حوار: الشاعر محمود فرحان حمادي مع الإعلامية نادية الدليمي
أنا راض عن تجربتي الشعرية والبيئة بكل تفاصيلها لها أثرها الواضح فيها
بغداد | عالم الثقافة
- نحتاج إلى ثورة معرفية تصلح أذواق الناس وتدفن وإلى الأبد كل الألوان الباهتة الدخيلة على المشهد الشعري العراقي الرائع والكبير
- ظاهرة الغموض ليست جديدة في الشّعر العمودي
- في الأنبار خزين معرفي كبير وفيها أدباء لهم في الوسط الثقافي مكانة مرموقة
محمود فرحان حمادي، شاعر الفلوجة ورئيس اتحاد الأدباء والكتاب فرع الأنبار سحرته اللغة فدار في ملكوتها أيقظت قراءاته الأولى هواجس الشعر الكامنة فيه فثابر على النهل من منابعه والخوض في بحوره واختار ما يلائم روحه وذوقه تكشفت موهبته في المرحلة الاعدادية من خلال مشاركاته في المحافل والنشاطات المدرسية لتبدأ رحلته مع الشعر تبلور وعيه الثقافي والانساني في ظل بيئته الملتزمة تسوره عادات وتقاليد اجتماعية راسخة انعكست جلية في شعره وسلوكه الأدبي المتصف بالرصانة والالتزام.
تسنم مناصب ثقافية عديدة وترأس لجان تحكيمية في مسابقات شعرية عربية ومحلية كما نال جوائز وإشادات رصينة من جهات ثقافية مرموقة طبع ومازال مجاميع شعرية احتفى بها القراء وتناولها النقاد بالبحث والتقييم كما أعد وقدّم برامج ثقافية لأكثر من قناة فضائية. حَصَلَ على شَهادَةِ الهَنْدَسِةِ المَدَنيّةِ عام ١٩٨٧من جمهورية بولندا الشعبية وَحَصَلَ على الماجِسْتير في الحَديثِ النَّبَويِّ الشَّريفِ عام ٢٠٠٨ من بغداد عَنْ رِسالَتِهِ الموْسُومَةِ (مُصطَلَحا “صالِحُ الحديث” وَ “صالِح” عِنْدَ الإمام الذَّهبي في كِتابِهِ الكاشِف ـ دراسةٌ تَطبيقيَّة). صدرت لَهُ المَجاميعُ الشِّعرية التالية: (صَدى الماضي)/ ١٩٩٠و(رياحُ التَّحدّي) /٢٠٠٤و(دِمَشْقيات)/٢٠٠٦و(المَعاني الحسان)/٢٠٠٧و(حُرُوفُ الجُب)/٢٠١١ و(رماد الليالي) /٢٠١٧.
.. وللوقوف على معالم تجربته وآرائه ورؤاه كان لنا معه هذا الحوار :
* متى بدأت رحلتك مع وإلى الشعر؟ ومن كان فيها الرفيق ومن كان فيها الموجّه؟
ــ رحلتي مع الشعر كانت مبكرةً وأنا على مقاعد الدراسة المتوسطة والثانوية، حيث المهرجانات الطلابية، واحتفالات المولد النبوي في مساجد مدينتي الفلوجة، وأول قصيدة نشرت لي عام ١٩٧٧ في مجلة التربية الإسلامية ولشدة فرحي بهذا النشر ما زلت أحتفظ بنسخة من المجلة، كان عمري وقتها ١٦ عامًا، ورفيقي الأول في الشعر أخي المرحوم محمد فرحان حمادي طيب الله ثراه، فقد كان الرفيق الصادق، والموجه الحاذق، فضلاً عن معلمي ومدرسي اللغة العربية في المراحل الدراسية الذين كان لهم أثر كبير في بلورة توجهي الشعري.
*إلى أي مدى على الشاعر وضع المستوى الثقافي للمتلقي في حسبانه ؟ أم إنه غير معني بذلك ؟
ــ لا يمكن للشاعر مهما كان مستواه أن يظلَّ حبيسَ عالمه وسجينَ محيطه، أعني أنَّ الشاعر يكتب لنفسه أولا ولأترابه ولمن حوله من المعنيين والمستهدفين بالكتابة، وعليه فإنَّ الشاعر معنيٌّ بثقافة المتلقي ، ولابدَّ له من العناية بما يقدم من إبداع لأنه سيكون أمام جمهورٍ يرصد غثه من سمينه، وينتقد بدراية وخبرة ما يصله وما يسمعه من شعر.
*هل ينضوي النتاج الشعري العمودي اليوم إلى تيار أدبي له من الملامح المشتركة والخصائص المتقاربة ما يجعله مؤهلاً للتقويم بالمقاييس المألوفة؟ وهل يعد ذلك ـ إن تحقق ـ ظاهرة صحية تدل على عافية شعرية، أم العكس ؟
ــ الشعر العمودي هو مجموع ما أنتجته قريحةُ الشعراء العرب على مدى تاريخهم الطويل، وقد صُنّف حسب العصور التي مرّ بها العرب فمنه الشعر الجاهلي، أو شعر ما قبل الإسلام، أو الشعر الأمويّ أو العباسي أو ما بعد ذلك، و لكنّ هذا الشعر في العصر الحديث خضع لاتجاهات مدرسية قد حدّثت في مضامينه دون أن يتخلى عن العمود المتمثل في الوزن والقافية، فقد بقي الشكل عموديًا خاضعًا للمقاييس المألوفة، إلا أن الموضوعات والمضامين أثّر فيها تطور الحياة و ثقافة الشعراء كأحمد شوقي، وعلي محمود طه، و الأخطل الصغير، و إلياس أبوشبكة والجواهري و عبد الأمير الحصيري وغيرهم والأخير أطلق على الشعر الذي كان يجري في الاتجاه الذي يراه الشعر العربي الحديث، وتلك لعمري تدل على ظاهرة صحية تتجسد بأصالة هذا الشعر والقدرة على التألق والبقاء بسمو ورفعة.
* أرى أن تعريف الشعر على أنه كلام موزون مقفى، وضع لما كان موجود من شعر آنذاك، والذي هو الابن الحتمي للبيئة والظرف، أليس من الظلم أن نخضع نتاج اليوم إلى ذات المعايير كشرط من شروط حيازة التصنيف ؟
ــ إن تعريف الشّعر على أنه كلام موزون مقفى هو التعريف الذي توافق عليه النقاد العرب وهو يصلح للانطباق على الشعر الذي جمعه الخليل بن أحمد الفراهيدي و تصنيف قصائده حسب علم العروض الذي ابتدعه في البحور الشعرية الخمسة عشرة وما استدركه به الأخفش في البحر السادس عشر في التفاعيل المبتكرة حسب إيقاعات ألفتها الأذن العربية قروناً وأصبح الخروج على هذه الدوائر يُعدّ خروجاً على الشعر و ما تلاه من مدارس أثّرت في محتواه و أغراضه وهذا الشكل ظلّ قائماً وسيظلّ كذلك في المستقبل . وما حصل من تغييرات في الأشكال نتيجة الإطلاع على نتاجات الشعوب الأخرى لا سيّما الغربية هي أشكال جديدة قد تصمد أو تنهار في يوم من الأيام فهي مازالت تحت الاختبار.
و قد تكون القصيدة التي تحررت من التزام عدد التفاعيل وعدم التزام القافية كما هي عليه في الشكل الكلاسيكي فيما أطلق عليها قصيدة الشعر الحر هي أقرب الأشكال إلى قصيدة العمود وقد نجد لها مسوغاً في استمرارها وبذلك فليس مطلوباً أن يطبّق تصنيف محدد واحد على النتاج الشعري بل إنّ الساحة مفتوحة للجميع و ليتنافس المتنافسون و الذي يثبت جدارة في حيازة رضا النفس البشريّة هو الشكل الذي سيتسع مداه في الحياة ويجد أنصاره الذين يملأون السّاحة .
* برأيك ، هل يشهد الواقع الثقافي العراقي تراجعا ً شعرياً؟ ما أسباب هذا التراجع ـ إنْ وجد ـ ومن المسؤول عن نهوضه وتقدمه ؟
ــ مشهد الواقع الثقافي العراقي على الرغم من الكم الهائل من النتاج الشعري الذي تعج به الأروقة الثقافية؛ إلا أنه مشهد تعتوره العديد من المتلازمات الرمادية التي تحيله في أحيان كثيرة إلى حالة من التقهقر والكساد والركود، وهو بلاشك يشهد حالة تراجع واضحة في المشهد الشعري ويعود هذا إلى أسباب عديدة منها: احتضان العديد من المنتديات لأشخاص أطلقوا على أنفسهم صفة (شاعر) وهم بعيدون كل البعد عن جمال هذه الصفة، ولكنّ الجوائز والهبات الكريمة والشهادات والدروع والأوسمة التي حصلوا عليها من جهات فقيرة بابداعها شجعتهم على تقديم ونشر نتاج بائس أزرى بالمشهد الشعري عموما، فضلا عن الصحف الكثيرة التي تعج بالنتاج الهابط، ووسائل التواصل الاجتماعي الذي جعل المشهد مزريًا، أضف إلى ذلك ما يقدمه النقاد من نصوص لا تمت إلى الإبداع بصلة ويكيلون لها عبارات المديح الذي يباع ويشترى، وليس ببعيد عنا تلك الخواطر السمجة التي تملأ الصحف، وتضج بها المنتديات والمنابر والتي يسميها أصحابها شعرا وهي لعمري في واد، والإبداع الشعري في واد غيره، وإصلاح كل هذا يحتاج إلى ثورة معرفية تصلح أذواق الناس وتدفن وإلى الأبد كل الألوان الباهتة الدخيلة على المشهد الشعري العراقي الرائع والكبير.
* ما رأيك في شيوع ظاهرة التغميض والإيهام والترميز واللامباشرة في النظم؟ وهل يتحمل العمود هذه الخصائص؟
ــ لا ريبَ أنّ ظاهرة الغموض ليست جديدة في الشّعر العمودي ، بل هي تكاد ترفع رأسها منذ سئل الشاعر العربي العبّاسي أبو تمام بـ( لماذا لا تقول ما يُفهم؟ و كان ردّه على السّائل لماذا لا تفهم ما يُقال ؟!)
فقد التبس على المتلقّي ربما بعض شعر أبي تمّام ، و الغموض الذي يلازم كتابة بعض القصائد التي يكتبها الشّعراء هو ظاهرة نجدها في الشّعر الذي يجتهد في صياغة تراكيب لغوية لكي تناسب ما يأتي به الشعراء من معان جديدة مبتكرة لا يستوعبها ما رثّ من تراكيب أو عبارات استهلكها الإستعمال و هذا الغموض هو الغموض الذي لا يُعَتّم المعنى و إنّما يشفّ بما أتى به من الصور الجديدة .
و بهذا فنحن لا ندعو الى الغموض أو التغميض حسب ما ورد في السؤال من أجل الغموض لأننا بذلك نفتعل التعمية التي تكون حاجزاً سميكاً يفتعله الشعراء لكي يقال عنهم بأنهم أتوا بالشيء الجديد وحقيقة الأمر هو أنّهم لا يُعبّرون إلا عن غموض و إيهام لا يعرف القارىء له رأسًا و ربّما حتى كاتب النصّ وحين يكون الغموض من أجل الغموض ينقطع التواصل بين المُرسِل و المُرسَل إليه .
وفي الغالب فإنّ الشّعراء الذين لا يمتلكون أدوات التعبير هم الذين يقعون في مصيدة الغموض، والغموض المتَعَمّد لا يفصح عمّا يُريد .
وقد كان من أهداف مدرسة أبوللو في الشعر هو البحث عن استعمال اللغة استعمالاً جديداً و الميل الى التعبير بالرمز و الأسطورة و رافق ذلك الإستعمال و الإتجاه غموض لدى المتلقي الذي لم يكن مؤهّلاً لاستيعاب هذه اللغة الجديدة المحمّلة بإشارات و إحالات و رموز جدّدت دماء القصيدة العربية كي تواكب العصر الذي نعيش فيه، وتعود لها جذوتُها في نفوس القُرّاء. والشعر العربي العمودي إن لم يُحدّث نفسه، ويتفاعل مع ما يجري من تطوّر في العلوم و التكنولوجيا في الحياة لا يعود زاداً تتقبّله أذواق الناس ، و لن تجد كثيراً منهم مُتحمّسًا لحضور الجلسات الشّعرية .
*بماذا تفسر إحجام النقد عن تناول النص العمودي بالبحث والتحليل ؟
ــً النقد و هنا نعني به الأدبي ،في تقديري ، لا يزدهر الا في تناوله النصوص من القصيدة العمودية فهي مكان اشتغاله الذي اعتاد عليه منذ أن نُصِبت له خيمة في سوق عكاظ ، و على ما يبدو أنّ توجيه أنظار القراء و الشعراء نحو قصيدة الشعر الحرّ التي ولدت علي يدي روّادها بدر شاكر السيّاب و نازك الملائكة وقصيدة النثر التي التفّ حول رايتها الكثير من شباب الأمة العربية المعنيين بالشّعر وذلك لاندفاع كلّ جيل بطبيعته لاكتشاف هذا الزّائر الجديد وقد انقسمت الساحة الأدبية و دارت معركة بين الأشكال الشعرية وخطف الصّراع الدّائر عددًا من أنصار قصيدة العمود فلكلّ جديد لذّة فأخذ الكثير من المتطلعين من الشباب الى أفق جديد يتجهون نحو ما ينشر من قصيدة الشعر الحرّ و النّثر و انقسم كذلك النّقاد حول ما يدور في الساحة الشّعرية وداخلتهم الخشية من أن يوصموا بالتخلّف عن ملاحقة الأشكال الجديدة فانحاز للجديد منهم الكثير و كذلك فإنّ انفتاح صفحات الصحف و المجلات الثقافية في الوطن العربي لهذا الجديد جعل حماس النقاد يقلّ عن تناول النص العمودي بالبحث و التحليل بعد أن نافسته نصوص أشكال جديدة أوقدت جذوة الصراع في البدايات بين القديم والجديد حتى بدأ شبه تعايش بين هذه الأشكال، وأنَّ إحجام النقد عن تناول النص العمودي بالبحث و التحليل قد يكون أحياناً لعلّة في النصّ ذاته لما انطوى عليه من مضامين لم تهبّ عليها رياح الحداثة والتجديد ، ولما شاع بأنّ هذا الشكل قد استنفدت الحياة الحاجة له ولم يَعد مؤهّلاً لاستيعاب ضرورات التحول في مظاهر ما يقع تحت الأنظار .
وفي تقديري لم تكن نظرة النقاد موضوعية في رؤيتها فالنقد يتطور بتطوّر ميدان عمله و اشتغاله كما أنّ له دورًا مشهودًا في دفع القصيدة لتلافي ما يعتورها من نقص، وتجديد ذاتها لتواكب الذوق وتعبّر عن هموم الجمهور الفنية والنّفسية، وإنّ الأوضاع الإقتصاديّة انعكست على توجّهات النقاد فمنهم من انصرف لسدّ متطلبات العيش في الالتحاق بأعمال بعيدة عن صلب عملهم .
*إلامَ تعزو تراجع دور الشعر والشاعر في المجتمع وتأثيره في قضاياه ؟
ــ كيف لا يتراجع دور الشعر في المجتمع وقد أفرغه ناظمه من محتواه النبيل، وأبعده عن رسالته السامية، وشرّق به وغرّب في أسواق النخاسة والتكسب غير المشروع.
كيف لا يتراجع وقد جعل منه بعض الشعراء سلعة في سوق النفاق تباع وتشترى، وتتلون كل وقت وحين حسب الطلب.
وكيف لا يتراجع وقد فقد كل الجماليات الإبداعية التي تجعله مؤثرا في المجتمع، وأصبح جسدا بلا روح خاليا من روح الشعر الحقيقي متعكزا على قوالب بالية سمجة تأنف منها الأسماع، ولا تستسيغها الأذواق.
الشعر نسمات روحية صادقة، وطيف الهام شفيف، ورسالة أدبية وتربوية، ومدرسة أخلاق كبيرة، وحب عذري، وجمال أخاذ، إذا فقدها أصبح كلمات مبعثرة وهراء لا طائل منه، ولا يحسب له أي حساب، وليس له تأثير يذكر في المجتمع الفاضل.
* هل نالت تجربتك الشعرية حقها في التقويم، ومكانها الملائم في خارطة الشعر؟
ــ أنا راض عن تجربتي الشعرية المتواضعة، وسعيد بما استطعت أن أقدمه فيها، وإنْ كنت أطمح إلى تقديم المزيد، وفي جعبتي فعلا الكثير من المحطات التي لم تنشر، وسأجد لها طريقا للنشر يليق بها.
وأنا أؤمن بأن الشاعر ابن مجتمعه، وأنه معني بما يدور في محيطه من أحداث، وأنه لا يكتب لنفسه فقط، وله زملاء في هذا الجانب يحبهم ويحبونه، ويطلعهم على نتاجه، كما يطلعونه على نتاجهم، وقد تناول شعري العديد من الزملاء في داخل الوطن وخارجه بالبحث والدراسة ومازالوا، وهذا يكفيني وأجدني منتشيا بما حصل، وأظن أنني أوجدت لشعري مكانة في خارطة الشعر الرصين بكل مجاميعي الشعرية التي طبعت بدون أي غرور وهذا حسبي.
*كيف تقيّم دور الشبكات الإلكترونية في إثراء المشهد الشعري وتأمين الرواج للمنتج الأدبي؟
لــ لعبت الشبكات الإلكترونية دوراً مهماً في إظهار وجه المشهد الشعري بإيجابياته وسلبياته، فقد نجحت إلى حد كبير في أن تكون المنبر الذي يرتاده الكثير الكثير ممن يرغب في نشر نتاجه وعرضه على المشاركين والمتفاعلين في هذه الشبكات، وهي كأي وسيلة من وسائل التواصل يُحسن بعضنا استخدامها في بعض الأحيان، وقد يسيء الكثير منا هذا الاستخدام.
هذه الشبكات استطاعت أن توصل النتاج الأدبي لكبار المبدعين لمن يجهله ولا يعرفه، وكانت حلقة الوصل بين الأدباء والشعراء، نستطيع من خلالها الاطلاع على تجارب غيرنا وبالمقابل يطلع غيرنا على تجاربنا، وهذه من محاسن هذه الشبكات الإلكترونية.
ولها من العيوب والمساوئ ما لا يعد ولا يحصى فقد طالعتنا صفحاتها بالغث والركيك من المشاركات التي أزرت بالمشهد الأدبي، وبرز فيها أشخاص لا يمتون بصلة لأروقة الثقافة والإبداع ونراهم يتفاخرون بمنتج بائس يتطاولون به على القمم الرائعة والمبدعة، ولو جمعنا ما نشر على صفحات هذه الشبكات من نتاج لضاقت به المجلدات الضخمة، ولو غربلناه بدراسة وإنصاف لما بقي منه إلا النزر اليسير من هذا الكم الهائل، وسقيا لأيام المكتبات العامة، والكتاب الورقي الرصين.
*الإنسان جزء لا يتجزأ من البيئة، هل أثرت البيئة التي نشأت فيها على تجربتك الشعرية؟
ــ البيئة عامل كبير ومهم في نشأة أي تجربة أدبية وشعرية، والشاعر ابن بيئته، وقد أثرت البيئة التي عشت فيها كثيرا على تجربتي الشعرية، وبدا ذلك واضحاً جلياً فيما قدمت من نتاج شعري، فقد تضمنت قصائدي العديد من الشواخص المهمة التي عاشت في تلك البيئة، والموضوعات التي تناولتها قصائدي هي الأخرى كانت محاكاة للمشاهد البيئية عينها، حتى المفردة كان للبيئة التي عشتها تأثير واضح عليها من حيث الصقل والتهذيب، وبلورتها بشكل بائن جلي، فالبيئة بكل تفاصيلها لها أثرها الواضح في تجربتي الشعرية.
* كيف يمكن الحد من تأثير النكبات السياسية والأمنية على البيئة الثقافية وحمايتها من التلوث بمخلفات هذه الأزمات؟
أولاً يجب سبر غور هذه النكبات وفهمها على حقيقتها، ومن ثم دراستها من جميع جوانبها وبذلك الوقوف بوجهها والتحصن منها بما يقابلها من أخلاقيات مجتمعية سامية، وتفنيد مزاعمها للحد من كل تأثير لها على البيئة الثقافية، ولايتم ذلك بالعزلة والبعد عن الواقع الذي استحوذت عليه هذه النكبات، بل بدخول مساحتها ومعايشتها بطريقة يشوبها حذر المثقف الحاذق الذي تعنيه بيئته الثقافية ويحافظ عليها بحكمة وصبر.
*برأيك ماهو المعيار الحقيقي لتقييم قصيدة النثر، وهل ترى أنها تمكنت من تأسيس المكانة الفاعلة لنفسها في المشهد الشعري؟
ـــ قبل كل شيء يجب أنْ ننطلق من تأسيس علمي مفاده أنّ مصطلح (قصيدة) بمعناه في الفكر العربي والموروث الأدبي لا ينطبق على هذا اللون من الإبداع النثري، وهذا ما بينه العديد من النقاد في الجانب المقابل لمناصري هذا المصطلح، وقد سماها بعضهم بـ(النثر العمودي) نسبة إلى الاتجاه العمودي في كتابتها وليس الاتجاه الأفقي كما هو معروف بالنثر التقليدي.
وعليه تكون معايير تقييم النثر العمودي (قصيدة النثر) منطلقة من تصور شكلها النثري، وعندئذ تكون (كثافة الصورة وجرس الإيقاع وحداثة الفكرة ورشاقة اللفظ ورصانة الأسلوب… إلخ) معايير مهمة في تقييم قصيدة النثر.
أما مسألة تأسيس مكانتها الفاعلة في المشهد الشعري فهذا يتماهى مع التجاذبات التضادية في قبولها إبداعا شعريا أو تطورا نثريا، ولهذا ما زالت في نظر الاتجاه الكلاسيكي أنها قلقة مضطربة في انتمائها الشعري، أما الاتجاه الحداثي فيعدها قطب الرحى في التطور الإبداعي الأدبي، على ألّا ننسى طبيعة الموضوعات التي تطرحها (قصيدة النثر) ونظرة أصحابها الفكرية إلى الحياة ومتعلقاتها الموجودة والمخفية.
*كيف تصف المشهد الثقافي والأدبي في الأنبار عموما، وفي الفلوجة على وجه الخصوص؟
ــ المشهد الثقافي في الأنبار جميل ورائع، ويشهد تطوراً كبيراً في التألق الثقافي الذي تعددت جوانب الإبداع فيه وتنوعت بأروقته النشاطات، هذا المشهد تظافرت جهود مختلفة للارتقاء به وجعله مهوى أفئدة المعنيين والمبدعين، فهناك الكثير من المراكز والمنظمات والاتحادات والملتقيات الثقافية التي تقدم فعالياتها بصورة منتظمة للناس، فلا يكاد يمر يوم أو اسبوع أو شهر إلا وتجد فعالية هنا وندوة هناك، فضلا عن الأصبوحات والأمسيات التي تقام أسبوعيا.
وفي الأنبار خزين معرفي كبير وفيها أدباء لهم في الوسط الثقافي مكانة مرموقة، وقد أثروا المشهد الأنباري بما قدموه من جهد معرفي كبير، وهناك كتب تطبع، ومحلات وصحف تصدر تعنى بالجانب الثقافي في الأنبار.
فالمشهد الثقافي بالرغم من كل الصعوبات التي تعترض طريقه، والذي هو بحاجة إلى الكثير من الدعم المادي والمعنوي إلا أنه يسير بخطا واثقة ورصينة.
*هل أخذت المرأة الأنبارية فرصتها لولوج مجالات الأدب والفن، أم مازالت تواجهها العقبات في ذلك؟ وما رأيك في النص النسوي الأنباري؟
ــ المتتبع للمشهد الثقافي والأدبي في الأنبار يجد بوضوح تام العديد من نقاط الضوء الإبداعية النسوية، فقد استطاعت المرأة الأنبارية ان تتخطى كل الحواجز وأن تقدم العطاء الرائع، وتمكنت من ولوج الوسط الثقافي وشاركت في الكثير من النشاطات المجتمعية والأدبية، وحصلت على عضوية العديد من الاتحادات والنقابات، وظهرت كتب متنوعة تحمل أسماء المرأة الأنبارية المبدعة، فضلا عن قيادة المرأة لبعض المنظمات التي تعنى بالثقافة والأدب، فللمرأة الأنبارية اليوم حضور على منصات الأدب، ومنابر الثقافة، ووصل صدى نتاجها إلى دول عديدة في المعمورة، والنص النسوي الأنباري له مساحته التي يتألق فيها ويستطيع في أحيان عديدة لفت أنظار النقاد الذين تناولوه بالدراسة، وهو بكل تأكيد بحاجة إلى فضاءات واسعة للإبداع والتألق.
* هل ساهم الاتحاد بصفته مؤسسة رسمية معنية بالثقافة في رعاية ودعم الحراك الثقافي في الأنبار؟
ــ استطاع اتحاد الأدباء والكتاب في الأنبار من فتح مقرات له ولأول مرة في العديد من أقضية المحافظة، فقد فتح مقرا له في مركز الرمادي، والفلوجة، وهيت، وحديثة، وأقام ومازال يقيم وبشكل مستمر نشاطاته الأسبوعية في هذه المقرات وبشكل منتظم مدروس،
واستقطب في هذه النشاطات الأدباء الرواد في المحافظة فضلا عن الأدباء والمثقفين الشباب الذين وجدوا لهم متنفسا إبداعيا في مثل هذه الملتقيات الأدبية، مما زاد عدد الأدباء الذين يحملون هوية الاتحاد ، كما أسس الاتحاد منتدى الخنساء النسوي كنشاط يعنى بإبداع المرأة الأنبارية، وتوافد إلى الأنبار الكثير من الأسماء الثقافية ومن محافظات عراقنا الحبيب ليقدموا تجاربهم الأدبية في هذه المحافظة المعطاء، وشارك بالمقابل أدباء الأنبار في نشاطات متعددة أقيمت في محافظات الوطن.
ولا يخلو نشاط في المحافظة من مشاركة لاتحادنا فيه، ولنا تواصل جميل مع كل المنظمات والمراكز العاملة في مجالي الثقافة والأدب.
ماشاء الله…. تحياتي للشاعر الكبير محمود الفرحان
طلال