
بقلم الناقدة | آية الصنديد
تعدُُ الرواية المعاصرة فضاءً خصبًا للتجريب وتفكيك الثوابت، وهنا تتقدم “مدن الحليب والثلج” كعمل روائي ينكسر على ذاته، كاشفًا تشظي الذات الساردة “لولوة” وانكسارها أمام فيض التجربة الإنسانية الباردة حد الصقيع تارة، والدافئة حد الغليان تارةً أخرى. من هنا تأتي القراءة التفكيكية مُحاولةً الإصغاء إلى ما بعد النص، والبحث لا عن مركز ثابت، بل عن هامش يتكاثر فيه المعنى.

فما الذي يمكننا أن ندركه عن رحله لولوة الوجودية؟ وكيف تعمل الرواية على تفكيك المركزيات السردية؟ وإلى أي مدى يمثل التشظي في نهاية الرواية نقطة انطلاق جديدة لحرية الذات؟ انطلاقًا من هذه التساؤلات. ستتناول الورقة ثلاث محاور رئيسية تبرز انزياحات المعنى في الرواية.
أولاً: الثنائية المركزية (مدن الحليب في مقابل مدن الثلج)
تؤسس الرواية لثنائية مكانية ووجودية تقف في صميم الصراع هي: مدن الحليب التي تحوي (الدفء، الفطرة، الأمومة، الشرق)، مقابل مدن الثلج التي تحوي (البرودة، القانون، المؤسسة، الغرب).
يبدأ التفكيك من تعريف “الحب” و”الأمومة” في مواجهة المؤسسة القانونية: تقول لولوة: “هم لا يقيسون الحب بالنبضات يريدون حباً قابلاً للأرشفة مكتوباً بالحبر”(ص 10)، وتضيف: “كأن الأمومة وظيفة حكومية تحتاج إلى تزكية ومؤهل جامعي في فن الاستقرار”.(ص 13) تَبرُز هنا مركزية الكلمة والعقل والمنطق الذي تتبناه “السوسيال” كمؤسسةٍ قانونية، حيث تلغي قيمة الجسد بما يحويه من مشاعر تتمثل بـ (النبضات والحليب)، وتستبدلها بالقيمة النصية والإدارية (الأرشفة والحبر)، فمركزية مدن الثلج لا يمكن أن تقوم إلا على قمع وإلغاء مدن الحليب.
يتم تقديم هذا المركز كـ “درع حماية، وفرصة للحياة”(ص113). فهو يوفر الأمان ويَعد بالنجاة من فوضى الشرق، لكنه يضع نفسه أيضًا موضع “الوصي المطلق” الذي يصلح للرعاية بينما يصنف كل ما هو فطري أو مختلف عن قيمه النصية بأنه اضطراب أو تقصير.
لكن النهاية تُظهر انقلاباً حاسماً في علاقة المركز والهامش، حيث ينهار مركز “مدن الثلج” ويتفكك عندما يُظهر عجزه عن إحداث الأمان الحقيقي، بل ويُصاب بالشلل عندما يُصبح مصدراً للخطر والجريمة، بينما يستمد الهامش “مدن الحليب” قوته منه؛ ليصبح المركز الجديد للذات. متأخرًا تدرك لولوة أن “الخطر لا يأتي دائماً بصوت القذائف، أحياناً يلبس قناع العدالة ويخطفهم باسمها”(ص153)، فتُصبح صرخاتها كـ (هامش) هي الحقيقة الوحيدة، ويصبح الشرق بوجعه ودفئه محل اشتياق.
اذن انهار هذا المركز عبر حدثين مركزيين:
• الأول: موت الهامش “جمان” مُنتحرةً، لتكون ضحية للاغتصاب والتلاعب بالجرعات، فتتحول قضيتها من ملف إداري إلى “صرخةٍ في وجه الجريمة”(ص 180)، ما يُفجر المركز وينقله إلى خانة الظالم. يُعلن الخبر: “انتحار فتاة عربية من أطفال السوسيال بعد تعرضها للاغتصاب عند عائلتها البديلة جراء تناولها جرعةً كبيرةً من المهدئات”. (ص172). شَكل غياب الأب والأم في بعض الأحيان بوصفهم حماةً لها أثرًا ظل يلاحق جمان حتى في السويد. تقول: “أنا أخاف التحرش أخافه لدرجة أنني أصبحت مغناطيساً له”. (ص206) فصار الأمان المزعوم في السويد هو رصاصة انهيارها النهائي.
• الحدث الثاني هو: مساومة عصام السرية، حيث أجبر المركز السويدي على التخلي عن مبدأه “لا تفاوض مع الإرهاب” لإنقاذ سمعته، ما يكشف أن المركزية القائمة على القانون تُدار في جوهرها بـ “المصالح” و”المساومات القذرة”، وأن الأرواح مثل إيستر ويوسف وكريم هي “مجرد هامش” في لعبة السلطة.
هذان الحدثان يأخذانا إلى…
المحور الثاني: تفكيك مراكز الهيمنة (مدن الثلج، خطاب عصام الفلسفي، سلوك التأجيل)
• مدن الثلج: إن “لولوة” الجسد الذي قُمِعَ باللغة القانونية، و”جمان” الجريمة التي اُرتكبت باسم الرعاية، تحيل المركز إلى خانة الجلاد، وتُحوّل الضحية إلى “صرخة في وجه الجريمة”، وتجعلها “رمز لطفولة مسلوبة”. (ص 180) تشعل الرأي العام. تقول لولوة: “اشتعلت مواقع التواصل بمقاطع من مراسيم التشييع والدفن، بمقالاتٍ عديدة بشأن القضية، وتضامن شعبي كبير من البحرين والسويد”. (ص191) هذا التضامن أدى ليس فقط لتفكيك المركز، بل ولانقلاب الهامش “مدن الحليب” عليه. يقول عصام: “الهجرة العكسية عنكن بلشت. الناس أكتر عم تطلع من بلادكن من اللي عم بتفوت وهالحكي من تقاريركم مش من عندي!”. (ص205)
كذلك نجد لولوة تقول بعد استعادتها لأطفالها الحقيقة المرة التي استخلصتها: “لم تكن الصفقة خيارًا، كانت ثمنًا مشتركًا لحروب شتى، حروب لا تمنح لاحد نصرًا كاملًا ولا أحد يخرج منها نقيًا”. (ص 201) هذا الإدراك هو جوهر التفكيك فلا وجود للنقاء في أي مركز سلطوي، قوانينهم المطلقة هي مجرد زيف مسخر لخدمة مصالحهم.
طبعًا لم تقتصر الرواية على تفكيك مركز مدن الثلج فقط، بل امتدت لتفكك المراكز التي اعتمدت عليها البطلة في حياتها العاطفية والاجتماعية.
• تفكيك خطاب عصام الفلسفي: يُقدَّم عصام كصاحب المنطق الفلسفي وخطاب الحرية الرنان، هو يمتلك “تفسيراً فلسفياً لكل شيء”(ص133)، بل ويجيد الحديث حتى عن الأمومة، يقول: “الأمومة مو بس حنان… لازم تتركي مساحة للبعد”. (ص125) رغم حديثه الفلسفي الذي كان يزعج لولوة كثيرً، إلا أنها كانت تثق به، وترى فيه المركز العاطفي الذي تعتمد عليه ويشاركها قضايا الأمومة والأسرة، تقول: “يهدئني بكلمات تأخذ من الفلسفة أكثر مما تأخذ من العاطفة، ربما يرى الأمور بوضوح أكبر مني، كأنه سبقني في فهم الأمومة”. (ص124)
غير أن هذه الفلسفة المعطوبة لم تكن إلا وسيلة للبعد والهروب من المسؤولية العاطفية، موقف يخدم غيابه وانشغاله بحروبه الخاصة أو شهرته، بعدما حولته الحرب إلى انسان مشوه وغير مستقر، يقول: “لم تكن حربنا، لكنها التهمت يقيننا، شوهتنا، نزعت منا البراءة والأحلام الموعودة”. (ص90)
تفكك هذا المركز عندما حدث مشهد تدخين جمان، تقول لولوة: “نظرت إلى عصام لم يفعل شيئا لم يبعد يدها لم يسحب السيجارة منها لم يوبخها لم ينطق حتى، تركها تفعل ذلك بحرية”. (ص143) هنا تدرك لولوة أن عصام جرفها إلى الجحيم. هو لم يسمح لها بترميم علاقتها بابنتها فضلًا عن كونه السبب الأكبر في اتساعها، ثم تهاوت مركزيته أكثر عندما اختار الهرب من السويد وترك لولوة وحدها، فكان موقفه الأكثر هشاشة أمام الأزمة الحقيقية، مما أجبر لولوة على استرداد صوتها ومواجهته، ليتبين لها لاحقًا أنه مركز غير موثوق، تقول: “لم يكن عصام كما هو أو ربما لم يكن يومًا كما ظننته رجل مليء بالأسرار منشغل بقضايا أكبر مني، أكبر من أطفالنا أكبر من فكرة العائلة نفسها.”(ص165)؛ لذلك تقرر الانقلاب عليه وتركه ليتحول إلى مجرد أثر.
• سلوك التأجيل والهروب: يقال إن الماضي لا يُستعاد بوصفه حدثًا، بل بوصفه “أثرًا” في الحاضر. فأفعال لولوة ليست خيارات جديدة بالكامل، بل هي أثر لنمط الضعف والرضوخ الذي قد تكون اكتسبته من أمها التي سلمت أمرها لقرار أخيها عبد الله عندما أراد تزويجها، هذا الأثر هو ما منع لولوة من اتخاذ قرارات الحاضر والمستقبل في البداية. تقول: “كل ما فعلته أني سلمت نفسي لما اختاره الآخرون”(ص21)، وتضيف: “حتى أنوثتي صارت شيئا مؤجلًا… شيئا لم يزهر بعد”. (ص22)، لولوة أرادت أن تعيش من أجل ابنتها، لكن بحثها عن كيانها كأنثى صالحة للحب، أنثى تبحث عمن يَسندُها، جعلها تغفل عن جراح ابنتها جمان، وبالتالي تعيش في حالة من الهروب المتكرر، الهروب من المواجهة يصبح هو مركز حياتها، سواء مع ابنتها جمان أو زوجها عصام، وتكراره – أي الهروب – كان يؤدي إلى تفاقم الوجع القديم. فـ “كل سقوط هو تتمة لسقوط سبقه”(ص13)، بل وبلغ هذا السلوك ذروته عندما وصلت لولوة لمرحلة لوم الذات واعتقادها أن المركز على حق، تقول: “الكابوس في اقتناعي للحظة بأنهم ربما كانوا على حق، وأنني أنا من يجب أن أسلمهم بيدي ظناً أني أنقذهم مني”. (ص 15)
يتفكك هذا المركز وينهار عندما تقرر لولوة التخلي عن الهروب والبدء بالمواجهة. لتدفع ثمن تأخرها غاليًا. لكن هذا التفكيك هو ما سمح لها بالانتقال من الضعف إلى الصلابة الذاتية.
وهذا يقودنا للمحور الثالث والأخير..
ثالثاً: ولادة الهامش (الأثر والتشظي)
• الأثر: يقال إن الذاكرة ليست حفظًا لما كان، بل كتابة جديدة لما غاب. فبعد موت جمان، تُصبح مذكراتها التي تركتها المصدر الوحيد للحقيقة، وتتحول إلى “أثر”. هذا الأثر يكشف أن جمان لم تكن ضحية لحظة عابرة، بل كانت تحمل أثر الصدمة المتوارثة، غياب الوقاية، تجربة التحرش في الطفولة وتكرارها في الغرب، البعد عن الأم. فعبر قراءة هذه المذكرات، تنتقل لولوة من إدانة ابنتها إلى فهمها كـ “إنسان قاتل كي لا يتحول إلى نسخة مكرورة”. (ص220) جمان اختارت الغياب على أن تكون ضحية. هذا ما جعل منها وهجًا لا ينسى، وكذلك شكل غياب عصام دافعًا لتحرر لولوة منه وعدم انتظاره، لكنه في ذات الآن بقي بتفاصيله غير المكتملة أثرًا لا ينسى.
• التشظي: أخيرًا وبعد انهيار المراكز، تتحول القوة إلى لولوة “الهامش المُدان سابقًا” لتُعيد بناء الذات من أنقاض الخسارة، فتدرك أن الخلاص ليس في العثور على مركز جديد أو وطن مثالي، بل في القبول بالذات المُتشظية.
هكذا تتحول لولوة من “المرأة التي لا يراها أحد إلا حين تسقط”(ص12) إلى “سيدة الضوء”(ص219)، امرأة قادرة على إعلان حريتها، فالحرية الحقيقية تتمثل في قدرتها على اتخاذ قرار واحد فقط كل يوم يشبهها ويصدق قلبها؛ الحرية ليست حالة ثابتة، بل هي حركة مستمرة تُبنى من الوعي بالندوب. تعود لولوة إلى البحرين، تُعلنها: “هنا هما ولداي وأنا أمهما وهذا وحده يكفي”. (ص 204) لقد تحررت من الحاجة إلى أي سلطة أخرى لتزكي أمومتها.
ختامًا يمكن أن نقول إن رواية مدن الحليب والثلج رواية تفكيكية بامتياز، إذ لا تقدم أي مركز يقيني ثابت، بل تعرض رحلة مستمرة لتفكيك الثنائيات المتضادة التي تحكم حياة الشخصيات، هذا ما جعل الذات الساردة – أي لولوة – في حالة بحث دائم عن معنى وجودها، فلا تدركه أخيرًا إلا بوصفه أثرًا أو شظية، لا خلاصًا أو كمال.

.




