مقال

وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا

تامر محمد عزت | القاهرة

المنتحر لا يعود من انتحاره ليخبرنا لماذا انتحر ، وهناك الكثير ممن يحلو لهم من التفاسير والتحاليل عن الفرد في حد ذاته ، في حين أنهم قد يكونوا السبب في هذا الفعل الشنيع وهم لا يعلمون.

لن أتكلم بشكل أكاديمي وعلمي عن الإنتحار والدوافع والنماذج المختلفة واضطراب ميزان الهرمونات بالمخ ، فهؤلاء قُدّر لهم المرض واستعانوا بالصبر والعلاج..ولكن الحديث القادم عن دراسة تحليلية في المعتقدات والبحث الحر وعلاقة المجتمع بهؤلاء.

في البداية.. الإنتحار عمل فردي ولكنها ظاهرة اجتماعية في نفس الوقت ، والمحللين لهم زوايا أخرى غير التي نعرفها في مجتمعنا المحدود المكان والزمان.. فهؤلاء يبحثون عن الجنس واللون وخطوط العرض والطول التغييرات السياسية والاقتصادية والدينية والحالة الاجتماعية.

في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا تم القيام بدراسة حالات الانتحار وعمل العديد من الجداول والمقارنات بالأرقام كما قلنا سابقا.. وعند المعتقدات الدينية وجدوا أن ميل البروتستانت أكثر تعرضا للانتحار من الكاثوليك..وذلك بسبب روح البحث الحر التي تشجعها تلك العقيدة ، وأن البحث الحر ليس هو ذاته سوى نتيجة لسبب آخر ، وهذا السبب يندرج تحت بند التفكير ، فإن التفكير ينطفئ كلما تجمد الفكر والفعل على هيئة عادات آلية ولا يستيقظ إلا كلما تحللت العادات الجاهزة وتفككت وهو لا يطالب بحقوقه في مواجهة الرأي العام إلا إذا لم يعد لدى هذا الرأي العام القوة ذاتها.

والناس بوجه عام لا يتطلعون إلى التعلم إلا في النطاق الذي يتحررون فيه من التقليد ، لأن مادام هذا التقليد مسيطرًا على العقول فهو كاف لكل شيء ولا يتسامح بسهولة مع أية سلطة منافسة.

وهنا يهبط السؤال فوق الرأس : هل تزعزع المعتقدات الشائعة قد تؤدي إلى الانتحار؟
وسؤال آخر :
هل صحيح ان الحاجة إلى التعليم ضمن النطاق الذي تتزامن فيه هذه الحاجة مع ضعف الإيمان الديني العام تتطور على غرار الإنتحار ؟

هناك رأي قديم في أن اليهودية هي العقيدة التي ينتحر الناس فيها أقل مما في بقية العقائد ومع ذلك التعليم فيها أوسع انتشارا.

لنقترب أكثر من المنطقة الشائكة و الغرفة المحصنة ونقول أن الإنسان قد يسعى إلى الإطلاع وينتحر لماذا ؟ لأن الجزء الديني لديه قد فقد تماسكه ..لا ينتحر لأنه تعلم وليست المعرفة التي اكتسبها هي التي خلخلت عقيدته.. ولكن لأن عقيدته قد تخلخلت بسبب الحاجة إلى المعرفة قد استيقظت لديه.

وهنا وجب التنويه إلى أمر هام وحيوي.. ليس معنى أنه علم وعرف لابد أن ينتحر.. فالعلم قد فتح عليه أبوابا كثيرة وطرق عدة واستنار ويجب عليه توعية من حوله.. وهنا دور العائلة والمجتمع.

العائلة تمثل واقيا حصينا من الإنتحار فإنها تقي منه كلما كانت أصلب تكوينا ، يتغير الإنتحار تغيرا عكسيا مع درجة الاندماج المجتمع العائلي والديني والسياسي.

هل تعلم ان الثورة تؤجج المشاعر الجماعية وتثير الروح الوطنية والولاء السياسي والقومي ؟ لذلك الفرد يفكر أقل بنفسه ويفكر أكثر بالشيء المشترك في وسط هذه الهزة الاجتماعية القوية.

لذلك نرى أن حالات الإنتحار قد تنعدم في التيارات السياسية والجماعات والأحزاب المتنوعة الأهداف ..لأن عندما يكون المجتمع مندمجًا بقوة ، يضبط الأفراد داخل فلكه لأنه يعتبرهم بأنهم موجودون من أجل خدمته ولا يسمح لهم بالتالي أن يتصرفوا حسب أهوائهم و أوهامهم.

الحياة لا تُطاق إلا إذا تبين المرء فيها مبررًا لوجوده.

لذلك عندما تحدث الأزمات الصناعية أو المالية فإن حالات الانتحار تزيد لأنها أزمات أي أنها اضطرابات في النظام الجمعي نتيجة لعدم التوازن بين الاستهلاك والتعويض.

وأخيرًا ، كلما ضعف ارتباط الفرد بالجماعات التي ينتمي إليها كلما زاد التعلق بذاته ، مما يؤدي إلى البحث الحر ، وخلخلة في عقيدته وثوابته وخاصة إذا لم يتواجد أي مرجع لردعه أو تنويره ، فيغوص في ظلمات بعضها فوق بعض ويُزلزل زلزالًا شديدًا ولا يُسلم بأية قواعد سلوك إلا بتلك التي القواعد التي تخدم منافعه الخاصة ثم يؤدي إلى الاهتمام بالأنا و بإسراف شديد ، وعندها يصبح في مواجهة المجتمع ثم يؤهل ذاته للانتحار الناتج عن نزعة فردانية مفرطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى