
قراءة نقدية: حنان بدران
في قصيدته «ودّع هريرة إن العرب تحتضر»، يكتب الشاعر العُماني مسعود محاد جعبوب ملحمةً شعريةً تتجاوز حدود الرثاء لتتحول إلى بيانٍ شعريٍّ ضدّ الموت العربي.
قصيدة تتنفس وجع الأمة من المحيط إلى الخليج، وتعيد صياغة الخريطة العربية من خلال مدنٍ تنزف وتعتذر وتستغيث، بينما الغياب الرسمي يطغى على المشهد.
منذ مطلعها، يستعير الشاعر العبارة الجاهلية الشهيرة «ودّع هريرة»، لكنّها هنا تفقد بعدها الغزلي لتغدو رمزًا لفقد الأمة نفسها. هريرة ليست امرأة بل وطن، ووداعها ليس فراقًا عاطفيًا بل دفنًا لهويةٍ مثخنة بالخذلان.
تتنقّل القصيدة بين صنعاء وبغداد والقدس ومصر ودمشق وبيروت ووهران، لتشكّل بانوراما للوجع العربي، حيث تتجاور المآسي في نغمة واحدة، ويغدو السكوت خيانة جماعية. الشاعر لا يرثي المدن فحسب، بل يواجهها بصوتٍ عالٍ، يفضح خذلان الحكّام وتواطؤ الواقع، فيقول:«إبليس حاكمها، دجّال خازنها، والذئب حارسها في طبعه نمر.»
لغة القصيدة جزلة، متينة، مشحونة بالرموز، تزاوج بين البلاغة التراثية ونبض اللحظة السياسية. الصور فيها كأنها مرايا متكسّرة تعكس وجوه المدن الجريحة:«القدس نازفة، والنيل جفّت محاصله، والنخل ترقص في بستان يابسة.»
الإيقاع يأتي على هيئة موجةٍ ملحميةٍ طويلة، يتردّد فيها الصدى كتراتيل حرب، والتكرار المتعمّد (في القدس، في غزتي، في كل…) يضفي على النص بعدًا إنشاديًا، كأن الشاعر يقيم صلاة جماعية في وجه الخراب.
ورغم أن المأساة تحيط بالنص من كل صوب، إلا أن الختام يُبقي نافذة الأمل مشرعة:«تاريخ ملحمة والمدن مقبرة، ودّع هريرة إن القدس تنتصر.»
بيتٌ يعيد التوازن للنص، ويحوّل الوداع إلى بشارة نهوض، والدم إلى مدادٍ جديد للتاريخ…قصيدة جعبوب ليست صرخة حزنٍ فحسب، بل صرخة وعيٍ ورفضٍ وعودة إلى الوجدان العربيّ الواحد. إنها نصٌّ يقف على تخوم الشعر والرؤيا، حيث تمتزج الفصاحة القديمة بمرارة الحاضر، ليولد شعرٌ يشهد ويقاوم.
—-
ودع هريرة إن العرب تحتضر/وأين حكامها غابوا وما حضروا
صنعاء لاهثة بغداد نائية/والقدس نازفة وذي مصر تعتذر
والنيل ترعته جفت محاصلها/حتى إذا حصدوا في شوكها الثمر
عمان شاكية والأرض معتقل/حتى إذا ثلة في غزتي زأروا
وما دمشق سوى كالخود طالعة/في الروض ماشية والجرح ينفجر
بيروت يا دمعة في طرف عاشقة/باتت وقد رحلوا والشام يصطبر
في منتهى الافق ها وهران غاضبة/في صوت زاوية تطوان تنحسر
قرطاج لاهية خرطوم مهملة/كافور يحكمها ينهى ويقتصر
جاءت منجمة قد شفها سفر/في الشرق ناجية والتين يعتصر
قومية وهنت والقدس مشنقة/هيهات يا أمة في التيه تنتحر
وإن كاهنها في شرم صومعة/والريح تسأله والجن تنتشر
والنخل ترقص في بستان يابسة/والبيد موحشة والطرق تنحدر
إبليس حاكمها دجال خازنها/والذئب حارسها في طبعه نمر
في الدار قائلة باعوا ثرى وطني/حلمي ومدرستي والشيخ يستتر
سبعون محبرة يوما وإذ نكثوا/والقدس شاهدة والجن والبشر
في كل سلطنة فيها ومملكة/في قتلها شهدوا خانوا وقد نكروا
في غزتي زجرة والنار ملهبة/في القتل مكرهة والحزن ينكسر
الأرض دامية تجري ومجزرة/الأم فاجعة والقلب يعتصر
حتى إذا نكبوا دهرا وما وطن/ماذا إذا صنم في لعنه حجر
الشمس واقفة في صف من قتلوا/والعرب قد هربوا في ليلها سمروا
قالوا وإذ غزة في الشر قاذفة/جارت وقد قتلت في جرمها دحروا
حتى إذا شهدوا والحكم مكتمل/قالوا وما فعلت في دهرها بشر
وأين صهينة خانت وكم كذبت/في القدس كم قتلت في نقضهم جهروا
يا أمة تركت في الشرق قبلتها/ضلت مكذبة في النهر من عبروا
في كل درب يصيح الشيخ صيحته/حبلى فإن رضعوا من ثديها سكروا
في شعر حارتنا زيف وزعنفة /للشعر قد نظموا في جيدها نثروا
قالوا وكم كذبوا في الناس فلسفة/وزن بلا لغة والبحر ينكسر
إلا وقائلة في الشعر طقطقة/في كل قافية يعوي ويشتهر
في سيف قافيتي جاءت مصدقة/كأنما الرأية الحمراء تعتبر
يا منية العمر هذي القدس ضائعة/في كف بائعة والموت يحتشر
في سبعة السفن ها تشرين راسية/قبطان مبحرها والموج ينهدر
في القدس معركة تاريخ ملحمة/والحرب دائرة تذكى وتستعر
لكن معركة في الغيب واقعة/شاؤوا وإن جحدوا في النهر تنتظر
تاريخ ملحمة والمدن مقبرة/ودع هريرة إن القدس تنتصر



