حوار

الشاعرة سلامة الصالحي في حوارٍ مع الشاعرة والصحفية نادية الدليمي

عالم الثقافة| بغداد

الشعراء نجوم الوجود وألوانه المبهجة

قصيدة النثر أنسنت الشعر وجعلته أكثر بهجةً ونوراً

قصيدة العمود الجامدة ذات القالب الواحد اهترأت ولم تعد تليق بالعصر ومتطلباته

سلامة الصالحي شاعرة من الديوانية شكلتها البيئة التي نمت فيها بألوانها وأجناسها، شابهت الأشجار حد الاخضرار فأثمرت، ورافقت الطيور حد التحليق في عوالم فتحت أمام أسئلتها الوجودية منافذ الضوء والمعرفة.. نهلت مبكرة من منابع الأدب والشعر فتكونت ملكتها التي ميزتها وهي في بواكير دراستها ما لفت إليها أنظار معلماتها ليباركن للشاعرة الصغيرة نبوغها ولمعانها، نشأت، وفي دمائها تغلي ثورة إنسانية تنبثق بهيأة قصائد حالمة بغدٍ أجمل، وإنسان أنقى وبيئة أكثر اخضراراً ومحبة. رأت في العلم قوتها في مواجهة الحياة، فتخصصت في مجال الطب البيطري، ليبقى الشعر عالمها الخفي وعشقها المخلص الذي يربت على آلامها ويغسل روحها فيعيدها طفلة لا تشيخ…. ولمرافقة الشاعرة والتعرف على رؤاها كان لنا معها هذا الحوار :

كيف كانت البداية، ومتى أدركتِ أن الشعر قدرك وأن عليك أن تؤسسي لمشروعك الأدبي؟
ـ كيف كانت البداية …أظن أنني لا أتذكر متى وكيف كانت البداية كنت طفلة هادئة وصامتة وأقرب للعزلة أنظر للعالم بعين التساؤل وتراودني أسئلة مبكرة من أنا وماذا أفعل هنا ومن هؤلاء حولي وما هذا الوجود الغامض والكون الكبير اللامتناهي وهذه السماء وتلك النجوم البعيدة والمسافات الطويلة التي تحيط وجودي كنت أستغرب حضوري كأنني فتحت عيني من ظلمة الرحم إلى ضوء الوجود الساطع ومعي سلة الأسئلة الوجودية المبكرة ..كنت أنتشل كتب أخي التي يجلبها للقراءة أول شاعر وقعت عيناي عليه هو أدونيس (أحمد علي سعيد) ولغته المدهشة عشقت الشعر حين وقعت عيناي على ذلك الكتاب وتلك اللغة الساحرة لأدونيس في الصف الخامس الابتدائي تلتها قراءة الكتب المبكرة من روايات عربية و أجنبية شكلت لغة سردية في اللاوعي تغذي الشاعرية التي تفجرت في بيئة الماء والبساتين والحقول الخضراء وليل القرية الحالم ونحن نقصدها فجراً في عربات تجرها الخيول لنجني ثمار الأشجار والبساتين والأنهار والأراجيح التي رقصت بنا بين نخلتين والنهر الصغير الذي يتلقف جسدي الغض سابحة بثوبي الأبيض الفضفاض مع الإوز العراقي الأبيض …في اكتشاف مبكر للطبيعة وأنا أصطاد الأسماك الشاردة من دورة النواعير إلى أرضنا المزروعة بالثمار تجمعها أمي مع أرغفة الخبز الساخنة وأنا أطارد الفراشات بألوانها وأقبل الزهرات الصغيرات، وهنَّ يخرجن إلى الوجود بإناقتهن وجمالهن غير مباليات لما حولهن ..كان الاستعراض العظيم لمخلوقات الطبيعة أمام عينيَّ قد حرض الشعر الجنيني فيَّ وأوحى له بالظهور في درس الإنشاء وقد راق للمدرسة ما كتبت فحضنتني وأخبرتني أنت تكتبين الشعر ياعزيزتي ومن يومها صار الشعر محراباً خفياً ألجأ إليه لصلاة الوجود وسجدة الروح ونشوة البوح، لم يكن في بالي أي مشروع أحببت الشعر وعشقت اللغة الجميلة دون غايات وأهداف سوى الخير والجمال والمحبة.
هل تعد القصيدة برأيك نافذة تطل بقارئها على ذات الشاعر ؟ وهل على القصيدة أن تكون صوت الشاعر أم صوت الآخر؟
ـ القصيدة بوح ذاتي وبقدر ذاتيته وتعبيره عن الذات فهي مرتبطة بالموضوع وأعني الوجود والكون وأبعاده من زمان ومكان وأسئلة تبدأ ولا تنتهي..هي معبر عن الذات ولكنها قد تترجم ذوات أخرى أعني القراء ومايؤولونه وقد تمتد تلك السلسلة أو ذاك الحبل الخفي بين الشاعر والآخر لتظهر برد فعل انفعالي لدى المتلقي لم يحسب حسابه الشاعر.
* هناك من يقول 🙁 إنَّ الشعر قادر على تغيير العالم)، هل على الشعر فعل ذلك حقا؟ ما هي مهمة الشعر برأيك، وما هي رسالتك من خلاله؟
ـ فعلاً فالشعر لغة تحرض المشاعر وتزيح قناع القسوة من روح الإنسان..تغسله من أدران الكراهية وتأخذه إلى فردوس اللغة الساحرة الرمزية المجردة تعتقه من ربقة المادة وجمودها إلى سيلان المشاعر وذوبان جليد الروح وربيعها ..اللغة بالتأكيد وسيلة لنقل هذا الفيض الذي يتدفق في روح الشاعر إلى الآخر هو مطور للغة ولحس الجمال وحارس لها ومزين لوجهها ومنفذ هروب الإنسان إلى وجود أجمل وأطيب، قد يكون الشعر منقذاً للإنسان من هول القبح الذي جاءت به الحضارات ونزاعات الشعوب وأطماع الإنسان وهو الذي يأخذ البشرية إلى إنسانيتها وحلمها الخفي بعيداً عن وحشية الحداثة وغربة الوعي…هو ملاذ للإنسان لم تدجنه كل مراحل التغيير التي مرت بها البشرية.
رسالتي حالمة بغدٍ أجمل وإنسان أنقى وبيئة أكثر اخضراراً ومحبة.
هل على الشاعر أن يراعي مسألة إمكانية نقل النص إلى لغات أخرى عند انتقائه المفردة لئلا تكون عائقاً أمام ترجمة نصه إلى لغات أخرى ؟
ـ ترجمة الشعر يجب أن تكون بروح شاعر لأنَّ الترجمة قد تخون النص واللغة بحر لا ينجو من الغرق فيه إلا من يجيد العوم باحترافية والشاعر لايكتب من أجل أن يترجم له هو ملهم ويكتب ما تملى عليه من الروح الكونية الكبرى …هو الصلة الشفيفة للناس بروح الكون وأسراره .
هل كان الانقياد إلى غواية الشعر مغامرة أم ركون إلى رغبة ذاتية وإرادة ملحّة خاصة وأنتِ تعملين في مجال علمي بعيد عن عالم الشعر والأدب ؟
ـ الشعر مهمة صعبة وهو عذاب لذيذ يشبه مخاض الحمل ولحظة اندلاق القصيدة تشبه ذلك المخاض الذي ينتهي بصرخة يستقبلها الوجود عارية ..الشعر روح مضافة مليئة بخصل الاستشعار والحدوس والتنبؤ وربما الكشف الصوفي بأسرار لايمكن البوح بها مباشرة بل يلجأ الشاعر إلى الاختباء خلف اللغة وبث رسالته. الشعر عالمي الخفي عشقي المخلص وهو يشذب روحي ويدعك ندوب الألم وقيح الخيبات يغسلني بقطره النقي ويعيدني في كل مرة طفلة صغيرة لاتشيخ …للشعر فضل كبير علي؛ إنَّه كان حضناً فارهاً لعذاباتي وكتفاً وثيراً لرأسي المتعب وخيباتي الكثيرات..أما العلم فكان قوتي في مواجهة الحياة.. الحياة التي أوهمني الشعر أنها جميلة ولم يفصح لي عن قسوتها وقسوة من فيها.
ما تثمينك للمهرجانات الشعرية في العراق؟ وهل كان لها الدور الفاعل في الحراك الثقافي؟
ـ كل مهرجان شعري وحضور لقبيلة الشعراء يدلل على عافية ثقافية وزمن مضيء فالشعراء نجوم الوجود وألوانه المبهجة وبالتأكيد لها دور في تحريك الركود وإضاءة فوانيس المحبة والجمال.

قصيدة النثر.. هناك من يراها خطأ فادحاً في مسار الشعرية العربية، وهناك من اعتبرها منقذاً لها، كيف تنظرين إلى الأمر وما موقفك من الجدل الدائم حول هذه القضية ؟
ـ قصيدة النثر لم تكن جديدة علينا كعراقيين فهم أول من كتبها منذ ملحمة كلكامش وانخيدوانا…الدخيل هو ما قدم من الصحراء وهي قصيدة العمود الجامدة ذات القالب الواحد..والتي اهترأت ولم تعد تليق بالعصر ومتطلباته وفكرة قصيدة النثر أنسنت الشعر وجعلته أكثر بهجةً ونوراً.
هل طرقتِ أبواب مجالات أدبية أخرى غير الشعر؟
ـ نعم كتبت الرواية والقصة القصيرة وبحوثاً ومقالات في علم الاجتماع والانثروبولوجي ولي اهتمامات فلسفية أيضاً .
هل نالت تجربتك الشعرية حقها في الدراسة؟ وهل أنتِ راضية عن موقف النقد من الخطاب الأدبي النسوي بصورة عامة؟
كتب عني أهم النقاد العراقيين …وتناولوا تجربتي بكثير من التأمل وأنا أكتب للمستقبل أيضا فمن يدري قد يقرأني الأجيال الجديدة؛ وفي العموم للناقد العراقي مشروعه الخاص الفردي وقد يتناول التجارب النسوية بعجالة وعدم اكتراث فلا تزال الذكورية مهيمنة ونكاد نختفي من الساحة الثقافية لما نواجه من تهميش وتحيز أحياناً وهجوم قد يصل إلى مستوى القتل المعنوي والتشهير والإساءة حتى من قبل شاعرات أيضاً، وهذا ما حدث لي على المستوى الشخصي أقولها بألم شديد وغصة تصل حد البكاء والوجع…وقد يتهم الناقد اتهامات جارحة إنْ تناول شاعرةً ما مما أدى إلى عزوف وهروب كثير من النقاد عن تناول التجارب النسوية خوفاً من التشويه والاتهام، إنَّها أمراض النفس البشرية الأمارة بالسوء، ولا أظن أنَّ للشعر الحقيقي علاقة بقبح وسوء النفوس.
المكان مؤثر مهم في الشاعر وفي تشكيل ملامح شخصيته، فما الذي يمثله لك، وهل تلبس قصيدتك ثوب البيئة التي تولد فيها؟
ـ للمكان أهمية لكل إنسان فهو البيئة الحاضنة والمؤثرة والمعطاءة وللشاعر هو العالم الصاخب الذي يتحول بداخله إلى رموز وأحجية وأفكار تضخ في القصيدة المعنى والدلالات..ولدت في بيئة الماء والزروع ونبتت بداخلي جذوع الكلمات وسنابل المعنى وخرجت للعالم أحمل سلال الحب والرأفة دون أن أبحث عن مقابل لما أعطي..وهنا يبرز عندي رداء الشعر الذي يسترني من أن تخترقني قبائح العالم فأظل في حصانته بلا أطماع أو ضغائن وهذا برأيي هو مجد الشعر وعظمته أن يسبغ عليك رداءه وحصانته.
 هل لك حدود ذهنية عند الكتابة؟ ما هي رؤيتك للشعر وأهميته بالنسبة لك؟
ـ لاحدود للنص عندي فهو يبدأ بصرخة وينتهي بصرخة أعلى …للشعر في نظري طاقة وفلسفة تستمد وجودها من الروح لذلك أجد روحي تتجدد كلما تستمد من هذه الطاقة الهائلة أسرار ورموز وغموض الوجود.. بهجته… أحزانه جمالياته… وخيباته وابتكارات الأمل والإيهام بغدٍ أكثر جمالاً وإشراقاً.
ما رأيك في المباريات والبرامج الشعرية وهل شكّلت حافزاً في تنشيط الحراك الإبداعي والاندفاع للكتابة؟ وهل ساهمت في دعم جماهيرية الشاعر؟
ـ الشاعر شاعر ولا أظنه خاضعاً للتدجين والبرامج هو كائن منفلت لا تحد روحه حدود هو الخارج للعالم بالدهشة وكشف الأسرار …أحياناً يكون الإعلام والبرامج نوعاً من تسليط الضوء وخلق نجومية الشاعر.
ما رأيك في الصوت الشعري النسوي في المشهد الثقافي العراقي؟
ـ الصوت النسوي الشعري العراقي لا يزال خجولا تكبحه التقاليد والموروث المخيف من القيود والهواجس والموانع…لانزال لم نكتب مانشتهي من القصيدة خوفاً ووجلاً وقد نلجأ إلى أساليب المواربة والهروب من حبال الجلد والقسوة.
ما رأيك بتأثير التكنولوجيا ومواقع التواصل الإلكتروني على الشعر والشاعر، هل كان دورها سلبياً أم إيجابياً؟
ـ التكنولوجيا صديقة وعدوة بذات الوقت لكنها قافلة هائلة بالمتعة المعرفية والثقافية وينبغي لنا أن نظفر بهذه الفرصة الذهبية في تطورنا المعرفي والثقافي وهي ساهمت في نشر وشهرة الشاعر وتأثيرها كان إيجابياً في جوانب وسلبياً في جوانب أخرى فقد صار المجال متاحاً للتنمر والهجوم وبروز ظاهرة القيح الثقافي حين يفصح الكثير من الدخلاء على الثقافة عن وحشيتهم وطائفيتهم …وهنا تتضح لعنة التكنولوجيا وسمها القاتل.
ماهي مشاريعك القادمة؟
ـ مشاريعي القادمة الكثير من الأحلام في الشعر والرواية والأبحاث الفلسفية.
ما رأيكِ بالمؤسسة الثقافية وهل هي داعمة للأديب؟
ـ لا توجد مؤسسة داعمة للأديب غير اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين هي ملاذنا وسندنا ومالها من اسم لامع وتاريخ عريق يجعل انتماءنا لها فيه جانب من الفخر والاعتزاز والمحبة.
من خلال متابعتك للمحافل الثقافية المحلية والعربية والدولية، كيف تقيمين مكانة الشاعرة العراقية، وهل لديك مؤاخذات حول قضية تعزيز هذه المكانة من قبل المؤسسة أو المبدعة نفسها؟
ـ للأسف الشديد لا يتم الترويج للمثقفة العراقية أو المبدعة لاعربياً ولادولياً وعدا اهتمام اتحاد الأدباء لانجد أي اهتمام من أي جهة أخرى بل محاربة أحيانا وبطريقة مؤلمة.
 كلمة للختام..
ـ سنبقى نحلم .فنحن كائنات حالمة تنتمي للجمال..وطالما الحلم حي …ستتحقق أشياء كثيرة رائعة.
******

سلامة الصالحي.. في سطور

شاعرة وأديبة عراقية وطبيبة استشارية.
ولدت في مدينة الديوانية عام 1964 ، وأكملت دراستها الابتدائية والثانوية فيها.
حاصلة على شهادة البكالوريوس بالطب والجراحة البيطرية من جامعة بغداد عام 1987
حاصلة على الدكتوراه الفخرية من جامعات فرنسية عام 2017
حاصلة على لقب سفيرة النوايا الحسنة للسلام والمصالحة بين الشعوب عام 2016
اختيرت كأفضل شاعرة عراقية باستفتاء مؤسسة عيون في بغداد عام 2012
كرمت ضمن عشر نساء عراقيات متميزات من قبل الجامعة التكنولوجية عام 2017
صدر لها :
– (ذاكرة الجرح) عام 2007
– (أحلام الرماد) عام 2008
– (جنوب تنحته الأنوثة) عام 2009
– (غيمة الشيطان) عام 2010
– (ثيابها ماء) عام 2015
– (خيمة الماء) 2018
– (غابة المسرات) 2020 وغيرها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى