الدكتورة هبة العطار وناصر أبوعون وجهًا لوجه
نعيش اليوم وسط ضجيج هائل من الكلام لكننا نعاني من عطش شديد إلى الإنصات

عالم الثقافة | خاص
نصيحتي لكل حالم.. لا تُطارد سرابًا فتموت عطشًا في طرق مليئة بمصادر الارتواء
الدكتورة هبة العطار أكاديمية من طراز رفيع، وسياسية مخضرمة وتترأس الآن قسم الإعلام بجامعة سوهاج المصرية العريقة، وشغلت مكانة أكاديمية من قبلُ في جامعتي الملك عبد العزيز وأم القرى، وهي كاتبة صحفية وتمارس العديد من الفنون الأدبية والفكرية، ولكنها تكتب دائما بمنهج فلسفيٍّ عميق ينظر إلى الحياة والأشياء برؤية المثقف العضوي الفاعل في محيطه.. التقيناها فكان هذا الحوار>>>
س/1إلى أي مدى يجوز لنا أن نُعيد تشكيل أحلامنا لِتتسق مع «الإنسان الجديد» الذي صِرنا إليه، دون أن نُخون جوهر الذات السابقة- أهي خيانة للأصل أم أمانة لنمونا- وكيف نُفرّق بين تعديلٍ يحرّرنا من قيود الماضي وتعديلٍ يُمحِي هويتنا ويتلاشى معه معنى الحلم نفسه؟
ـ علينا أن نعيد قراءة الحلم من وقت لآخر لا لنلغي جوهره، بل لنُصالحه مع الإنسان الجديد الذي نحمله. فالحلم الذي يتجمد على صورته الأولى يتحول عبئًا، أما الذي يُعاد تشكيله فيظل نورًا يتجدد مع مسار العمر.. أن نفهم الحلم على هذا النحو هو أن نكف عن معاملته كترف معلق، ونراه ككائن وجوده يحتاج إلى رعاية وصدق. هو ليس زينة للذاكرة؛ بل قوة تُعيد ترتيب علاقتنا بالزمن وبأنفسنا وفهمها والوصول لحقيقتها ومكامنها الخفية. حين نُطعمه بالفعل، ونحرسه بالصبر الواعي، ونسمح له أن يتغير معنا، يتحول من ظل مؤجل إلى حقيقة تسير بجانبنا، نور يُضيء لا وهم يستهلكنا ويطفئنا ويشل حركة التجدد بداخلنا.
س/2هل يجب أن تكون طرقنا للوصول إلى أهدافنا نتاجاً لأخلاقنا ومبادئنا، أم أن طبيعة الهدف نفسه هي التي تحدد مدى مشروعية الوسائل؟
ـ يظن الكثيرون أن الاستقامة وحدها كافية للثبات والمرور الآمن في الحياة، فيتشبثون بأن يكونوا مثل المسمار المستقيم، واضحين صريحين، لا اعوجاج فيهم، يطرقون ويسلكون طريقهم بثقة حتى يخترقوا جدار العالم، لكنهم لا يدركون أنَّ الصراحة المفرطة والنقاء الصلب لا يحتملهما الواقع دائمًا، فالمسمار المستقيم مهما كان قويا، إنْ استمر عليه الضغط انكسر أو انقطع، ويُرمى جانباً بعد أن يفقد القدرة على الاستمرار. نقية هي استقامته، لكنها نقاء يفتقد الذكاء، ويصطدم بالواقع فينكسر كما يُكسر المسمار الذي لم يحسن الانغراس.. أما المسمار الحلزوني؛ فهو نموذج الحكمة في الحركة، يعرف أن الخط المستقيم لا يوصل دائمًا ، فيسلك طريقه الملتف أحيانًا بخفة ودراية، يدخل الخشب لا بقوة المطرقة؛ بل بفن الدوران، يتقدم بثبات لايُحدث جرحًا ولا ضجيجًا، لأنه أدرك سر التفاهم مع ما حوله، يتحاور مع الواقع حتى يحتل مكانه العميق، ويظل ثابتًا لا يُكسر ولا يُرمى، لأنه لم يختر الحرب؛ بل اختار الفهم.
س/3 في ظل صراع القوة والضعف بين الصياد والفريسة، ما الذي يدفع الإنسان إلى التخلي عن كرامته وحرية اختياره، ليتحول من مجرد ضحية محتملة إلى أداة طيعة في خدمة صائد آخر؟
ـ أخلاق البشر لا تُقاس بالذكاء أو بالقوة فقط؛ بل بقدرتهم على الصمود أمام الفخاخ، وعلى الحفاظ على شرف النفس، وعلى رفض أن تتحول الحرية إلى عبودية، والكرامة إلى سلعة تُباع وتُشترى. فالانقياد الأعمى، والتنازل عن المبادىء، لا يضعف الآخرين فقط؛ بل يدمّر الداخل الإنساني، ويحوّل الشخص إلى نسخة باهتة من ذاته، خالية من الصدق والوعي.. الحياة لا تعاقب الصياد ولا الفريسة؛ بل تعاقب الكائن الذي يلهث، وكل من يُفَرِّغ نفسه من روحه ليصبح أداة في لعبة الآخرين، من يختار الخضوع بدلًا من المواجهة، ومن يُقدِّم كرامته مقابل وهم مؤقت. الصياد والفريسة جزء من دورة الحياة، أما الكائن الذي يلهث ليأتي بالفريسة فهو من يُفرّغ روحه ويخسر جوهره. وكل مرة يختار الإنسان أن يكون هو نفسه، يبني حدودًا يحمي بها ذاته ويصون قيمه، يثبت أنه قادر على مواجهة الاختبارات الكبرى، وأن وجوده ليس عرضًا أو أداةً، بل فعل واعٍ ومختار.
س/4في زمن التآكل البطيء للعلاقات الإنسانية والارتماء في أحضان الانعكاسات الرقمية الزائفة، هل بات الإنسان المعاصر يفضل وهم الوجود الاجتماعي السهل على تحدي التواصل الصادق، وهل فقدنا قدرتنا على تحقيق اكتمالنا الذاتي عبر مرآة الآخر الحقيقية؟
ـ في أحد دفاتر الفلاسفة الفرنسيين ورد: “لم يعد الآخر مرآتي؛ بل صار شاشة تُظهرني كما أريد لا كما أنا”، وهي عبارة تختصر مأساة الوجود في زمن الصورة، الوجوه تتكرر والدفء يغيب. العلاقات لم تنهَر لأنها ضعيفة بل لأنها فقدت جذورها، فالعلاقة التي لا تتغذى على الصدق تجف وإنْ لم تُروَ بالاهتمام تذبل. نعيش اليوم وسط ضجيج هائل من الكلام، لكننا نعاني من عطش شديد إلى الإنصات، نسمع بعضنا ولا نفهم، نرى بعضنا ولا نشعر. جاءت التقنية لتقدّم لنا وهم القرب، رسائل فورية، صور لحظية، ومحادثات بلا ذاكرة، ظننا أننا اقتربنا لكننا في الحقيقة أضفنا طبقة جديدة من العزلة. أصبحنا نقيس عمق علاقتنا بعدد الرموز التعبيرية لابصدق الكلمات، بينما العلاقة الحقيقية تحتاج زمنًا بطيئًا تنضج فيه الأرواح كما تنضج الثمار، لكنها تعيش اليوم في عصر لا يطيق الانتظار، حيث كل شيء مسموح بلا مسؤولية، وكل تواصل بلا اتصال حقيقي، وكل قرب بلا دفء، وكل ابتسامة مختصرة بأيقونة لا تعادل أحيانًا حكاية حياة كاملة..الحرية الحديثة جعلت الإنسان يخاف من الالتزام، فيريد أن يقترب دون أن يتورط، يحب دون أن ينكشف، ويتواصل دون أن يتصل حقًا. هكذا تحوّلت العلاقات إلى تجارب مؤقتة، إلى مقاطع عابرة في حياة مزدحمة، دون جذور تمتد أو ظلال تُظلّل.
س/5في ظل بهتان التواصل الإنساني وتلاشي الفروق بين الكلمات ومعانيها، هل أصبح الانغماس في زيف الحياة الجماعية هروبًا من مواجهة فراغ الروح، وهل بات الصمت ملاذًا وحيدًا للحفاظ على صدقنا المفقود؟”
ـ الأشياء حين تفقد معناها لا ترحل؛ بل تتحول إلى صمتٍ شفيفٍ يملأ الفراغ من حولنا، فنمضي بينها غرباء، نلمس ما كان حيًّا دون أن نحس نبضه. كل ما لم يعد يضيء، يذوب في المسافة بين الذاكرة والنسيان، كأنه لم يكن يومًا. وربما في ذلك النقص العميق يكتمل المعنى؛ إذ لا نرى الوجود إلّا بعد أن نجرّب اختفاءه، ولانفهم الامتلاء إلّا ونحن ندور، بخفةٍ متعبة، في مدار الفراغ.. ليست كل الأشياء التي نفقدها تستحق العودة؛ فبعضها يختفي لأننا تجاوزناه، لا لأننا خسرناه. حين تفقد الأشياء قيمتها في وعينا، تنزلق إلى العدم، تغيب كأنها لم تكن، كأن وجودها كان مجرد ظلٍ مرّ بالعمر دون أن يترك أثرًا. النضج الحقيقي ليس أن نتمسك بما ذهب، بل أن ندرك أن الذهاب كان هو الخلاص، فالأشياء التي تفقد بريقها تسقط من مدار الوعي كنجمة انطفأت بعد أن استهلكت ضوءها، وما لا يملك معنى لا يملك بقاء. وهكذا نصبح أهدأ لأننا نرى الأشياء على حقيقتها: مؤقتة، واهنة، لا تملك من حضورها إلا ما نمنحه نحن من وعينا، وعندما نسحب عنها هذا الوعي تنتهي ببساطة دون ضجيج ودون أسف، لأن الفقد أحيانًا ليس نقصًا؛ بل نقاء، أن تُصفّي ذاكرتك من الزوائد وتُبقي فقط ما يليق بالروح أن تتذكره، فكل ما مات في وعينا لم يعد موجودًا في الكون، لأننا نحن من كنّا نمنحه الوجود.
س6 /إذا كانت الأحلام لا تموت إلا بغياب الفعل الإرادي الذي يمنحها شرعية الوجود في الواقع، فهل القيمة الحقيقية للحلم تكمن في جوهره كفكرة، أم في تجسيده كفعل يحرره من وهم العزلة الداخلية؟
ـ الزمن يُغيرنا، وما كنا نحلم به ونحن في بداياتنا في أول تنفس للأحلام بخيالنا البكر.. قد لا يناسب ما صرنا إليه بعد التجارب. وهنا تكمن الحكمة من تحولاتنا مع ديناميكية التطور وتقادم مكوناتنا واستبدالها بشكل لا نتوقعه نحن أحيانًا. فعلينا أن نعيد قراءة الحلم من وقت لآخر لا لنلغي جوهره، بل لنُصالحه مع الإنسان الجديد الذي نحمله. فالحلم الذي يتجمد على صورته الأولى يتحول عبئًا، أما الذي يُعاد تشكيله فيظل نورًا يتجدد مع مسار العمر..أن نفهم الحلم على هذا النحو هو أن نكف عن معاملته كترف معلق، ونراه ككائن وجوده يحتاج إلى رعاية وصدق. هو ليس زينة للذاكرة؛ بل قوة تُعيد ترتيب علاقتنا بالزمن وبأنفسنا وفهمها والوصول لحقيقتها ومكامنها الخفية. حين نُطعمه بالفعل، ونحرسه بالصبر الواعي، ونسمح له أن يتغير معنا، يتحول من ظل مؤجل إلى حقيقة تسير بجانبنا، نور يُضيء لا وهم يستهلكنا ويطفئنا ويشل حركة التجدد بداخلنا.. والفشل في تحقق بعض الأحلام إشعار صريح باستحالتها.. وهنا علينا ألا نُعاند الأقدار فنموت كمدًا من نطح الصخر الذي لن يتزحزح.. ونصيحتي لكل حالم: لا تُطارد سرابًا فتموت عطشًا في طرق مليئة بمصادر الارتواء؛ فتحطم حلمك ليس النهاية، بل بداية جديدة في متوالية الحياة التي تُولد من نهايتها بداياتٌ وساحاتٌ بلا جدران تتسع لمزيد من أحلامك المتكاثرة على عتبة التوق لاستمرار الحياة كما تود أن تحياها.




