مقال

أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ

بقلم: طارق حنفي

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: ٢١٤]

قالوا في تفسير الآية الكريمة: يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها.. ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه..
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ): أي الفقر، (وَالضَّرَّاءُ): أي الأمراض في أبدانهم، (وَزُلْزِلُوا) بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.. ولكن لشدة الأمر وضيقه قال (الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.. فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة.

أقول -والله أعلم- إن: قال (الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) أي دار حوار بين المؤمنين من ناحية ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ناحية أخرى، سأل المؤمنون: متى النصر يا رسول الله؟ أجابهم رسول الله: إن نصر الله قريب، أي أن الرسول لم يشارك المؤمنين في تساؤلهم أبدا، بل أجابهم بثبات ويقين (إن نصر الله قريب).. ويخبرنا القرآن – بأسلوب المعجز – أن مفاد هذا الحوار: (يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).. ولأن وعد الله حق مستمر؛ فقد جاء بالفعل المضارع (يقول) لكل زمان تشتد فيه البأساء أو الضراء أو تخويف الأعداء أو كلهم معا ويسأل المؤمنون: متى نصر الله؟ تأتيهم إجابة الله – على لسان نبيه – في القرآن: إن نصر الله قريب.. وأرى -والله أعلم- أن كلمة قريب لا تفيد القرب الزماني فقط بل القرب المكاني أيضا، نصر الله ملازم للمؤمنين، لكن كيف مع كل ما يحدث من من قتل وحرق ودمار وهدم؟!لابد أولا من معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به، يقول الله عز وجل: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} [آل عمران: ١٩٦]

الاستعمار والصهيونية
الاستعمار هو ظاهرة تهدف إلى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي بالتالي نهب وسلب لمعظم ثروات البلاد المستعمرة، فضلًا عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة (ويكيبيديا).لكن الصهيونية وهي التي ترتدي ثوب الاستعمار تهدف إلى زعزعة إيمان المسلم بنفسه وقيمته كإنسان، ووطنه وقدرة هذا الوطن على حمايته، وربه وقدرة الرب على نصرته.

النُّقطة الحَرِجَة

النقطة الحرجة حسب المفهوم العلمي في الكيمياء الفيزيائية والتحريك الحراري وفيزياء المواد المكثفة هي النقطة من الضغط ودرجة الحرارة التي لا يوجد فيها فواصل واضحة بين حالات المادة، (مثل فواصل بين الحالة السائلة، والحالة الصلبة، أو الحالة الغازية) (ويكيبيديا)..
في مرحلة ما من كثرة الضغط ودرجات الحرارة يحدث تغيير حتمي في الخواص الفيزيائية للمادة، تفرط المادة -مجبرة- في بعض من خصائصها وحالتها.. حتى أن النقطة الحرجة قد تكون هي نقطة إنقلاب (كما يعرف في الرياضيات) ينقلب الصعود هبوطا أو الهبوط صعودا.

الإنسان

تأتي على الإنسان لحظات حرجة يخُتبر فيها معدنه وماهيته وصبره وعزيمته بالأمراض (الضراء) تارة، والفقر (البأساء) تارة أخرى، يُمتحن فيها إيمانه ومدى ثباته على الأمر، قد يتعرض في حياته لألوان من الظلم ودرجات من البلاء والابتلاء، قد يفقد معها الإنسان الإيمان بنفسه أو وطنه، حتى أنه قد يفقد الإيمان بالله.. كذلك قد تأتي مثل تلك اللحظات الحرجة على بلدة أو وطن بالكامل، لحظات يتصاعد فيها الظلم والترهيب والقتل والتعذيب ليصل إلى نقطة الانقلاب، إلى نقطة لن يعود معها منحنى التاريخ كما كان، نقطة لابد وأن يحدث فيها نوع من الانعطاف والانقلاب.

الفتن

إنَّ الفتن الشديدة والأحداث الجسيمة إذا حلَّت بالناس أظهرت حقائقهم وكشفت معادنهم وميَّزت طيِّبَهم من خبيثهم وحسنهم من سيِّئهم، ولله الحكمة البالغة في ذلك..
والحياة كلها ميدان ابتلاء ودار امتحان والناس فيها ليسوا سواء؛ فمنهم مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ومنهم من يعبد الله على علم وبصيرة وإيمان راسخ وعقيدة صحيحة؛ فإن أصابته فتنة صبر فكان خيراً له، وإن أصابته نعمة شكر فكان خيراً له ، وهذا لا يكون لأحد إلا للمؤمن {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: ١٢٨].
والفتن الحقيقية كثيرة لعل أهمها:
– فتنة لقاء العدو
– فتن الاضطهاد والطغيان والظلم.
– فتنة بطش الظالمين:
– فتنة علوِّ الأعداء.

الإيمان

إنَّ للإيمان الصحيح والعقيدة السليمة أثرا قويا ودورا بارزا في التغلب على المصائب والمحن والنوازل والفتن؛ ذلك أنَّ صاحب الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة تعلَّم من دينه أمورا مهمة ودروسا عظيمة تُعينه على الثبات في جميع الأحوال، ومن أهم هذه الأمور ما يلي:
– أنه يعلم علم يقين أنَّ خالق هذا الكون ومدبر شؤونه هو الله وحده لا شريك له.
– أن الله جل وعلا تكفَّل بنصر أهل الإيمان وحفظ أهل الدين، ووعد بذلك ووعده الحق، وأخبر بذلك في كتابه وكلامه صدق وحق، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: ٧].- كما وعد – سبحانه – {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: ٨]: أي أن الذين كفروا بربهم، ونصروا الباطل، فإنهم [فَتَعْسًا لَّهُمْ]: في انتكاس من أمرهم وخذلان..{وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطل أعمالهم التي يكيدون بها الحق، فرجع كيدهم في نحورهم..

حتمية التغيير وثبات المؤمن

لكن هل تنطبق حتمية التغيير على الإنسان كما المادة؟
بالطبع لا، فالإنسان يمتلك العزيمة والإرادة الحرة التي تمده بالطاقة على الصبر والقدرة على الثبات..ويمتلك المؤمن إيمانه بالله الذي يمده باليقين، والثبات الذي يجعل الأحداث هي من تنقلب، ثبات يزعزع الجبال، يطفئ البريق والزيف ليظهر حجم العدو الحقيقي{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: ١٧٣]
وتتمثل مظاهر ثبات المؤمن في:
– الثبات عند لقاء العدو:
وقد ورد في كتاب الله تعالى الكثير من النصوص تحث على الثبات عند لقاء العدو منها :
قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: ٤٥].وقال ألله تعالى: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: ٢٥٠] .وقال ألله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: ١٢]
– الثبات في الفتن والاضطهاد والطغيان والظلم.
– الثبات أمام بطش الظالمين.
– الثبات عند علوِّ الأعداء:
أن يعي المؤمن تمامًا أن الحرب جولات، وأن النَّصْر للمؤمنين حين يستوفون موجباته، وأن عُلُوّ الباطل وأعوانه ما هو إلا لوقت محدود، وأن العاقبة لمن اتقى.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: ٧-٨]

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد الحبيب المصطفى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى