أدب

الفروق الدلالية بين ألفاظ الطريق في القرآن الكريم

دراسة دلالية سياقية بلاغية

م. م وعد حامد ياس | العراق

جامعة كربلاء / كلية الزراعة

waead.h@uokerbala.edu.iq

المقدمة

يُعدّ التنوع اللفظي في التعبير القرآني من أبرز وجوه الإعجاز البلاغي والدلالي، إذ لا يكاد لفظ يُستعمل في موضع إلا وهو الأنسب من سواه، سواء من حيث التركيب أو السياق أو الغرض المقصود. ومن الحقول الدلالية التي تتجلّى فيها هذه الظاهرة بوضوح: حقل “الطريق”، والذي تتعدد فيه الألفاظ الواردة في القرآن الكريم، مثل: الصراط، السبيل، النجد، المسلك، السُّنَن، وغيرها، وهي ألفاظ تتقارب في المعنى العام، لكنها تتمايز في المدلول السياقي والدقة التعبيرية.

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل هذه الألفاظ في ضوء السياق القرآني، والوقوف على الفروق الدلالية الدقيقة فيما بينها، اعتمادًا على المعاجم اللغوية والتفاسير الموثوقة، مع بيان أثر السياق في توجيه المعنى، وإبراز الأبعاد البلاغية التي ترافق كل استعمال.

منهج الدراسة وأدواتها

تقوم هذه الدراسة على المنهج التحليلي الوصفي، القائم على جمع ألفاظ الطريق في القرآن الكريم، وتحليلها دلاليًا وبلاغيًا في ضوء السياق، ومقارنتها من حيث الاشتراك والافتراق. كما تستعين الدراسة بمعطيات اللغة والمعجم، وكتب التفسير وعلوم القرآن، وتربط بين البنية اللفظية والغرض البلاغي.

أولًا: لفظة “الصراط” بين الدلالة والبلاغة

ورد لفظ “الصراط” في القرآن الكريم غالبًا بصيغة الإفراد، ولم يأتِ جمعًا قط، مما يعكس دلالة الوحدانية والحصرية، إذ لا “صراط” سوى واحد، وهو صراط الله، بخلاف غيره من الألفاظ مثل “السبل” التي وردت بالجمع.

ويُلاحظ أن “الصراط” غالبًا ما يُوصف بـ”المستقيم”، كما في قوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وهي صفة لازمَت الصراط في أكثر مواضعه، مما يدل على أنه طريق هداية لا عوج فيه.

بلاغيًا:تُعَدّ كثافة الحروف المفخّمة في “الصراط” (الصاد، الراء، الطاء) ذات دلالة صوتية توحي بالقوة والثبات، وهو ما يتناسب مع سياقات الثبات على الحق. كما أن استعمال “الصراط” في ختام سورة الفاتحة، بعد ذكر فئات الناس (الذين أنعمت عليهم، المغضوب عليهم، الضالين)، يبرز أثر الهداية أو الضلال في علاقة النفس بالسير في طريق الله أو الحياد عنه.

قال السيوطي: “القرآن لا يكرر إلا لحكمة، فـ(الصراط المستقيم) لم يأت إلا في مقام الدعاء أو النعمة، مما يعكس خصوصية هذا الطريق”([1]).

ثانيًا: لفظة “السبيل” بين التنوع والتضمين البلاغي

وردت “السبيل” في أكثر من (170) موضعًا قرآنيًا، منها قول الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله} [يوسف: 108]. ويُلاحظ أن “السبيل” قد يُضاف إلى الله، كما في الآية السابقة، وقد يُنسب إلى الكافرين أو الشيطان، كما في قوله تعالى: {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153].

وتدل “السبيل” على الطريق المطلق أو العام، وقد يكون حسيًا أو معنويًا، مستقيمًا أو منحرفًا. وقد بيّن ابن عاشور أن “السبيل يطلق على أي طريق، وقد يكون معنويًا فيشمل المذهب والطريقة والمنهج”([2]).

بلاغيًا: فإن تكرار لفظ “السبيل” مع اختلاف الإضافة يؤدي وظيفة بلاغية تُسمى بـ”التقابل الدلالي”، إذ تتباين دلالة اللفظ الواحد بحسب السياق، كما في قوله تعالى: {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}. فجَمع “السبل” يشير إلى التشتت، بينما “سبيله” بالإفراد يدل على الوحدة والهداية.

ثالثًا: لفظة “النجد” بين التكليف والوضوح البلاغي

وردت هذه اللفظة في قوله تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10]، وقد فسّرها المفسرون بطريقين متقابلين: طريق الخير وطريق الشر، فهي تشير إلى الطريق المعنوي المرتبط بالتكليف والتمييز. و”النجد” في أصل معناه هو الطريق المرتفع أو الواضح.

جاء في لسان العرب: “النجد: ما ارتفع من الأرض، والنجدان: طريق الخير وطريق الشر، كأنهما طريقان مرتفعان بيّنان”([3]).

بلاغيًا: فإن استعمال “النجدين” بصيغة التثنية دون تحديد مباشر يُحدث أثرًا بلاغيًا يُسمى بـ”الاستفهام الإيحائي”، حيث يُترك للمخاطَب أن يُدرك بنفسه ماهية الطريقين. كما أن إيرادها بعد ذكر النعمة والخلق والبيان في سورة البلد يُبرز بعدها التكليفي، بما يُثير في النفس وازع المحاسبة والاختيار.

رابعًا: لفظة “المسلك” بين الضيق والبلاغة الصوتية

ترد “المسلك” في مواضع محدودة، منها قوله تعالى: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [سورة النحل، الآية: 69]}، وفي قوله {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [سورة طه، الآية: 53]وهنا يُفهم المسلك على أنه طريق ضيق أو داخلي، وقد دلّ في السياق على العجز والتقييد.قال الفيروزآبادي: “المسلك هو الممر الضيق الذي يسلك فيه الإنسان أو الماء أو الريح”([4]).

بلاغيًا: فإن اختيار كلمة “مسلك” بدلًا من “طريق” أو “سبيل” يُضفي انطباعًا سمعيًا بالضيق والانغلاق، خاصة مع تكرار حرف السين، الذي يوحي بالزحف أو البطء، في حين أن المعنى يشير إلى شلل تام في الحركة.

خامسًا: لفظة “السُّنَن” بين التاريخ والإيقاع البلاغي

وردت هذه اللفظة في مواضع متعددة، مثل قوله تعالى: {سنة الله التي قد خلت في عباده} [غافر: 85]، وقوله: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا} [آل عمران: 137]. والسُّنَن في هذا السياق لا تدل على الطريق بمعناه المكاني، بل تدل على قوانين السير الكوني والاجتماعي.

قال الزركشي: “السنن في القرآن لها دلالة على العبرة والمداولة بين الناس”([5]).

بلاغيًا:فإن “السنن” تحمل طابعًا تقريريًا، يؤسس لحقيقة حتمية، مما يخلق نوعًا من الرهبة النفسية، ويزيد من أثر الوعيد، كما في قوله تعالى: {فلن تجد لسنة الله تبديلا}. فاستعمال “لن” و”تبديل” يعززان البلاغة التأثيرية.

قال ابن القيم: “السنن الإلهية لا تتخلف، وفي القرآن بيانها بعين الحكمة، فهي آيات ناطقة بعدالة السماء في الأرض”([6]).

سادسًا: الموازنة الدلالية والبلاغية

يتّضح من العرض السابق أن كل لفظ من ألفاظ الطريق يحمل دلالة مخصوصة، ويؤدي وظيفة بلاغية ضمن السياق:

اللفظ اللفظ المعنى العام السياق القرآني الخصوصية الدلالية البعد البلاغي
الصراط طريق مستقيم وواضح الهداية، الدين، النجاة يوصف غالبًا بالاستقامة، مفرد ثبات صوتي وإيقاعي يوحي بالوحدة

 

السبيل طريق عام الخير والشر معًا قد يُضاف إلى الله أو غيره تقابل دلالي بحسب الإضافة
النجد

 

استفهام إيحائي وتثنية معنوية طريقان متقابلان يعبر عن حرية الإرادة التكليف الأخلاقي
المسلك طريق ضيق العجز أو العقوبة يدل على الحبس أو الانغلاق ضيق صوتي يوحي بالعجز

 

السُّنن طريقة مجازية حركة الأمم وقوانين الكون دلالة فلسفية/تاريخية تقريرية تحذيرية بليغة

الخاتمة

يتبيّن من خلال هذه الدراسة أن القرآن الكريم يستعمل ألفاظ “الطريق” بدقة بالغة، بحيث لا يمكن إحلال لفظ مكان آخر دون أن يختل المعنى أو الغرض البلاغي. وقد دلّ “الصراط” على الطريق الأوحد للهداية، بينما دلّ “السبيل” على الطرق المتنوعة، واختص “النجد” بالتمييز الأخلاقي، و”المسلك” بالعجز، و”السُّنن” بحركة التاريخ. وهذا التنوع في التعبير شاهد على إعجاز القرآن في اختيار الألفاظ تبعًا للسياق والمقصد.

المصادر

  1. السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1974م، ج2، ص163.
  2. الزركشي، بدر الدين، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1957م، ج1، ص258.
  3. ابن القيم، محمد بن أبي بكر، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1996م، ج1، ص45.
  4. ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، تونس: الدار التونسية للنشر، 1984م، ج12، ص228.
  5. الفيروزآبادي، مجد الدين، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دمشق: دار ابن كثير، ط1، 1996م، ج4، ص165.
  6. الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان داوودي، بيروت: دار القلم، ط2، 2005م، ص282.
  7. ابن منظور، محمد بن مكرم بن عليّ،لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1968م.

([1])السيوطي، الإتقان، ج2، ص163.

([2])التحرير والتنوير، ج12، ص228.

([3])ابن منظور، لسان العرب، مادة “نجد”.

([4])بصائر ذوي التمييز، ج4، ص165.

([5])البرهان، ج1، ص258.

([6])مفتاح دار السعادة، ج1، ص45.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى