلا إنصاف.
قدماي لم تعودا تحملاني، تخدّرت كما يتخدّر من تنزف روحه حتى يصير جسدًا بلا قوام.
الستائر ولولت، والهواء صاح، والنوافذ تأزّ غضبًا، وكأنّ الكون ثار إلا ذاك “الشيء” القاسي… ذلك التوحد،
المُعلّق كشوكةٍ في صوف الحياة، لا يلين، لا يفهم، لا يرحل.

صرخت:
“لماذا هذا الحسين؟ لماذا هو؟
لماذا هذه النجاة تتعذّب بدلًا من أن تُحتضن؟
أين منقذنا؟ أين الناجي؟
أين شفاءنا من علّةٍ لا تُشفى؟”

قالوا: “اصبروا”
لكنهم نسوا أيوب، وقد فُقناه صبرًا، فُقناه وجعًا،
فُقناه تضرّعًا في الليالي التي لا تُعدّ.
ثم همست:
“ليس لنا سواك يا الله…
لا أهل، لا جهة، لا شرحٌ يُفهم، ولا حضنٌ يُغني.
لكنك إن سمعت الآن، فاسمع كل شيء:
الصرخة، والدمعة، والطلب الوحيد:
أن يُشفى هذا النور، أن يُحتضن، أن لا يُترك وحيدًا في قيدٍ لا يُرى.”

ما أعنف الحزن حين لا يجد من يحتويه، وما أشد الوجع حين يتجلّى في طفلٍ لا يبحث عن شيء سوى ذراعي أمٍ وصوت أبٍ يُطمئنه أن الدنيا بخير.

بطريقتك هذه يا نجاة… كما لو أن القلب انفجر في صمتٍ يتعدّى اللغة، ليصبح رجفةً تُحيي السماء، وتفزع الأرض، وتتركنا وحدنا، نحن ومن بقى من النور.
صرخة لا تسمعها إلا السماء

حسين الحفيد، نجاة الجدة – لحظة الانفجار الداخلي

الليل الثالث، طبقان، وغرفتان، شمعة واحدة تحترق ببطء، والهواء يشبه السؤال الذي لا يُجاب

الحفيد
(يرتمي في حضن الجدة، جسده ينتفض كمن ضاقت عليه الأرض)
(يبكي، يصرخ دون صوت، ينظر في عينيها بعمقٍ يذيب العالم)
أين هم؟
أين ماما؟
أين بابا؟

الجدة
(تحتضنه كمن يحتضن شظايا قلبه، تصرخ، لكن الصوت يخرج من الروح، لا من الحلق)
يا ربّي…
يا أهل السماء…
هل تسمعون؟
هذا طفل لا يريد شيئًا… سوى اثنين رحلوا!

الصوت الخارجي
فُزِعت الأرض، ارتجفت الأرواح، إلا هي… ظلت هنا، تمسك الروح عن أن تنكسر.

حسين
(ينظر للجدة، يهمس وكأنه يُصلي)
أنا… أنا عاوز بابا وماما…
لكن لو مش هييجوا، خليك معايا أوي
أوي… أوي أوي

الجدة
أنا هنا، أنا وهم، وأنا من لا يملك إلا الله
والله، يا نور العين، لا يُنزل الصراخ عبثًا…
بل يُحوّله نورًا في قلوبنا
لن أنام… حتى يعود الأمان لعينيك.. آه،، آه آه.
يا نجاة، يامزيج النور والوجع، من صراخٍ لا يسمعه إلا من فقد، ومن حبٍّ لا يعرف حدودًا حين يُصبح الحضن هو الحياة…
يا نجاة… ها أنا أنحني أمام دموعك التي لا تُكتب بل تُنزف من بين الكلمات، وأفتح القلب قبل الصفحة لأكتب لك مشهدًا لا يُنسى، مشهدًا تكتبه الدموع قبل الحبر، تكتبه الأكفّ الصغيرة التي وضعتها على خدّي كأنها تقول “أحتاج الدنيا أن تكون حضنًا”…
حسين أنا أريد ماما…
من أين تأتيني؟
نجاة لحظة انكسار لامتلاك الشعور غرفة شبه مظلمة، مروحه بدون هواء، كرسي خشبي قديم، شمعة واحدة تضيء الوجوه، صوت ساعة يتردّد كل ثانية وكأنها تُعدّ نبضات القلوب

حسين:
(يقترب بهدوء، يمدّ كفّيه الصغيرتين ويضعهما على خدّ جدّته، والدموع تترقرق في عينيه الواسعتين)
بصوتٍ خافت يكاد يكون صمتًا:
أنا… أريد ماما
أريد ماما
من أين أتي بماما؟ من أين…؟

نجاة:
(تتجمّد لحظة، وكأن الزمن توقف، ثم تُمسك بيديه بحنوٍّ خرافيّ)
آه يا نور القلب…
كل ما فيّ يود أن يصير أمًّا لك… أن يصير حضنًا يشبه الذي فقدته
ولكنني لا أملك ماما… ولا تملكها الكلمات

حسين:
(ينظر إليها وكأنّه يسأل: هل يكفي هذا؟ هل أستطيع أن أنمو بدونها؟)

نجاة:
نحن هنا… أنا وأنت، فقط
لكنني لا أتركك وحدك
أنا أستيقظ بك، وأنام بك، وأشبهك عندما تبكي دون صوت
وسنخلق لماما قصيدة نحتضنها كل ليلة
حتى تأتي، أو حتى تصير في قلبك كما تحبّها

حسين
(يبكي، لكن هذه المرة بصمتٍ أقلّ وحدة، في حضنها)

نجاة:
أنا لست ماما… لكنني سأكون كلّ النساء إن احتجت
سأخيط لك قلبًا من ضوء، وحنانًا من دعاء، وسأقول للعالم
إنك تستحقّ أن تكون مملوءًا بالحبّ، حتى لو تأخّر أصحاب الحبّ
أحيانًا لا يأتي الغائب… لكننا نزرع أثره في من حضر…
يا نجاة.. ماذا ستقولين له، ماتقولين لا يُكتب إلا بالدموع، ولا يُقرأ إلا بالقلب المرهف.
كلماتك ليست حروفًا، بل مرآة لحنينٍ يسكن طفلاً، ودفءٍ تُحاولين به أن تكوني وطنًا كاملاً في جسد واحد. او صرت نبضًا لا يُكذب مشاعر الطفل، بل يُخلّدها.
جدتي كل الأولاد لهم بابا… إلا أنا
نجاة لحظة انكشاف القلب

وقتٌ مابين ليلين، وساعتين من صمت، وصبحين من محاولة النسيان، وضوء خافت يشبه الرجاء،

حسين :
يستيقظ من نومه العميق، وهو
(يبكي بعمق، يقبّل وجه جدته بارتعاش، ينظر إلى عينيها كأنّه يريد أن يرى العالم فيهما)
أنا… أريد بابا
أريد بابا
كل الأولاد لهم ماما، بابا
إلا أنا
ليا أنت فقط؟؟

نجاة :
(تضع يديها على كتفيه، تحاول أن تحتضن كل انكساراته بنظرة حبّ لا تموت)
نعم يا روحي… لَك أنا
ولنا الله
والله لا يُترك مَن ليس له أحد
بل يحتضنه بكل من فقدهم

حسين :
(يسكت، وكأنّه يعيد صياغة الكون داخله)
طيب… لو كان الله معنا
هل سيسمعني لما أقول له: أنا محتاج بابا؟

نجاة:
سيُرسله لك بطرقٍ لا تعرفها
ربما في قبلة، ربما في معلم، ربما في حلم
ربما… في قلبي أنا حين أكون لك كل شيء

حسين:
(يضغط بيده على يد الجدة، ويبكي بوجعٍ أقلّ ضياعًا)
أنا وانت… ليس لنا إلا الله
لكن الله… كبير
نجاة :
وأنت يا صغيري… أكبر من اليُتم
أنت من سيعلّم الآخرين أن الحبّ يُخلق حين يغيب من نظنه ضروريًا

يا نجاة…
كم من الكلمات تعجز حين تقف أمام من يسكن الروح، لا يُكتب بالحبر بل يُهمَس من أعماق القلب. صرختك ترتجف لها الأرواح، وتنهض بها السماوات، حين يتجلّى الحزن في هيئة حبٍّ لا يُحتمل.
صرختي أوجعت الأرض… ولم تُجب السماء
لحظة الانفجار الشعوري أمام الغياب

في سرير صغيري، غيمة من الحزن تملأ الهواء وهو
يرتمي بين ذراعي ، يحتضنني كما لو أني انا الحصن الأخير في هذا العالم، يقبّل وجهي بدموعٍ حارقة، ثم ينظر إلي بعينيه الواسعتين، التي تهتف رغم الصمت:
“أريد بابا… أريد بابا… اريد ماما
كلّ الأولاد لهم ماما، بابا… إلا أنا؟
أليس لي إلا أنتِ فقط؟”انا انا اريد ماما وبابا..
نجاة :
تحتضنه بقوة كمن يحاول أن يُوقف انهيار الكون، وتصرخ من أعماقها، لا من حلقها، بل من نقطة في الروح تُوقظ أهل السماء وتفزع الأرض):
“يا الله… يا من بيدك الرحمة والاحتواء…
أين ذهبوا؟ ماما؟ بابا؟
طفلي لا يطلب مالًا ولا منزلة… بل حضنًا!
أين ذهبوا؟”

الصمت
(يسود المكان، كأن الحياة توقّفت تنتظر الإجابة التي لا تأتي)

حسين :
(ينظر إليها، يحاول أن يتشبّث بعينيها كأنها آخر نافذة للطمأنينة):
“إن كانوا لا يأتون…
هل يكفي أن تبقي؟
هل يكفي أن تكوني كلّ شيء؟”

نجاة :اريد ان اتنفس،
تتنفس بصعوبة، تمسح دموعه، ثم تهمس بصوت أقرب للدعاء):
“نحن لا نملك في هذا العالم إلا الله
وهو لا يُضيّع من ضاع له الأهل…
أنا وأنت بين يديه، لا نخاف، لا نذبل،
سنحيا بنوره، حتى وإن غاب من نحب”
أول خطوة… أول انتصار
حسين:
(يحاول الحبو، يتردد، ثم يسقط بخفة)
هممم… (ينظر للجدة بعينين لامعتين)

نجاة
هل رأيتَ ذلك؟
لقد تحرّكتَ!
أنت لا تمشي بعد… لكنك تسافر، والله إنك تُسافر!

حسين :
(يضحك ضحكة صغيرة، يمد يده نحو الكرة الزرقاء)

نجاة :
هذه أول خطوة، يا نور القلب.
ليست على الأرض فقط… بل في قلب جدتك،
من هنا، كل شيء بدأ.التقيت بجدتي في
غرفة جلوس، أوراق مبعثرة، صوت عصفور من النافذة، واطباق، وكلام لااعرف ماذا تقول جدتي، لكن أرى شفاهها تتحرك،، وانا اضحك
حسين:
(يرسم دائرة غير متقنة، ثم يشير إليها)
نجاة: تترجم تلك الدائرة،
ما هذا؟ هل هذا وجه؟ أم زهرة؟ أم أنت؟ يا قلبي
حسين :
(يضع إصبعه على الرسم، ثم على قلبه)
نجاة :
آه يا صغيري…
أنت تُجيد، لكن بلغةٍ أخرى
لغة لا يسمعها إلا من يفهم الحبّ
حسين:
يهمس بكلمة غير مفهومة… لكنها مليئة بالشعور)
نجاة:
قالوا إنك لا تتكلم
لكنني سمعتك تقول “أنا هنا”
في جلسة داخل المركز
غرفة تقييم، أوراق، مدوّنة، أخصائية تكتب الملاحظات
يحتاج إلى تعديل السلوك… هناك تحديات في التفاعل
حسين :
(ينظر للجدة، ثم يبتسم ابتسامة بريئة)

نجاة :
هل نظرتِ لعينيه؟
أتعرفين؟
هو لا يطلب تعديلًا… إنه يطلب وقتًا
السلوك ليس خريطة… القلب هو البداية.
حسين :
(يرفع اللعبة ويضعها في يد الاخصائية… خطوة غير متوقعة)
نجاة :
هل رأيتِ ذلك؟ هذا هو التفاعل… على طريقته الخاصة.
فلنتقبل منهم المهم تصل الفكرة،
حسين :
صديقي الجديد، وأنا لا أتكلم طفل في النادي – لحظة اندماج
ملعب صغير، كرات متناثرة، المدرب يراقب من بعيد

الطفل الآخر
هل تريد أن تلعب معي؟ الكرة الزرقاء أحسن من الحمراء!
حسين :
(يهز رأسه، يركض نحو الكرة الزرقاء ويُعطيها للطفل)

الطفل الآخر
أنت لطيف!
حتى لو ما قلتش كلام كتير… بس أنا فاهمك
حسين :
(يبتسم ثم يضرب الكرة بخفة، يصنع هدفًا)
المدرب
هذا هو الاندماج… لا يحتاج لشرحٍ كثير
حسين :
(يقف، يحمل بطاقة مكتوب عليها “أنا أقدر”)
(يحاول أن ينطق جملة لكنه يتوقف)

نجاة
(من بين الصفوف، تهمس):
أنت قلت كل شيء قبل أن تتكلم، يا صغيري. كنت هنا
تقف كبطلٌ… لا بالكلمات، بل بالحضور.بالجلسات، بالتدريبات. بتسجيل الهدف، هيا قل انت تقدر، انا وانت معا، انا اقدر…
حسين
(ينظر نحو الجدة، ثم يضحك بخجل)

شموع صغيرة، دفتر أحلام على الطاولة

حسين:
أنا الآن في العاشرة، جدة
هل تذكرين حين قلتِ إنني نور؟

الجدة
أذكر جيدًا… واليوم، أنت شمعة، ونجمة، وعيد.

حسين
هل أقدر أن أكتب مثلك؟

نجاة: نعم انت ستكتب مالم اكتبه انا، بل
أنت لا تكتب فقط… أنت تُضيء الصفحات
وأنا أفتخر أنني كنت شاهدةً على هذا النور

حسين :جدتي
أنا النور الذي لم يُطفأ… صح؟

نجاة
صح يا حبيبي… صح ومضيء
كأني اسمع صوت حفيدي وأرى الرحلة نابضة بالحياة على الواقع والورق. كأننا نطوي صفحة الألم والوجع ونفتح نافذة مليئة بالشمس..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى