مقال

الشيخ محمد باقر المقدسي.. الصوت الذي لا يغيب

بقلم: علي جبار عطية

اعتلى المنبر الحسيني الكثيرون لكن تبقى للشيخ محمّد باقر المقدسي الذي غادر عالمنا الأربعاء ٢٠٢٣/٧/٥م نكهته وتميزه وصوته الشجيّ الفتيّ الذي لا يصدأ .
حضرتُ قبل سنوات فعاليةً دينيةً في ليلة جمعة في الصحن الكاظمي ببغداد فكانت المفاجأة السارة أن ارتقى المنبر الشيخ محمّد باقر المقدسي، وقبل أن يقرأ قال : إنَّ الأخوة في العتبة الكاظمية طلبوا مني قراءة دعاء (كميل)، واستجابةً لطلبهم سأقرأ الدعاء.
ثمَّ بدأ القراءة بصوته الملائكي النقيّ لدعاء الإمام عليّ عليه السلام الذي علمّه تلميذه كميل بن زياد النخعي (٦٣٣م/٧ ق. هــ ٧٠١م/٦٨ هـ) فصار من كنوز الأدعية لما فيه من مضامين توحيدية عالية لا تصدر إلا من عليّ، وقد صدق مَنْ قال : كلام عليٍّ عليُّ الكلام.
طاف بنا الشيخ المقدسي في أجواء الدعاء بعشرين دقيقة بلغة عربية سليمة، ومخارج حروف صحيحة ، باعثاً فينا الأمل في حين حضرتُ في مناسبات سابقة مجالس دعاء لقراء آخرين قرأوا الدعاء نفسه بمقام حزين وهيأوا لمصيبة توشك أن تقع إنْ لم تكن وقعت فعلاً !
وللمقدسي مع قراءة الدعاء قصة يذكرها في أحد اللقاءات الصحفية التي أُجريت معه سنة ٢٠٠٨م إذ يقول :
أول الأمر كان بعد توجيه الدعوة لي من السيد موسى الصدر للقراءة في لبنان، ذهبتُ هناك، وقرأت في مدينة صور وكانت أيام شهر رمضان، وكنت أقرأ في (نادي الصادق) وكان يحضر هذا النادي الكثير من الناس، فأخبرت السيد موسى الصدر :
يا حبذا لو نقرأ الدعاء بعد قراءة المجلس، لما له الأثر خصوصاً، ونحن في شهر رمضان، فوافق على ذلك، وبدأنا نقرأ كل ليلة أدعية شهر رمضان، ثم قرأنا دعاء كميل في ليالي الجمع، ودعاء أبي حمزة الثمالي في ليالي القدر، ودعاء الجوشن، وهكذا فبدأً الدعاء ينتشر، وكان له صدى رائع عند الناس.
ويضيف : وعندما هاجرنا من العراق في بداية السبعينيات ، ذهبت إلى الأهواز، وبدأت أعمل في إذاعة الأهواز مع الدكتور حسين جوبين، وكنا نذيع هذه الأدعية، حيث كان لها الأثر الكبير في نفوس المسلمين السنة والشيعة، وكانت تصلنا رسائل من مختلف العالم الإسلامي تبين إعجابهم بهذه الأدعية التي تدعو إلى توحيد الله تعالى وتنزيهه وهذا هو هدف الأئمة عليهم السلام.
ولد الشيخ المقدسي بمدينة النجف عام ١٩٣٩م، والتحق بالحوزة العلمية بالنجف الأشرف عام ١٩٥٨م ليبدأ الخطابة في سن التاسعة عشرة.
يقول في هذا الصدد :عندما أكملت درس العقائد عند أستاذي الشيخ محمّد علي الدخيل وصلت إلى مفترق طريق فأما أن أكمل طريق الدرس (الطريق الحوزوي)، أو أن أسلك طريق الخطابة، وبعد استشارتي لأستاذي الذي كان يعرف ما لديَّ من قدرة على الحفظ والصوت الجميل فأشار عليّ بطريق الخطابة (طريق الحسين عليه السلام) ؛ لأنَّ قدراتي في هذا المجال أكبر ولكي استعين على دهري وكسبي.
تأثر الشيخ باقر المقدسي بطريقة خطابة الداعية الثوري السيد جواد شبّر (١٩١٣م ـ ١٩٨٢َم) كثيراً، فكان يحفظ مجلسه كاملاً، ويردده في نفسه.
يدين المقدسي بالفضل للشيخ عبد الوهاب الكاشي (١٩٢٤م ـ ١٩٩٧م) في اتجاهه وتعليمه وتوجيهه بالاتجاه الصحيح، ولعلَّ منهج الوسطية والاعتدال في الطرح والدعوة إلى الإسلام الصحيح هو الذي أكسبه جمهوراً عريضاً في بلدان كثيرة مثل دول الخليج ولبنان وسوريا وبريطانيا والسويد وغيرها طوال أكثر من ستة عقود فضلاً عن تخصصه الأكاديمي العالي فلديه شهادة دكتوراه من الجامعة العالمية الإسلامية في لندن عنوانها (دور المنبر الحسيني في التوعية الإسلامية)
، وكذلك حصل على شهادة ماجستير من إسلام آباد في باكستان ، وكانت شهادة البكالوريوس قد حصل عليها من كلية الفقه/الجامعة المستنصرية سنة ١٩٦٤م، ومن أساتذته د. صالح الشماع في الفلسفة
و د.حاتم الكعبي في علم الاجتماع ود. عبد الرزاق محيي الدين في الأدب العربي.
برع الشيخ المقدسي في تقديم محاضرات ذات طرح علمي موضوعي نظير طروحات الشيخ الدكتور أحمد الوائلي (١٩٢٨م ـ ٢٠٠٣م) ولا غرابة في ذلك فهما من جيل عاصر كبار المراجع والعلماء ونهلا من فيض عطائهم، ومواقفهم.
يورد المقدسي هذه الحكاية التي تدل على الفهم العميق للسيد محمّد باقر الصدر للقرآن الكريم.. يقول :
وأذكر هنا حادثة مع السيد الشهيد محمّد باقر الصدر (١٩٣٥م ـ ١٩٨٠م)، ففي أواخر الستينيات من القرن الماضي، أرسل بطلبي سماحة السيد موسى الصدر للقراءة في لبنان خصوصاً بعد النجاح الذي حققته هناك في الخطابة والدعاء ولكنْ كانت لديَّ ظروف عائلية خاصة بي فكنت متردداً حينها فقررت أن استخير الله تعالى في الضريح المقدس للمولى أمير المؤمنين (عليه السلام) وعند جهة الرأس فاستخرت في ذلك الوقت عند أحد السادة الأجلاء، وعندما فتحت القرآن للاستخارة كانت آية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وفيها تهديد ووعيد حينها قال لي السيد : إنَّ الخيرة (مو زينة) فقررت عدم السفر إلى لبنان، وفي اليوم التالي جاءني سماحة السيد الشهيد محمّد باقر الصدر إلى البيت، وطلب مني الذهاب إلى لبنان للقراءة لأنَّ السيد موسى الصدر قد أوصاه بذلك فاعتذرت منه لكنَّه حاول أن يقنعني بطريقة مهذبة أخيراً قلت له :قد استخرت الله وجاءت الخيرة (مو زينة) وأخبرته بأنَّ الآية التي خرجت فيها الخيرة فيها تهديد ووعيد، حينها قال لي : ما تلك الآية؟ فأخبرته (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) عندها قال لي : لو أخذت الخيرة عندي لقلت لك : بأنَّها جيدة جداً ، قلت له : كيف ذلك؟ فقال لي : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) ليس الذهب والفضة فقط بل أيضاً العلم فأنتَ لديك علم ومعرفة وهناك في منطقة لبنان بحاجة إلى هذا العلم والمعرفة وأنت لا تنفقهما، فتنبهت حينها إلى دقة تفسيره وتأويله للأمر، ولكنّي أخبرته، برغم اقتناعي بفكرته لكنّي لديّ ظرف عائلي خاص بي.
المقدسي بأسلوبه الخطابي الواثق والهادىء والمؤثر علَّم نا الفرق بين الداعية والناعية،كذلك عرَّفنا التمييز بين مَنْ يعطي الأمل، ومَنْ يسلبه !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى