مقال

سلسلة “مبدعو أرض الكنانة”: راجح داوود، صانع الألحان ومؤلف الذاكرة السينمائية

بقلم: د. شيرين النوساني
مدير مكتب الاتحاد العربي للثقافة في مصر

للموسيقى قدسية وسحر ضارب في القدم، يسبق اللغة ويستقر في أعماق الروح. وقد برع في مصر رجال حملوا لواءها، وصاغوا من أنغامها ملامح الذاكرة الجمعية للأمة. وإذا كان لكل جيل موسيقاه التي تميزه، فإن المشهد الموسيقي الحديث يزدان باسم الموسيقار الدكتور راجح داوود، الذي ظل على مدى عقود شمسا ساطعة في سماء النغم، وصوتا استثنائيا يكتب بالأنغام لوحات صوتية، ويؤلف بالألحان قصائد من ضوء تُخط بأقلام الندى.
في عام 1954، شهدت القاهرة مولد راجح داوود، الذي نشأ في بيئة تجمع بين محبة الفنون وإيقاع العلم الأكاديمي. قادته الأقدار إلى معهد الكونسرفاتوار، حيث انصهرت موهبته في بوتقة الدراسة المنهجية. لم يكتف داوود بدور المتلقي، بل سرعان ما ارتقى إلى منزلة المعلم، وفتح الدروب أمام أجيال من الموسيقيين الشباب، غارسا فيهم بذور التجديد والابتكار في تربة الموسيقى المعاصرة.
تتجاوز موسيقى داوود في السينما والمسرح دور الخلفية الجمالية، لتصير روحا خفية تمنح العمل نبضه، وتضخ المشاعر في شرايين الكلمة. فموسيقاه في أفلام مثل الكيت كات، أرض الأحلام، والصرخة كانت بطلا خفيا يتسلل إلى القلب ويستقر في الوجدان، يبقى حاضرا حتى بعد أن تنطفئ الشاشة وتتبدد الحوارات.
وتكمن عبقريته في قدرته على المزج بين أصالة الشرق وعمق الكلاسيكية الغربية. فموسيقاه، على الرغم من جذورها المصرية الراسخة، ظلت منفتحة على العالمية. إنها موسيقى تسير على خطين متوازيين: أحدهما يترنم بأناشيد النيل وألوان الأهرام وحكايات أزقة القاهرة، والآخر يرفرف نحو برلين وباريس وفيينا، حيث تعيش الموسيقى لغة كونية لا تعرف حدودا.
ولم ينغلق داوود في برج عاجي، بل ظل قريبا من الناس، نغمة حية تتنفس وجدانهم. يقدم عروضه بروح المعلم والفنان، ويكتب مؤلفاته كحديثٍ مباشر مع القلب المصري، بلغة تتجاوز حدود الكلمات: لغة الموسيقى.
وإن كنتُ في الصفحات السابقة قد أبحرت من شواطئ المعرفة الشخصية وروابط الود والصداقة مع من كتبت عنهم، فإنني هنا أرتاد بحرا مختلفا؛ إذ لم تجمعني بالدكتور راجح داوود معرفة مباشرة، لكن موسيقاه وحدها شكلت جسرا معرفيا ممتدا، أشعرني وكأنني أعرفه منذ زمن. فالفن العظيم بطاقة تعريف، لا يحتاج إلى وساطة، يكفي أن نصغي إليه ليصير جزءا من وجداننا.
إن تكريم داوود هو في حقيقته إكليل يتوج جبين الموسيقى المصرية ذاتها، وتكريس لحلم أمة تدرك أن للفن دورا في صياغة وعيها وحماية روحها. فهو صانع الألحان، ومؤلف الذاكرة السينمائية، وواحد من أولئك العمالقة الذين يثبتون أن أرض الكنانة لم تكف يوما عن إنجاب المبدعين.
ولعل أثمن ما يهديه الفنان للأجيال ليس عملا خالدا أو جائزة مرموقة، بل أثر صادق يظل يسري في أعماق الروح حتى بعد أن ينقضي المشهد ويُسدل الستار. هكذا هو راجح داوود: كلما انطفأت الأنوار، بقي صوته يتردد في الأعماق، ونغمه يرقص في الأرواح، مذكرا بأن الفن الأصيل لا يشيخ، وأن الموسيقى المولودة من رحم القلب تحيا في القلوب إلى الأبد.
في الأسبوع القادم، بمشيئة الرحمن، سنلتقي بمبدع جديد من كنوز أرض الكنانة… فمن سيكون؟
تابعونا في سلسلة مبدعو أرض الكنانة
شيرين النوساني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى