مقال

عيشوا حقيقتكم

د. هبة محمد العطار| أكاديمية وإعلامية

في طفولتنا لم نكن نحتاج إلى بوصلة خارجية كي نهتدي بها إلى الصواب، كنا نسير وفق ناموس داخلي أودعه الله فينا ، العطاء بلا تفكير ، المشاركة بلا شرط، والبراءة في الفرح والحزن بلا حسابات معقدة. كنا نلعب ونتقاسم الأقلام والكتب وكأن الملكية ليست سوى وهم عابر. كنا نواسي بعضنا بالعفوية نفسها التي نضحك بها، وكأن الرحمة جزء من تكويننا البيولوجي، لا اختياراً أخلاقياً نتفاوض عليه.
الطفولة لم تكن زمناً عابراً بقدر ما كانت صورة خالصة للفطرة؛ حالة من الانسجام مع “النقاء الأول”، حيث الفعل يسبق التفكير، والنية تسبق الحسابات، والخيال يتسع لكل شيء حتى التخريب كان اكتشافاً، لا فساداً. هناك فقط نتذوق جوهر الحياة بلا وسائط ولا أقنعة.
لكن مع النضج يبدأ العقل في إعادة برمجة النفس: نصير أكثر حذراً، أكثر شكاً، نُدخِل حسابات الخسارة والربح في أبسط أفعالنا. يُقال لنا إن الفطرة سذاجة، وإن العفوية ضعف، وإن البراءة مدعاة للاستغفال. فنُدرّب أنفسنا على القسوة، ونُنمّي أظافرنا كما لو كانت أدوات بقاء. وهنا يبدأ الانفصال عن الجوهر، يبدأ الإنسان في أن يكون نسخة مصطنعة من ذاته، يسكنها الخوف أكثر مما يسكنها الحب.
وعندما نلتقي من كانوا يوماً مرآتنا في الطفولة، نصطدم بالمسافة بيننا وبينهم، وبالمسافة بيننا وبين ذواتنا الأولى. ندرك أن البراءة لم تكن جهلاً، بل كانت أعلى درجات الحكمة، وأن فقدانها ليس نضجاً بل ابتعاد عن الحقيقة.
تمسّكوا بفطرتكم، لأنها ليست مجرد مرحلة عمرية بل “دليل الوجود” نفسه. الفطرة هي خريطة العودة إلى السلام الداخلي، إلى الصدق الذي لا يحتاج إلى شهادة أحد. ابحثوا عن الذين ما زالوا على فطرتهم، هؤلاء هم أوتاد الكون الذين يُبقون الإنسانية حيّة، ومن خلالهم يمكننا أن نتذكّر من نحن.
عيـشوا حقيقتكم حتى لو لم يفهمها الآخرون؛ فما لا يُفهم اليوم سيُحترم غداً، لأن الثبات على الفطرة هو الدليل الوحيد على الصدق. أما الذين غادروها فلن يفهموا، لأنهم فقدوا الطريق منذ زمن بعيد، وربما لن يجدوه أبداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى