مقال

بين الرواية والوحي.. لماذا ابتعد المسلمون عن مصدر دينهم؟

ھدى حجاجي أحمد| كاتبة وروائية من مصر

      لم يكن ابتعاد المسلمين عن مصدر دينهم الأصيل –القرآن الكريم– محض صدفة أو خطأ عابر في فهم النصوص، بل كان نتيجة انحرافٍ تدريجيٍ عن جوهر الرسالة، تراكم عبر قرون من تبني الروايات البشرية والمذاهب المتضاربة، حتى غاب النبع الصافي وسط ضجيج الأقوال المتوارثة.

لقد تاهت الأمة حين أصبحت الروايات – التي كتبها بشر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بقرون – هي المرجعية الأولى، بينما أُهملت آيات الله التي أنزلها للناس لتكون هداية ونورًا وميزانًا.

■ بين كتب الحديث والقرآن.. مفترق الطرق

في أوساط أهل السنة، تحولت كتب الحديث كـ”صحيح البخاري” و”مسلم” و”الترمذي” وغيرها، إلى مصادر تشريعية مقدسة، رغم أن أصحابها لم يدّعوا العصمة، ولم يكن عملهم إلا اجتهادًا في جمع روايات قيلت على ألسنة الرواة، عبر سلاسل طويلة من النَقل. فتم تأليه هذه الكتب عمليًّا، وتُرك كتاب الله جانبًا، رغم أن الله تعالى قال:

﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]

ومع تعدد المذاهب الفقهية – من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية – ازدادت الفُرقة، وصار المسلم العادي يتبع مذهبه كما يُتبع الدين، دون تمييز بين رأي بشري ونص إلهي.

■ والشيعة.. مرجعيات متشابكة وروايات متضخمة

في المقابل، سلكت الفرق الشيعية طريقًا مشابهًا من حيث الاعتماد على الروايات، لكن بمرجعيات مختلفة، كمثل “الكافي” و”الاستبصار” و”تهذيب الأحكام”، التي تضمنت آلاف الأحاديث المنسوبة للأئمة، وأُعطيت لهم مكانة تفوق البشر، حتى وصل الأمر إلى التوسل بهم وطلب الشفاعة منهم، وكأنهم مفاتيح الغفران.

هذا الانحراف في العقيدة والتشريع لم يكن فقط ابتعادًا عن القرآن، بل كان مدخلًا لتكريس التفرقة والصراع، وتعزيز الكراهية بدلًا من الرحمة، وتحويل الدين من رسالة توحيد إلى مظاهر طائفية وشعائر لا روح فيها.

■ دينٌ تفرّق فيه الناس.. لا يمكن أن يكون من الله

القرآن الكريم، في أكثر من موضع، ينهى عن التفرق، ويأمر بالاعتصام بكتابه وحده، دون اتخاذ أولياء أو مراجع بشرية مطلقة. قال تعالى:

﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3]

ومع ذلك، نرى المسلمين سنةً وشيعة، كلٌ يعتز بمذهبه، ويتهم الآخر بالضلال، حتى أصبحت الطائفة أهم من العقيدة، والمذهب أهم من التوحيد، والعالم أو المرجع أهم من نص القرآن.

أليس هذا انحرافًا بيّنًا عن خط الرسالة؟

■ حين يتحول الدين إلى تركة ثقيلة

ما نعيشه اليوم ليس خلافًا بسيطًا بين اجتهادات، بل هوة عميقة بين أمة مُطالبة أن تكون “خير أمة أخرجت للناس”، وبين واقعها المنقسم، المتناحر، المُشتت بين الكتب والمرجعيات والروايات.

لقد قال الله لرسوله الكريم بصيغة استنكارية قاطعة:

﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [الجاثية: 6]
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]

لكن المسلمين – بكل أسف – أعرضوا عن هذه الأوامر، وانشغلوا بالصراعات، حتى صار بأسهم بينهم شديدًا، وراحت دولهم تُستباح، وثرواتهم تُنهب، ومكانتهم بين الأمم تتراجع.

■ إلى أين؟ ومتى تعود البوصلة؟

السؤال الجوهري اليوم: إلى متى نظل ندور في ذات الحلقة؟
متى يدرك المسلم أن خلاصه ليس في طائفة ولا مرجع ولا حديث بشري، بل في العودة إلى النور الذي أنزله الله هدى للناس، وميزانًا بين الحق والباطل؟

القرآن لا يحتاج إلى وسيط، ولا إلى “تصديق خارجي” ليكون حجة. يكفي أنه من عند الله. وقد أمرنا الله باتباعه فقط، لا اتباع من دونه.

إن أول خطوات الخروج من التيه هي أن نعود للقرآن، لا كمصدر مهمل في الرفوف، بل كدستور حياة، وعنوان للوحدة، وقاعدة للعدل، والرحمة، والسلام.


خاتمة: دعوة للتفكر

لن يُصلح الله حال أمة هجرت كتابه، وقدّمت عليه روايات كتبها البشر، مهما حسُنت النوايا.
فلنبدأ من اليوم رحلة مراجعة شجاعة، نسأل فيها:
هل هذا هو الإسلام الذي أنزله الله؟
أم أن كثيرًا مما نعتقده اليوم هو دينٌ صاغه الناس وسمّوه دينًا؟

﴿قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [يونس: 69]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى